صفحة جزء
الفصل الثاني

أنه من كان مقيما على إحرامه لكونه مفردا ، أو قارنا خرج إلى منى ، ومن كان حلالا فهم قسمان : أهل مكة ، والمتمتعون .

فأما المتمتعون فالسنة أن يحرموا يوم التروية وسواء كانوا قد حلوا من إحرامهم ، أو لم يحلوا لأجل الهدي كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن يحرموا .

قال ابن عباس : " فلما قدمنا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اجعلوا إهلالكم [ ص: 481 ] بالحج عمرة إلا من قلد الهدي، فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة ، وأتينا النساء ولبسنا الثياب ، وقال : من قلد الهدي فإنه لا يحل حتى يبلغ الهدي محله ، ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج ، فإذا فرغنا من المناسك جئنا طفنا بالبيت وبالصفا والمروة فقد تم حجنا وعلينا الهدي " رواه البخاري .

وعن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : فقال لهم : " أحلوا من إحرامكم بطواف بالبيت وبين الصفا والمروة وقصروا ، ثم أقيموا حلالا حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج ، واجعلوا التي قدمتم بها متعة " متفق عليه .

وفي رواية لمسلم عن جابر قال : " فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومن كان معه هدي فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج " .

وفي رواية قال : " أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أحللنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى ، قال : فأهللنا من الأبطح " رواه مسلم .

وقال البخاري : قال أبو الزبير عن جابر : " أهللنا من الأبطح " .

وفي رواية : " حتى إذا كان يوم التروية وجعلنا مكة بظهر أهللنا بالحج " رواه مسلم ، والبخاري تعليقا [ ص: 482 ] ولم يفرق أحمد في استحباب الإحرام يوم التروية بين واجد الهدي وعادمه ، بل أمر بالإحرام يوم التروية المتمتع مطلقا ، وهذا هو المشهور في المذهب وهو الذي قاله القاضي آخرا هو وعامة أصحابه .

وقال القاضي - في المجرد - : من لم يجد الهدي فإنه يحرم ليلة السابع ليصوم السابع والثامن والتاسع ، وهي الأيام الثلاثة بعد إحرامه بالحج ; لأن صومها قبل الإحرام بالحج فيه خلاف بين العلماء ، فيتحرز عنه ، وزاد ابن عقيل على هذا فقال : يحرم ليلة السادس ، أو يوم الخامس ليصوم السادس والسابع والثامن .

وهذا كله تصرف بالسنة المسنونة بالرأي ، وليس في شيء مضى من النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه سنة إلا اتباعها ، وقد أمر أصحابه كلهم أن يحرموا يوم التروية ، وكانوا كلهم متمتعين إلا نفرا قليلا ساقوا الهدي ، وأمر من لم يجد الهدي منهم أن يصوموا ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع ، ولم يأمره بالإحرام قبل يوم التروية ، ومعلوم علم اليقين أن قوما فيهم عشرات الألوف في ذلك الوقت الضيق ، يكون كثير منهم ، أو أكثرهم غير واجدين للهدي ، فكيف يجوز أن يقال : كان ينبغي لهؤلاء الإحرام يوم السادس والخامس ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرهم بالإحرام يوم الثامن ؟ !

[ ص: 483 ] وما ذكروه من الاحتراز من الخلاف فإنما يشرع إذا أورث شبهة ، فإن الاحتراز من الشبهة مشروع .

فإذا وضح الحق وعرفت السنة ، وكان في الاحتراز عما أمر الله به ورسوله فلا معنى له .

وأيضا فإن المتمتع إذا أمر بتقديم الإحرام قل ترفهه وربما لم يمكنه التمتع إذا قدم مكة يوم السادس ، أو السابع ، وفي ذلك إخراج للمتمتع عن وجهه .

وأيضا : فإن الإحرام إنما يشرع عند الشروع في السفر ، ولهذا لم يحرم النبي - صلى الله عليه وسلم - من الميقات إلا عند إرادة المسير ، وقد بات فيه ليلة ، والحاج إنما يتوجهون يوم التروية ، ففي الأمر بالإحرام قبلها أمر بالإحرام وهو مقيم ، أو أمر بالتقدم إلى منى ، وكلاهما أمر بخلاف الأفضل المسنون ، فلا يجوز الأمر بذلك .

