صفحة جزء
[ ص: 185 ] مسألة : ( السابع : عقد النكاح لا يصح منه ، ولا فدية فيه ) :

وجملة ذلك : أن المحرم إن كان رجلا لا يصح أن يتزوج بنفسه ولا وكيله ولا وليه ، بحيث لو وكل وهو حلال رجلا لم يجز أن يزوجه بعدما يحرم الموكل ، فأما إذا وكل وهو حرام من زوجه بعد الحل فقال القاضي وابن عقيل : يجوز ذلك .

فعلى هذا لو وكل وهو حلال ثم أحرم ثم حل جاز أن يزوج الوكيل بذلك التوكيل المتقدم وأولى ; لأن العبرة بحال العقد ، ولأن التصرف بالوكالة الفاسدة جائز ; لكن هل يجوز الإقدام على التوكيل ؟

وإن كانت امرأة لم يجز أن تزوج وهي محرمة بإذن متقدم على الإحرام أو في حال الإحرام ; لكن إذا أذنت حال الإحرام ... وذلك لقوله تعالى : ( فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ) ... .

وعن عثمان بن عفان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب " رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي ، وفي رواية عن نبيه بن [ ص: 186 ] وهب أن عمر بن عبيد الله أراد أن يزوج ابنه وهو محرم فنهاه أبان ، وزعم أن عثمان حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " المحرم لا ينكح ولا ينكح " وفي رواية : " أراد ابن معمر أن ينكح ابنه بنت شيبة بن جبير فبعثني إلى أبان بن عثمان - وهو أمير الموسم فأتيته فقلت : إن أخاك أراد أن ينكح ابنه فأراد أن يشهدك ذاك ، فقال : ألا أراه عراقيا جافيا ; إن المحرم لا ينكح ولا ينكح ، ثم حدث عن عثمان بمثله يرفعه " رواهما أحمد بإسناد صحيح .

[ ص: 187 ] وفي رواية عن نافع عن نبيه مثله ، قال نافع : وكان ابن عمر يقول هذا القول ، ولا يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، رواه سعيد بن أبي عروبة في المناسك .

وعن أيوب بن عتبة ثنا عكرمة بن خالد ، قال : " سألت عبد الله بن عمر عن امرأة أراد أن يتزوجها رجل - وهو خارج من مكة - فأراد أن يعتمر أو يحج ، فقال : لا يتزوجها وهو محرم ، نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه " رواه أحمد وأبو بكر النيسابوري .

وروى سعيد ثنا عمرو بن الحارث عن أيوب بن موسى عن عكرمة بن خالد المخزومي أن ابن عمر نهاه أن ينكح وهو محرم .

[ ص: 188 ] وروى النفيلي ثنا مسلم بن خالد الزنجي عن إسماعيل عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المحرم لا ينكح ولا ينكح " قال النفيلي : هذا حديث منكر ، وهذا رجل ضعيف ؛ الزنجي ، رواه الخلال عن الميموني عنه في العلل .

وعن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يتزوج المحرم ولا يزوج " رواه الدارقطني .

وأيضا فقد عمل بذلك الخلفاء الراشدون وغيرهم من أكابر الصحابة ، فعن غطفان بن طريف المري أن أباه طريفا تزوج وهو محرم ، فرد عمر بن [ ص: 189 ] الخطاب نكاحه .

وعن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول : " لا ينكح ولا يخطب على نفسه ولا على غيره " رواهما مالك وغيره .

وعن الحسن أن عليا قال : " من تزوج وهو محرم نزعنا منه امرأته ولا نجيز نكاحه " رواه ابن أبي عروبة وأبو بكر النيسابوري من حديث قتادة عنه .

وعن شوذب مولى زيد بن ثابت : " أنه تزوج وهو محرم ، ففرق بينهما زيد بن ثابت " رواه عبد الله بن أحمد ، وقال : قرأت على أبي : يتزوج المحرم ؟ [ ص: 190 ] قال : لا يتزوج ، قال : يروى عن عمر وعلي : يفرق بينهما ، وزيد بن ثابت قال : يفرق بينهما ، وابن عمر قال : لا ينكح ولا ينكح .

