صفحة جزء
( فصل )

وللوقوف بعرفة مكان وزمان ، فأما حدود عرفات فقد تقدم ، وأما زمان [ ص: 577 ] الوقوف : فاليوم التاسع من ذي الحجة ، وهو يوم عرفة ، وليلة العاشر من ذي الحجة إلى طلوع الفجر ، وتسمى ليلة المزدلفة ، وليلة النحر ، وليلة عرفة . فمن طلع الفجر ولم يقف في شيء من عرفة : فقد فاته الحج ؛ لأن الله قال : ( فإذا أفضتم من عرفات ) وإذا كلمة توقيت ، وتحديد ، فأشعر ذلك بأن الإفاضة لها وقت محدود ، إلا أن يقال : . . . ، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " الحج عرفة من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج " ، وهذا ذكره في معرض تحديد وقت الوقوف ، فعلم أن من جاءها ليلا فقد أدرك الحج ، ومن لم يوافها حتى طلع الفجر فقد فاته الحج .

وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : " من شهد صلاتنا هذه ، ووقف معنا حتى ندفع ، وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا ، أو نهارا ...... " . والصلاة بالمزدلفة : هي أول ما يبزغ الفجر . فعلم أن وقت الوقوف قبل ميقات تلك الصلاة ليلا أو نهارا . وإنما يكون هذا قبل طلوع الفجر يوم النحر . وهذا مما أجمع عليه .

وعن نافع عن ابن عمر أنه كان يقول : " من لم يقف بعرفة ليلة جمع قبل [ ص: 578 ] أن يطلع الفجر فقد فاته الحج ، ومن وقف بعرفة من ليلة المزدلفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج" رواه مالك عن نافع عنه .

ومن لم يواف عرفة إلا ليلا أجزأه الوقوف ولو لحظة في بعض جوانبها ؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك " ، وقوله : " وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا " .

ولا دم عليه ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم : ذكر أنه يدرك الحج ، وأنه قد تم حجه وقضى تفثه ، ولم يذكر أن عليه دما ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ، لا سيما في حكم عظيم أردف خلفه من ينادي به في الناس في حجة الوداع .

ومن وافاها نهارا فإنه يجب عليه أن يقف إلى الليل - كما سيأتي - لكن لو لم يقف إلى الليل إما بأن يدفع منها ، أو يعرض ما يمنع صحة الوقوف من إغماء أو موت ، فإنه يجزئه إن وقف بعد الزوال .

وأما إن وقف قبل الزوال : ففيه روايتان :

إحداهما : يجزئه الوقوف في أية ساعة كان من يوم عرفة وليلتها من طلوع فجر يومها إلى طلوع فجر يوم النحر . قال إسحاق بن منصور : قال أحمد : إذا كان مريضا أهل من الميقات ثم أغمي عليه بعرفات فلم يقف حتى أصبح : فلا حج له ، فإن أفاق ولو ساعة إلى أن يطلع الفجر [ من ليل أو نهار فقد تم حجه ، ويرمى عنه : قلت لأحمد : إذا عقل عند الميقات فأهل بعرفة ساعة ] قال : قد أجزأ عنه .

[ ص: 579 ] وقال حنبل : سمعت أبا عبد الله يقول : كل من وقف بعرفة من ليل أو نهار ولو ساعة ، فقد تم حجه .

وهذا قول أكثر أصحابنا ، مثل أبي بكر ، وابن أبي موسى ، وابن حامد ، والقاضي ، وأصحابه ، قالوا : لو وقف بعرفة يوم عرفة قبل الزوال ، ونفر منها قبل الزوال : أساء ، وحجه تام ، وعليه دم .

والثانية : لا يجزئه إلا بعد الزوال ، وهو قول ابن بطة ، وأبي حفص العكبريين ، فمن لم يقف - عندهم - بعد الزوال : فحجه باطل ، قال أحمد - في رواية عبد الله وأبي الحارث - وقد سئل عن الذي يشرد به بعيره بعرفة - فقال : كل من وطئ عرفة بليل أو نهار بعد أن يقف الناس : فقد تم حجه إذا أتى ما يجب عليه . ويدخل على قول من قال : يجزئه حجه إذا أغمي عليه بعرفة : لو أن رجلا أغمي عليه في أول يوم من شهر رمضان حتى انسلخ عنه ، فلم يأكل ولم يشرب : أنه يجزئه صوم رمضان ولا يقضي شيئا من الصلاة .

فقد قيد الوقوف المجزئ : أن يكون بعد وقوف الناس بها ، وأول وقت وقوف الناس بعد زوال الشمس ؛ وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما وقف بعد الزوال ، وهذه السنة المورثة عنه المنقولة نقلا عاما ، فلو كان قبل الزوال وقت وقوف [ ص: 580 ] لوقف فيه ، ولم ينزل بنمرة ، وهي خارجة عن المعرف ، إذ المسارعة إلى العبادة أولى من التأخير .