وأما وقت الاستحباب يوم التروية ، فقال أبو الخطاب : الأفضل أن يحرم يوم التروية بعد الزوال ، وقال القاضي وابن عقيل : يستحب أن يوافي منى بعد الزوال محرما .

وقول أبي الخطاب أجود ; لأن في الحديث : " أمرنا عشية التروية أن نحرم بالحج " .

[ ص: 484 ] وأما مكان الإحرام فالمشهور عند أصحابنا أنه يستحب أن يحرم من جوف الكعبة ; قال أحمد - في رواية المروذي - : فإن كنت متمتعا قصرت من شعرك وحللت ، فإذا كان يوم التروية صليت ركعتين في المسجد الحرام وأهللت بالحج تقول : اللهم إني أريد الحج فيسره لي وتقبله مني وأعني عليه ، وإنما تشترط إذا كنت في الحرم ثم قل : لبيك اللهم .... إلى آخره .

وفي موضعه روايتان :

إحداهما : بعد أن تخرج من المسجد ، قال - في رواية عبد الله - : فإذا كان يوم التروية طاف بالبيت ، فإذا خرج من المسجد لبى بالحج ، وقال - أيضا - : قلت لأبي : من أين يهل بالحج ؟ قال : إذا جعل البيت خلف ظهره ، قلت : فإن بعض الناس يقول : يحرم من الميزاب ، قال : إذا جعل البيت خلف ظهره أهل .

والرواية الثانية : يهل من جوف المسجد ، قال - في رواية حرب - في وصف المتعة : ويحل إن لم يكن معه هدي ، فإذا كان يوم التروية أهل بالحج من المسجد ، وإن كان ساق الهدي أهل بالحج يوم التروية مع كونه باقيا على إحرامه ، وهذا ظاهر رواية المروذي ، وقد استحب المروذي أن يصلي ركعتين في المسجد ثم يحرم ; لأن الإحرام يستحب أن يكون عقب صلاة كالإحرام من الميقات .

[ ص: 485 ] واستحب في رواية عبد الله أن يطوف حلالا ثم يحرم بعد الطواف ، وهذا الطواف لتوديع البيت لكونه خارجا إلى الحل ، ويستحب لمن خرج إلى الحل أن يودع البيت وأن يحرم عقب الطواف ، كما استحب لمن يحرم بغير مكة أن يحرم عقب الصلاة ، ومتى طاف أحرم عقب ركعتي الطواف .

وقال الأثرم : قلت لأبي عبد الله : الذي يحرم من مكة من أين يحرم ؟ قال : إذا توجه إلى منى كما صنع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وعن الحسن التميمي قال : " قلت لابن عباس إني تمتعت فأنا أريد أن أهل بالحج أين أهل ؟ قال : من حيث شئت ، قلت من المسجد ؟ قال : من المسجد " .

وعن الزبير بن عربي قال : " قلت لابن عمر يا أبا عبد الرحمن ، قال : حسن يا ابن جميل ، فقلت : من أين أهل ومتى أهل ؟ قال : من حيث شئت ومتى شئت " رواهما سعيد .

ووجه الأول : أن كل ميقات فيه مسجد فإنه يستحب الإحرام بعد الصلاة في مسجده كميقات ذي الحليفة .

وأما حديث جابر فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أمرهم بالإحرام إذا توجهوا إلى منى ولم يعين مكانا في أمره ; لأن بقاع مكة والحرم مستوية في جواز الإحرام منها ، فأحرم من شاء من الأبطح ، كما أحرم خلق من أصحابه من ذي الحليفة ولم يدخلوا المسجد .

ولو قدم المتمتع الإحرام جاز ; قال الفضل : سألت أبا عبد الله عن متمتع أهل بالحج حين رأى هلال ذي الحجة ؟ فقال : كان ابن عمر يفعل ذلك ، ثم أخر ذلك إلى يوم التروية .

[ ص: 486 ] وقال - في رواية الميموني - : الوجه أن يهل المتمتع بالحج في اليوم الذي أهل فيه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإن أهل قبله فجائز .