وروي عن عثمان بن عفان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا ينكح المحرم ولا ينكح " .

وهؤلاء أكابر الصحابة لم يقدموا على إبطال نكاح المحرم والتفريق بينهما إلا بأمر بين وعلم اطلعوه ربما يخفى على غيرهم ، بخلاف من نقل عنه إجازة نكاح المحرم ، فإنه يجوز أن يبني على استصحاب الحال .

فإن قيل : فقد روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم : " تزوج ميمونة وهو محرم " رواه الجماعة ال ر ، وفي رواية للبخاري : " وبنى بها وهو حلال وماتت بسرف " وللبخاري تعليقا : " تزوج النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء ميمونة وهو حلال وماتت بسرف " .

[ ص: 191 ] وفي رواية للنسائي : " جعلت أمرها إلى العباس فأنكحها إياه " وفي رواية عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم : " تزوج ميمونة بنت الحارث وهما محرمان " رواه أحمد من حديث حماد بن سلمة عن حميد عنه .

وعن الشعبي وعطاء وعكرمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تزوج ميمونة وهو محرم " ولفظ الشعبي : احتجم وهو محرم وتزوج الهلالية وهو محرم " رواهن سعيد .

وعن أبي هريرة وعائشة ... ، وعن عكرمة عن ابن عباس : " أنه كان لا يرى به - يعني بنكاح المحرم - بأسا ، ويحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج [ ص: 192 ] ميمونة بنت الحارث وهو محرم بسرف ، وبنى بها لما رجع بذلك الماء " رواه سعيد بن أبي عروبة عن يعلى بن خليفة عنه .

ويؤيد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر عمرة القضية من ذي الحليفة ، فإنه لم يجزها بغير إحرام قط ، وكانت ميمونة بمكة ، وقد .... روي أنه قال لأهل مكة : " دعوني أعرس بينكم لتأكلوا من وليمتها ، فقالوا : لا حاجة لنا في وليمتك ، فاخرج من عندنا ، فخرج حتى أتى سرفا وأعرس بها " .

قيل عنه أجوبة :

أحدها : أنه قد روى يزيد بن الأصم عن ميمونة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وهي حلال ، قال : وكانت خالتي وخالة ابن عباس " [ ص: 193 ] رواه مسلم وابن ماجه ، وفي رواية لأحمد والترمذي ، والبرقاني عن يزيد عن ميمونة : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها حلالا وبنى بها حلالا ، وماتت بسرف فدفناها في الطلحة التي بنى بها فيها " وفي رواية لأبي داود : " تزوجني ونحن حلالان بسرف " .

وعن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله : " تزوج ميمونة حلالا وبنى بها حلالا وكنت الرسول بينهما " . [ ص: 194 ] رواه أحمد والترمذي ، وقال : حديث حسن ، ولا نعلم أحدا أسنده غير حماد بن زيد عن مطر ، ورواه مالك عن ربيعة عن سليمان أن النبي صلى الله عليه وسلم ، مرسلا ، ورواه سليمان بن بلال عن ربيعة مرسلا ، وهذه الرواية مقدمة على رواية ابن عباس لوجوه :

أحدها : أنها هي المنكوحة وهي أعلم بالحال التي تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها هل كانت في حال إحرامه أو في غيرها من ابن عباس .

الثاني : أن أبا رافع كان الرسول بينهما وهو المباشر للعقد فهو أعلم بالحال التي وقع فيها من غيره .

الثالث : أن ابن عباس كان إذ ذاك صبيا له نحو من عشر سنين وقد يخفى على من هذه سنه تفاصيل الأمور التي جرت في زمنه ; أما أولا : فلعدم كمال الإدراك والتمييز ، وأما ثانيا : فلأنه لا يداخل في هذه الأمور ولا يباشرها ، وإنما يسمعها من غيره ، إما في ذلك الوقت أو بعده .

[ ص: 195 ] الرابع : أن السلف طعنوا في رواية ابن عباس هذه ، فروى أبو داود عن سعيد بن المسيب قال : وهم ابن عباس في قوله : " تزوج ميمونة وهو محرم " .

