صفحة جزء
( فصل )

فإن طاف على غير طهارة ، ففيه روايتان :

إحداهما : لا يجزئه بحال ، قال - في رواية حنبل - : إذا طاف بالبيت طواف الواجب غير طاهر : لم يجزه ، وقال - في رواية أبي طالب - : إذا طاف محدثا أو جنبا أعاد طوافه ، [ ص: 587 ] وكذلك نقل الأثرم ، وابن منصور .

والثانية : يجزئه في الجملة ، قال - في رواية ابن الحكم وقد سأله عن الرجل يطوف للزيارة ، أو الصدر ، وهو جنب أو على غير وضوء قلت : إن مالكا يقول : يعود للحج والعمرة ، وعليه هدي ، قال : هذا شديد ، قال أبو عبد الله : أرجو أن يجزئه أن يهريق دما إن كان جنبا ، أو على غير وضوء ناسيا ، والوقوف بعرفة أهو من طواف الزيارة ، وإن ذكر وهو بمكة أعاد الطواف .

وفي لفظ : إذا طاف طواف الزيارة وهو ناس لطهارته حتى يرجع ، فإنه لا شيء عليه واختار له أن يطوف وهو طاهر . وإن وطئ فحجه ماض ولا شيء عليه .

فقد نص على أنه يجزئه إن كان ناسيا ، ويجب عليه أن يعيد إذا ذكر وهو بمكة ، فإن استمر به النسيان أهرق دما وأجزأه .

قال أبو حفص العكبري : لا يختلف قوله إذا تعمد فطاف على غير طهارة لا يجزئه ، واختلف قوله في النسيان على قولين :

أحدهما : أنه معذور بالنسيان .

والآخر : لا يجزئه مثل الصلاة .

وكذلك قال أبو بكر عبد العزيز في الطواف قولان :

أحدهما : أنه إذا طاف وهو غير طاهر أن الطواف يجزئ عنه إذا كان ناسيا ، فإذا وطئ بعد الطواف فقد تم حجه .

والآخر : لا يجزئه حتى يكون طاهرا ، فعلى هذا يرجع من أي [ ص: 588 ] موضع ذكر حتى يطوف ، وبه أقول . وعلى هذا إذا ذكر وهو بمكة بعد أن وطئ . . .

وذكر القاضي وأصحابه ، والمتأخرون من أصحابنا المسألة على روايتين ، في طواف المحدث مطلقا .

وقال - في رواية الميموني - وقد قال له : من سعى أو طاف الطواف الواجب وهو على غير طهارة ، ثم واقع أهله ، فقال : لي مسألة الناس فيها مختلفون ، وذكر قول ابن عمر ، وما يقول عطاء ، وما يسهل فيه ، وما يقول الحسن ، وأمر عائشة فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - حين حاضت : "افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت" إلا أن هذا أمر قد كتبه الله ، وقد بليت به نزل عليها ليس من قبلها ، قلت : فمن الناس من يقول : عليه الحج ، فقال : نعم كذلك أكبر علمي ، ومن الناس من يذهب إلى أن عليه دما . قال أبو عبد الله : أولا وآخرا هي مسألة فيها شبه فيها نظر ، دعني حتى أنظر فيها ، ومن الناس من يقول : وإن أتى بلده يرجع حتى يطوف ، قلت : والنسيان ؟ قال : النسيان أهون حكما بكثير . يريد : أهون ممن يطوف على غير طهارة متعمدا .

[ ص: 589 ] والرواية الأولى : اختيار أصحابنا أبي بكر ، وابن أبي موسى ، والقاضي ، وأصحابه ، وقال ابن أبي موسى : إن حاضت قبل طواف الإفاضة لزم انتظارها حتى تطهر ، ثم تطوف ، وإن حاضت بعدما أفاضت : لم يجب انتظارها وجاز لها أن تنفر ، ولم تودع لحديث صفية المتقدم .

والشرط الثالث : أن يكون طاهرا من الخبث ، فإن كان حاملا للنجاسة ، أو ملاقيها في بدنه ، أو ثيابه ، أو مطافه ، فقال - في رواية أبي طالب - : إذا طاف الرجل في ثوب غير طاهر ، فإن الحسن كان يكره أن يفعل ذلك ، ولا ينبغي له أن يطوف إلا في ثوب طاهر .