ولأن مواقيت العبادات إنما تتلقى من فعله - صلى الله عليه وسلم - ، أو قوله .

وإنما وقف بعد الزوال كما رمى جمار أيام منى بعد الزوال ، وكما صلى الظهر وغيرها من العبادات في مواقيتها ، والعبادة المفعولة قبل وقتها لا تصح بخلاف المفعولة بعد وقتها .

وفي حديث ابن عمر المتقدم : " إذا كان عشية عرفة باهى الله بالحاج " فمن لم يقف إلى العشية لم يباه الله به ، فلا يكون من الحاج .

ولأن الرمي المشروع - بعد الزوال - : لا يجوز تقديمه على وقته ، وإن جاز التأخير عنه . فالوقوف أولى وأحرى .

ولأن الوقوف : عبادة مشروعة عشية اليوم ، فلا يجوز فعلها قبل الزوال كالظهر والعصر ، وهذا لأن ما بين زوال الشمس إلى طلوع الفجر : مواقيت الصلوات المكتوبات ، فجاز أن يجعلها الله ميقاتا للمناسك التي هي من جنس الصلاة بخلاف صدر النهار .

ووجه الأول : قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع ، وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا ، أو نهارا فقد تم حجه ، وقضى تفثه " . وقضاء التفث بالصلاة بمزدلفة ، وبأن يقف قبل ذلك بعرفة ليلا ، أو نهارا ، فمن وقف بعرفة قبل الزوال وأفاض إلى جمع فوقف بها مع الإمام ، فقد دخل في عموم الحديث . ولو كان وقت الإجزاء بعد الزوال لقال : "ووقف بعرفة قبل ذلك ليلا ، أو نهارا بعد الزوال .

فإن قيل : إنما معناه : بعرفة قبل ذلك ليلا فقط ، أو نهارا إلى الليل ؛ لأن [ ص: 581 ] المخاطبين قد علموا أن من وقف نهارا وصل الوقوف إلى الليل ، والشك إنما كان فيمن لم يدركها إلا ليلا ، فخرج كلامه لبيان ما أشكل بدليل أن الوقوف إلى آخر النهار واجب ، وتركه موجب للدم ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر أنه قد تم حجه وقضى تفثه ، ولم يذكر دما ، ومن يكون قد ترك واجبا لا يكون حجه تاما إلا بإخراج الدم .

قيل : أولا هذا السؤال إنما يصح ممن يقول : إن الوقوف بالليل ركن كما قال مالك . ولا يختلف المذهب أن من دفع قبل غروب الشمس صح حجه ، لكن عليه دم كما سيأتي بيانه إن شاء الله ، وبين ضعف هذا : أنه على هذا التقدير يكون الوقت المعتبر هو الليل فقط ، فكان يكفي أن يقال : ووقف بعرفة قبل ذلك في شيء من الليل ، فلما قال : " ووقف بعرفة ليلا أو نهارا " علم أن كلا منهما وقت للوقوف على انفراد ، وحج من وقف في أحدهما تام ، وتفثه مقضي ، نعم قد يجب عليه دم في بعض الأوقات ، وليس كل من لم يدرك آخر النهار عليه دم كما سيأتي .

وأيضا : فقوله - في بعض الروايات - : "أفاض قبل ذلك من عرفات ليلا أو نهارا فقد تم حجه" يبطل هذا التأويل ؛ لأن من أفاض نهارا لم يقف إلى الليل . . .

[ ص: 582 ] وأما الإجماع : فقال أبو عبد الله - في رواية عبد الله وأبي الحارث - : قوله : الحج عرفة . على السلامة ، فإذا هو عمل ما يعمل الناس من طواف يوم النحر فهو الطواف الواجب ؛ لأنه لم يختلف الناس - علمنا - أنه من لم يطف يوم النحر أنه يرجع حتى يطوف ، ولو كان قد أتى أهله ، وذلك مشبه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها " . فإذا أدرك ركعة أفليس عليه أن يأتي بها على كمالها ، وما أفسد آخرها أفسد أولها ، وإنما ذلك على كمالها . وكذلك الواقف بعرفة ما لم يأت برمي الجمار ، وهذه الأشياء : فحجه فاسد إذا وطئ قبل رمي الجمار ، وإن كان قد وقف بعرفة ؛ لأن الإحرام قائم عليه ، وإذا رمى الجمار : فقد انتقض إحرامه ، وحل له كل شيء إلا النساء .

التالي السابق


الخدمات العلمية