وقال أحمد في رواية أبي الحارث وقد سئل عن حديث ابن عباس : هذا الحديث خطأ ، وقال في رواية المروذي : أذهب إلى حديث نبيه بن وهب ، فقال له المروذي : إن أبا ثور قال لي : بأي شيء تدفع حديث ابن عباس ؟ فقال أبو عبد الله : الله المستعان ، قال سعيد بن المسيب : وهم ابن عباس ، وميمونة تقول : تزوج وهو حلال ، وقال : إن كان ابن عباس ابن أخت ميمونة فيزيد بن الأصم ابن أخت ميمونة ، وقال أبو رافع : كنت السفير بينهما .

وعمر بن الخطاب يفرق بينهما ، هذا بالمدينة لا ينكرونه .

[ ص: 196 ] وقال ميمون بن مهران : أرسل إلي عمر بن عبد العزيز أن سل يزيد بن الأصم كيف تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة ، فسألته فقال : " تزوجها وهو حلال " رواه سعيد ، وقال عمرو بن دينار : أخبرت الزهري به - يعني بحديثه - عن عمرو بن دينار عن ابن عباس ، فقال : " أخبرني يزيد بن الأصم - وهي خالته - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال " رواه مسلم .

فهذا سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز والزهري ، وهو قول أبي بكر بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار وعامة علماء المدينة ، وهم أعلم الناس بسنة ماضية ، وأبحثهم عنها ، قد استبان لهم أن الصواب رواية من روى أنه تزوجها حلالا ، وكذلك سليمان بن يسار يقول ذلك وهو مولاها .

الخامس : أن الرواية بأنه تزوجها حلالا كثيرون ; فهي منهم ، وأبو رافع [ ص: 197 ] وعن ميمون بن مهران عن صفية بنت شيبة ، وكانت عجوزا أن النبي صلى الله عليه وسلم " ملك ميمونة وهو حلال وبنى بها وهو حلال وخطبها وهو حلال " ذكره القاضي عن ميمون بن مهران قال : أتيت صفية ابنة شيبة امرأة كبيرة فقلت لها : أتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم ؟ قالت : لا والله ، ولقد تزوجها وهما حلالان " رواه ابن أبي خيثمة ورواه من التابعين خلق كثير .

وأما الرواية الأخرى فلم ترد إلا عن ابن عباس ، وعن أصحابه الذين أخذوها عنه ، قال ابن عبد البر : ما أعلم أحدا من الصحابة روي عنه أنه عليه السلام نكح ميمونة وهو محرم إلا ابن عباس .

وإذا كان أحد الخبرين أكثر نقلة ورواة ، قدم على مخالفه ، فإن تطرق الوهم والخطأ إلى الواحد أولى من تطرقه إلى العدد ، لا سيما إذا كان العدد أقرب إلى الضبط وأجدر بمعرفة باطن الحال .

السادس : أن في رواية عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهما محرمان ، وأن عقد النكاح كان بسرف ، ولا ريب أن هذا غلط ، فإن عامة [ ص: 198 ] أهل السير ذكروا أن ميمونة كانت قد بانت من زوجها بمكة ولم تكن مع النبي صلى الله عليه وسلم في عمرته ، فإنه لم يقدم بها من المدينة ، وإذا كانت مقيمة بمكة فكيف تكون محرمة معه بسرف ، أم كيف وإنما بعث إليها جعفر بن أبي طالب خطبها ، وهو يوهن الحديث ويعلله .

السابع : أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها في عمرة القضية في خروجه ، ورجع بها معه من مكة ، وإنما كان يحرم من ذي الحليفة فيشبه أن تكون الشبهة دخلت على من اعتقد أنه تزوجها محرما من هذه الجهة ، فإن ظاهر الحال أنه تزوجها في حال إحرامه .

أما من روى أنه تزوجها حلالا فقد اطلع على حقيقة الأمر وأخبر به ، فإما أن يكون تزوجها قبل الإحرام أو بعد قضاء عمرته ، لا سيما ومن روى أنه تزوجها قبل الإحرام معه مزيد علم .