فإن فعل : ذلك فقد ذكر أصحابنا فيه الروايتين في المحدث . وهذا إذا كان متعمدا ، فأما إن كان ناسيا ، وقلنا : تصح صلاته ، فالطواف أولى ، وإن قلنا : لا تصح صلاته ، ففي طوافه روايتان ، ويشترط هاهنا ما يشترط في الصلاة . . .

الشرط الرابع : السترة ، والأصل فيها قوله سبحانه : ( يابني آدم قد أنزلنا ) [ ص: 590 ] ( عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ) الآيات كلها إلى قوله : ( خذوا زينتكم عند كل مسجد ) قال ابن عباس : كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة ، فتقول : من يعيرني تطوافا تجعله على فرجها ، وتقول :

اليوم يبدو بعضه أو كله ، فما بدا منه فلا أحله

. فنزلت هذه الآية : ( خذوا زينتكم عند كل مسجد ) رواه مسلم .

وروى أيضا عن هشام بن عروة عن أبيه قال : " كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلا الحمس . والحمس قريش ، وما ولدت كانوا يطوفون عراة ، إلا أن يعطيهم الحمس ثيابا ، فيعطي الرجال الرجال والنساء النساء" .

فقد سمى الله سبحانه نزع الثياب فتنة وفاحشة ، وأمر بأخذ اللباس عند كل مسجد .

وعن أبي هريرة : " أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - بعثه في الحجة التي أمره عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل حجة الوداع يوم النحر في [ ص: 591 ] رهط يؤذن في الناس : ألا لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان " متفق عليه .

وتشترط السترة الواجبة في الصلاة حتى ستر المنكب . . . ، فإن طاف عريان فقد ذكر أصحابنا فيه الروايتين في المحدث ، أشهرهما : أنه لا يجزئه ، والأخرى عليه دم .

الشرط الخامس : أن يطوف سبعة أشواط ، فلو نقص طوافا أو خطوة من طواف لم يجزه ، قال - في رواية الأثرم فيمن ترك طوفة من الطواف الواجب - : لا يجزئه حتى يأتي بسبع تام لا بد منه .

وقال - في رواية ابن منصور - وذكر له قول سفيان : إذا لم يكمل سبعة فهو بمنزلة من لم يطف يكون حراما حتى يرجع فيقضي ، حجة كانت أو عمرة ، فقال أحمد : ما أحسن ما قال .

ونقل عنه أبو طالب وذكر له قول عطاء : إذا طاف أكثر الطواف خمسا أو ستا ، فقال : أنا أقول : يعيد الطواف ، قيل له : فإن كان بخراسان ؟ [ ص: 592 ] قال : يرجع ، فإذا بلغ التنعيم ، أهل ، ثم طاف ، ويهدي ، مثل قول ابن عباس .

وقد نقل عنه الميموني - فيمن وطئ وقد بقي عليه شوط - : فالدم قليل ، ولكن يأتي ببدنة ، وأرجو أن يجزئه ، ولم يذكر إعادة الطواف .

الشرط السادس : الترتيب ، هو شيئان :

أحدهما : أن يبتدئ بالحجر الأسود ، فإن ابتدأ بما قبله من ناحية الركن اليماني : لم يضره الزيادة ، وإن ابتدأ بما بعده من ناحية الباب : لم يحتسب له بذلك الشوط .

الثاني : وهو الشرط السابع : أن يبتدئ بعد الحجر الأسود بناحية الباب ، ثم ناحية الحجر ، ثم ناحية الركن اليماني ، فيجعل البيت عن يساره ، فلو نكس الطواف ، فابتدأ بناحية الركن اليماني ، وجعل البيت عن يمينه - لم يجزه .

وإن مر على الباب لكن استقبل البيت في طوافه ، ومشى على جنب . . . ، قال - في رواية حنبل - : من طاف بالبيت طواف الواجب منكوسا لم يجزه ، حتى يأتي به على ما أمر الله ، وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإن طاف كذلك وانصرف ، فعليه أن يأتي به ، لا يجزئه . . .

وذلك لأن الله أمر بالطواف ، وقد فسره النبي - صلى الله عليه وسلم - بفعله ، وتلقته الأمة عنه بالعمل المتواتر ، وفعله إذا خرج امتثالا لأمر ، وتفسيرا لمجمل كان حكمه حكم ذلك الأمر . وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" .