وأما من كان مقيما بمكة من أهلها وغيرهم ممن اعتمر قبل أشهر الحج أو لم يعتمر ففيهم روايتان ; إحداهما : هم وغيرهم سواء يحرمون بالحج يوم التروية ; قال في رواية أبي طالب في المكي : إذا كان يوم التروية صلى الفجر وطاف بالبيت ، فإذا توجه إلى منى أحرم بالحج ، لقول جابر : " فلما توجهنا أهللنا بالحج " .

والرواية الثانية : يهل إذا رأى الهلال ; قال - في رواية أبي داود - إذا دخل مكة متمتعا يهل بالحج يوم التروية إذا توجه من المسجد إلى منى ، قيل له : فالمكي يهل إذا رأى الهلال ؟ قال : كذا روي عن عمر .

قال القاضي : فقد نص على أن المتمتع يهل يوم التروية ، فالمكي يهل قبل ذلك ، وقال - في موضع آخر - قول أحمد في المكي يهل إذا رأى الهلال حكى في ذلك قول عمر ، والحكم فيه كالحكم في غيره .

واختلف أصحابنا فيما إذا سئل أحمد عن مسألة فقال فيها : قال فلان [ ص: 487 ] كذا وأشار إلى بعض الفقهاء ، فقال ابن حامد : يكون ذلك مذهبا ; لأنه قد استدعي منه الجواب ، فلولا أن ذلك مذهبه لم يكن قد أجاب .

وذهب غيره إلى أنه لا يكون مذهبا له ; لجواز أن يكون قد أخبر بمذهب الغير ليقلده السائل .

فأما إن أخبر بقول صحابي : فهو عندهم مذهب بناء على أن قول الصحابي حجة ، كما لو أخبر بآية أو حديث ولم يتأوله ، ولم يضعفه ، فإنه يكون مذهبا له بلا خلاف .

وذلك لما روى القاسم بن محمد قال : قال عمر : " يا أهل مكة ما لي أرى الناس يقدمون شعثا غبرا وأنتم يفوح من أحدكم ريح المسك ، إذا رأيتم هلال ذي الحجة فأهلوا " رواه سعيد .

ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر من أراد الأضحية إذا دخل العشر أن لا يأخذ [ ص: 488 ] من شعره ولا ظفره ، فالذي يريد الحج أعظم من ذلك ، فيستحب له أن يحرم من أول العشر ، وإن لم يحرم فقد روى عبد الله بن السائب المخزومي قال : قال عمر - رحمه الله - : " تجردوا في الحج وإن لم تحرموا " .

والرواية الأولى : اختيار القاضي وغيره ; لأنه ثبت أنه لا يستحب تقديم الإحرام على الميقات المكاني ، فكذلك على الميقات الزماني .

ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حج حجة الوداع لم ينقل أنه أمر أهل مكة بالإحرام من أول العشر ، ولا قبل يوم التروية .

ولأن السنة للمحرم أن يحرم عند إرادة السفر ; بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بات بذي الحليفة ولم يحرم حتى أراد الرحيل ، فإما أن يحرم ويقيم مكانه ، أو يقيم بمصر من الأمصار ... ، وبهذا احتج ابن عمر - رضي الله عنه - ; عن عطاء قال : " رأيت ابن عمر - رحمه الله - وهو في المسجد ، فقيل له : قد رئي هلال ذي الحجة ، فخلع قميصه ثم أحرم ، ثم رأيته في العام المقبل وهو في البيت ، فقيل له : قد رئي هلال ذي الحجة ، فخلع قميصه ثم أحرم ، فلما كان العام الثالث قيل له : قد رئي هلال ذي الحجة ، فقال : وما أنا إلا كرجل من أصحابي ، وما أراني أفعل إلا كما فعلوا ، فأمسك حتى كان يوم التروية فأتى البطحاء فلما استوت به راحلته أحرم " . وعن مجاهد نحو ذلك ، قال : " يعني فسألته عن ذلك فقال : إني كنت امرأ من أهل المدينة ، فأحببت أن أهل [ ص: 489 ] بإهلالهم ، ثم ذهبت أنظر ، فإذا أنا أدخل على أهلي وأنا محرم ، وأخرج وأنا محرم ، فإذا ذلك لا يصلح ; لأن المحرم إذا أحرم خرج لوجهه ، قلت : فأي ذلك ترى ؟ قال : يوم التروية " رواهما سعيد .

التالي السابق


الخدمات العلمية