وقد روى مالك عن ربيعة عن سليمان بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث مولاه أبا رافع ورجلا من الأنصار ، فزوجاه ميمونة بنت الحارث ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة قبل أن يخرج " ورواه الحميدي عن عبد العزيز [ ص: 199 ] بن محمد عن ربيعة عن سليمان بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث العباس بن عبد المطلب ، وأبا رافع فزوجاه بسرف وهو حلال بالمدينة .

وهذا فيه نظر ، وهذا الحديث وإن كان مرسلا فهو يقوى من جهتين :

إحداهما : أن سليمان بن يسار هو مولاها ، فمثله قد يطلع على باطن حالها ، ومعه مزيد علم خفي على غيره .

الثاني : أنه هو الذي روى حديث أبي رافع عنه كما تقدم ، وأهل الحديث يعدونه حديثا واحدا أسنده سليمان تارة ، وأرسله أخرى ، فيعلم أنه تلقى هذا الحديث عن أبي رافع وهو كان الرسول في النكاح .

وقد روى يونس بن بكير عن جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران عن يزيد بن الأصم قال : " تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو حلال ، بعث إليها الفضل بن العباس ورجل معه فزوجوه إياها " وهذا يوافق الذي قبله في تقدم النكاح ، ويخالفه في تسمية أحد الرجلين .

فإن قيل : فقد تقدم في رواية أبي داود من حديث حماد بن سلمة عن [ ص: 200 ] حبيب بن الشهيد عن ميمون بن مهران عن يزيد بن الأصم عن ميمونة قالت : " تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن حلالان بسرف " وفي رواية : " بسرف ونحن حلال بعدما رجعنا من مكة " رواه أحمد ، وهذا لا يمكن إلا بعد العمرة وهو قافل من مكة إلى المدينة .

وقد روى الأوزاعي قال : حدثنا عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم " تزوج ميمونة وهو محرم " قال سعيد بن المسيب : وهم ابن عباس ، وإن كانت خالته ، وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما حل . رواه ابن عبد البر .

وقال ابن إسحاق : حدثني نفر عن ابن المسيب أنه قال : " هذا عبد الله بن عباس يزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نكح ميمونة وهو محرم ، وكذب ، وإنما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فكان الحل والنكاح جميعا فشبه ذلك على الناس " .

وهذا يدل على أن من روى أنه تزوجها حلالا اعتقد تأخر العقد عن الإحرام [ ص: 201 ] وابن عباس أخبر بوقوعه قبل ذلك ، فيكون هو الذي قد اطلع على ما خفي على غيره ، يؤيد ذلك ما روى سنيد بن الحباب بن أبي معشر عن شرحبيل بن سعد قال : لقي العباس بن عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجحفة حين اعتمر عمرة القضية ، فقال له العباس : يا رسول الله تأيمت ميمونة بنت الحارث بن حرب بن أبي رهم بن عبد العزى ، فهل لك في أن تزوجها ، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم ، فلما أن قدم مكة أقام ثلاثا فجاءه سهيل بن عمرو في نفر من أصحابه من أهل مكة ، فقال : يا محمد اخرج عنا ، اليوم آخر شرطك ، فقال : دعوني أبتني بامرأتي وأصنع لكم طعاما ، فقال : لا حاجة لنا بك ولا بطعامك ، اخرج عنا ، فقال له سعد : يا عاض بظر أمه أرضك وأرض [ ص: 202 ] أمك دونه ، لا يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يشاء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعهم فإنهم زارونا لا نؤذيهم ، فخرج فبنى بها بسرف " .

وروى ابن إسحاق قال : حدثني أبان بن صالح وعبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد وعطاء عن ابن عباس : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة بنت الحارث في سفرته في هذه العمرة وكان الذي زوجه العباس بن عبد المطلب ، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا فأتاه حويطب بن عبد العزى بن أبي قيس بن عبدود في نفر من قريش ، وكانت قريش قد وكلته بإخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة ، فقالوا : قد انقضى أجلك فاخرج عنا ، فقال لهم : لو تركتموني فعرست بين أظهركم وصنعنا طعاما فحضرتموه ؟ فقالوا : لا حاجة لنا بطعامك فاخرج عنا ، فخرج وخلف أبا رافع مولاه على ميمونة حتى أتاه بها بسرف ، فبنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم هنالك " .

وقد ذكر البخاري بعض هذا الحديث تعليقا فقال : وزاد ابن إسحاق : حدثني ابن نجيح وأبان بن صالح عن عطاء ومجاهد عن ابن عباس : تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة في عمرة القضاء .

فقد اضطربت هذه الروايات في وقت تزوجه ، فمن قائل أنه تزوجها قبل [ ص: 203 ] الإحرام ، ومن قائل عقب الحل بمكة ، ومن قائل بسرف وهما حلالان ; إما قبل الإحرام أو بعد رجوعه إلى المدينة ، ثم أجود ما فيها حديث يزيد بن الأصم عن ميمونة ، وحديث سليمان بن يسار عن أبي رافع ، وقد رويا مرسلين من وجوه هي أقوى من رواية من أسند ، وهذه علة فيهما إن لم توجب الرد فإنها توجب ترجح حديث ابن عباس الذي هو أصح إسنادا .

قال عمرو بن دينار : حديث ابن شهاب عن جابر بن زيد عن ابن عباس : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نكح ميمونة وهو محرم فقال ابن شهاب : حدثني يزيد بن الأصم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال ، قال عمرو : فقلت لابن شهاب : أتجعل حفظ ابن عباس كحفظ أعرابي يبول على عقبيه " .

قيل : أما رواية من روى أنه تزوجها وهما حلالان بسرف إن كانت محفوظة فإن معناها والله أعلم أنه بنى بها ودخل بها بسرف كما فسرت ذلك جميع الروايات ، فإنها كلها متفقة على أنه بنى بها بعد منصرفه من عمرته بسرف ، وأكثر الروايات على أن عقد النكاح تقدم على ذلك ، وقد تقدم أنه أراد أن يبني بها بمكة ، اللهم إلا أن يكون تقدم الخطبة والركون ، ولم يعقد العقد إلا بسرف حين البناء ؛ فإن هذا ممكن ، وعلى هذا حمل القاضي الروايتين ، وفسر قوله : دعوني أعرس ، معناه : أعقد وأعرس ، فلما منعوه خرج إلى سرف فعقد وأعرس .

[ ص: 204 ] وأما رواية من روى أنه تزوجها قبل الإحرام أو بعده ، فإما أن يكون الأول هو المطلع على حقيقة الأمر وخفي على الثاني ، فإن ذاك مثبت وهذا ناف لا سيما وسليمان بن يسار ، ويزيد بن الأصم أعلم بهذه القضية من غيرهما ثم لم يتحدث بالعقد ولم يظهر إلا بعد مقدمه مكة وانقضاء عمرته ، ومن هنا اعتقد من اعتقد أن العقد وقع في أثناء الإحرام ، وقد ذكر هذا القاضي ، وقال : هذا تأويل جيد ، أو أن يكون بعث أبا رافع ومن معه فخطبا له ووقع الاتفاق والمواطأة على العقد ثم لم يعقد إلا بعد الإحرام .

وأما كونهما قد رويا مرسلين ، وكون يزيد بن الأصم لا يعدل ابن عباس فليس بشيء ، فإنه قد روي مسندا من وجوه مرضية مخرجة في الصحاح والحسان ، والقصة إذا أسندها من يحدثها تارة وأرسلها أخرى كان أوكد في ثبوتها عنده وثقته بحديث من حدثه ، فإنه إنما يخاف في الإرسال من ضعف الواسطة ، فمتى سماه مرة أخرى زال الريب .

وابن عباس رضي الله عنه لم يعارض به يزيد بن الأصم في شيء يكون ابن عباس أعلم به منه ، وإنما هو أمر نقلي ، العالم والجاهل فيه سواء ، ثم ابن عباس لم يسند روايته إلى أحد ويزيد قد أسند روايته إلى خالته المنكوحة أم المؤمنين ولا ريب أنها أعلم بحالها من ابن أختها ابن عباس .

الجواب الثاني : أن تزوج ميمونة وإن لم يحكم فيه بصحة رواية من روى أنه تزوجها حلالا فلا ريب أنه قد اضطربت فيه النقلة ، ومع ما تقدم فلا وجه يصح الاحتجاج به لعدم الجزم بأنه تزوجها وهو محرم ، فتتساقط الروايتان ، وحديث عثمان لا اضطراب فيه ولا معارض له .

[ ص: 205 ] الجواب الثالث : أنه لو تيقنا أنه تزوجها محرما لكان حديث عثمان هو الذي يجب أن يعمل به لأوجه :

أحدها : أن حديث عثمان ناقل عن الأصل الذي هو الإباحة ، وحديث ابن عباس مبق على الأصل ، فإن قدرنا حديث ابن عباس متأخرا لزم تغيير الحكم مرتين ، وإن قدرنا حديث عثمان متأخرا لكان تزوج ميمونة قبل التحريم ، فلا يلزم إلا تغيير الحكم مرة واحدة فيكون أولى .

الثاني : أن حديث ابن عباس كان في عمرة القضية قبل فتح مكة وقبل فرض الحج ، كما تقدم ، ولم تكن أحكام الحج قد مهدت ، ولا محظورات الإحرام قد بينت ، وحديث عثمان إنما قاله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ; لأن النهي عن اللباس والطيب إنما بين في حجة الوداع ، فكيف النهي عن عقد النكاح ؟ إذ حاجة المحرمين إلى بيان أحكام اللباس أشد من حاجتهم إلى بيان حكم النكاح ، والغالب أن البيان إنما يقع وقت الحاجة . فهذه القرائن وغيرها تدل - من كان بصيرا بالسنن كيف كانت تسن ، وشرائع الإيمان كيف كانت تنزل - : أن النهي عن النكاح متأخر .

الثالث : أن تزوجه فعل منه ، والفعل يجوز أن يكون خاصا به ، وحديث عثمان نهي لأمته ، والمرجع إلى قوله أولى من فعله ، ومن رد نص قوله وعارضه بفعله فقد أخطأ .

الرابع : أن حديث عثمان حاظر وحديث ابن عباس مبيح ، والأخذ بالحاظر أحوط من الأخذ بالمبيح .

الخامس : أن أكابر الصحابة قد عملوا بموجب حديث عثمان ، وإذا اختلفت الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرنا إلى ما عمل به الخلفاء الراشدون . ولم يخالفهم أحد من الصحابة فيما بلغنا إلا ابن عباس ، وقد علم مستند فتواه ، وعلم أن من حرم نكاح المحرم من الصحابة يجب القطع بأنه إنما فعل ذلك عن علم عنده خفي على من لم يحرمه ، فإن إثبات مثل هذه الشريعة لا مطمع في دركه بتأويل أو قياس ، وأصحاب رسول الله [ ص: 206 ] صلى الله عليه وسلم أعلم بالله وأخشى من أن يقولوا على الله ما لا يعلمون بخلاف من أباحه فإنه قد يكون مستنده الاكتفاء بالبراءة الأصلية ، وإن كان قد ظهر له في هذه المسألة مستند آخر مضطرب .

السادس : أن أهل المدينة متفقون على هذا علما ورثوه من زمن الخلفاء الراشدين إلى زمن أحمد ونظرائه ، وإذا اعتضد أحد الخبرين بعمل أهل المدينة كان أولى من غيره في أصح الوجهين ، وهو المنصوص عن أحمد في مواضع ، وقد تقدم أنه اعتضد في هذه المسألة أهل المدينة ، لا سيما إذا كانوا قد رووا هم الحديث ، فإن نقلهم أصح من نقل غيرهم من الأمصار ، وهم أعلم بالسنة من سائر أهل الأمصار ، وكان عندهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين أمرنا باتباعهم بإحسان ما لم يكن عند غيرهم ، وإنما كان الناس تبعا لهم في الرأي والرواية إلى انصرام خلافة عثمان وبعد ذلك ، فإن لم يكونوا أعلم من غيرهم ، فلم يكونوا بدون من سواهم ، ونحن وإن لم نطلق القول [ ص: 207 ] بأن إجماعهم حجة فإنا نضعهم مواضعهم ، ونؤتي كل ذي حق حقه ونعرف مراتب المحدثين والمفتين والعاملين لنرجح عند الحاجة من يستحق الترجيح ، وفي المسألة أقيسة شبيهة ، ومعان فقهية .

وأيضا فإن الإحرام تحريم جميع دواعي النكاح تحريما يوجب الكفارة مثل القبلة والطيب ، ويمنع التكلم بالنكاح والزينة ، وهذه مبالغة في حسم مواد النكاح عنه .

وعقد النكاح من أسبابه ودواعيه ، فوجب أن يمنع منه وعكسه الصيام والاعتكاف ، فإنه يحرم القبلة ولا يمنع الطيب والتكلم بالنكاح ، والاعتكاف . وإن قيل بكراهة الطيب فيه فإنه لا يحرم ذلك ، ثم لا كفارة في شيء من مقدمات النكاح إذا فعله في الصيام والاعتكاف .

وقد بالغ الشرع في قطع أسبابه ، حتى إنه يفرق بين الزوجين في قضاء الحجة الفاسدة .

وأيضا فإن المقصود بالنكاح : حل الاستمتاع ، فمن حقه ألا يصح إلا في حل يقبل الاستمتاع ، وأن لا يتأخر حل الاستمتاع عن العقد ; لأن السبب إذا لم يفد حكمه ومقصوده وقع باطلا ، كالبيع في محل لا يملكه ، والإجارة على منافع لا تستوفى ، ولهذا لم يصح في المعتدة من نكاح أو في شبهة أو زنا ، ولا في المستبرأة في ظاهر المذهب ، [ ص: 208 ] وإن قيل : تعتد بعد العقد . وسائر أحكام النكاح من الإرث ووجوب النفقة وجواز الخلوة والنظر توابع لحل الاستمتاع .

وإنما صح نكاح الحائض والنفساء والصائمة ; لأن بعض أنواع الاستمتاع هناك ممكن ، أو وقت الاستمتاع قريب ، فإن الصائم يستمتع بالليل والحائض يستمتع منها بما دون الفرج ، وأما المعتكف فإن أصحابنا قالوا : يصح نكاحه لأن منعه ... .

والإحرام يمنع الاستمتاع بكل حال منعا مؤكدا تطول مدته على وجه يفضي الاستمتاع إلى مشاق شديدة من المضي في الفاسد ووجوب القضاء والهدي والتعرض لسخط الله وعقابه ، والإحرام لا ينال إلا بكلف ومشاق ، وليس في العبادات أشد لزوما وأبلغ نفوذا منه ، فإيقاع النكاح فيه إيقاع له .

وأيضا فإن الإحرام مبناه على مفارقة العادات في الترفه ، وترك أنواع الاستمتاعات فلا يلبس اللباس المعتاد ، ولا يتطيب ولا يتزين ولا يتظلل ، ويلازم [ ص: 209 ] الخشوع والاخشيشان ، ويقصد بيت الله أشعث أغبر أدفر قملا ، ولا شك أن من يتزوج فقد فتح باب التنعم والاستمتاع وعقد أسباب اللذة والشهوة وتعرض للهو واللعب ، وحاله مخالفة لحال الخاشع المعرض عن جميع العادات ، والصائم يخالفه في عامة هذه الأشياء فإن تحفية الطيب والمجمر ، والمعتكف بينهما .

وأيضا فإن المعتدة عن وفاة الزوج منعت الطيب والزينة حسما لمواد النكاح ومفارقة لحال المتزوجة وألزمت لزوم المنزل ، والمحرمة قد منعت الطيب والزينة فهي كالمعتدة من الوجه .

وأيضا فإن المقصود من النكاح الاستمتاع ، فلما منع المحرم من النكاح منع من مقصوده ، كتملك الصيد لما كان مقصوده ابتذال الصيد وإتلافه منع منه لما كان ممنوعا من مقصوده ; يوضح ذلك : أن نفس ملك الصيد لا محظور فيه كملك ... .

ولهذا لا يمنع دوام ملك النكاح والصيد ، وإنما يمنع من ابتدائهما ، وعكسه شراء الجواري والطيب واللباس ، لما لم يكن مقصوده مجرد الاستمتاع لم يمنع منه [ ص: 210 ] ( فصل )

وإذا تزوج وهو محرم ... .

التالي السابق


الخدمات العلمية