الشرط الثامن : الموالاة ، وهو أن لا يطيل قطعه ، فإن أطال قطعه لمكتوبة [ ص: 593 ] أقيمت ، أو جنازة حضرت ، لم يقطع موالاته ؛ لأنه فرض يخاف فوته ، فأشبه خروج المعتكف لصلاة الجمعة .

قال - في رواية ابن إبراهيم في الرجل يطوف ويرى جنازة - : يقطع ويصلي عليها ، ويبني ، وسئل عن الرجل يطوف بالبيت فيعيا هل يستريح ؟ قال : نعم ، قد فعله ابن عمر وابن الزبير ، طافا واستراحا .

فإن أطال : فذكر فيها روايتين :

إحداهما : يبني ، قال - في رواية ابن منصور - وقد سئل إذا قطع الطواف يبني ، أو يستأنف ، قال : يبني ، وقال في رواية حنبل في رجل طاف ستة أشواط ، وصلى ركعتين ، ثم ذكر بعد : يطوف شوطا ولا يعيد ، وإن طاف ابتداء فهو أحوط .

والثانية : يستأنف ، قال - في رواية حرب - في امرأة طافت ثلاثة أشواط ثم حاضت ، تقيم حتى تطوف ؟ قيل له : تبني على طوافها ؟ قال : لا تبتدئ . وقال - في رواية أبي طالب - : إذا طاف خمسا أو ستا ، ورجع إلى بلده : يعيد الطواف .

قال أبو بكر عبد العزيز : لو طافت خمسا ثم حاضت بنت ، وقيل : [ ص: 594 ] تبتدئ ، وهو اختياري ، وهذا هو الذي ذكره . . .

وقال القاضي - في المجرد - وابن عقيل : إنه إن قطعه لعذر مثل سبق الحدث ، فعلى الروايات الثلاث ، وكذلك النسيان ، وإن قطعه لغير عذر وأطال ابتدأ ، وإن لم يطل بنى .

الشرط التاسع : أن يطوف بالبيت جميعه ، فلا يطوف في شيء منه ؛ لأن الله قال : " ( وليطوفوا بالبيت العتيق ) فإن اخترق الحجر في طوافه أو الشاذروان - لم يصح .

قال أحمد - في رواية الأثرم - فيمن طاف في الحجر فاخترقه - لا يجزئه ؛ لأن الحجر من البيت ، فإن كان شوطا واحدا أعاد ذلك الشوط ، وإن كان كل الطواف أعاده .

وكذلك نقل حنبل فيمن طاف واخترق الحجر : لا يجزئه ويعيد ، ونقل حرب كذلك ؛ لأن الله أمر بالطواف بالبيت ، ومن سلك شيئا من البيت في طوافه لم يطف به كله ، وإنما طاف فيه .

قال ابن عباس : " من طاف بالبيت فليطف من وراء الحجر ، فإن الله يقول : [ ص: 595 ] ( وليطوفوا بالبيت العتيق ) وقد طاف النبي - صلى الله عليه وسلم - من وراء الحجر" رواه . . . الأثرم .

وعن عمر قال : " لو أن الحجر لم يكن من البيت لما طيف به" .

وعن عائشة قالت : " الحجر من البيت" .

وعن الزهري قال : سمعت بعض علمائنا يقول : " إنما حجر الحجر فطاف الناس من ورائه إرادة أن يستوعب الناس الطواف بالبيت" رواهن أحمد .

والأصل في ذلك : ما روى سالم بن عبد الله ، أن عبد الله بن محمد بن أبي بكر أخبر عبد الله بن عمر ، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها : " ألم تري أن قومك حين بنوا الكعبة اقتصروا على قواعد إبراهيم ، فقلت : يا رسول الله ، أفلا تردها على قواعد إبراهيم ؟ قال : لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت . قال عبد الله : لإن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر إلا أن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم " .

وفي رواية قال : " سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية - أو قال : بكفر - لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله ، ولجعلت بابها بالأرض ، ولأدخلت فيها من الحجر" [ ص: 596 ] وعن عروة عن عائشة قالت : " قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لولا حداثة قومك بالكفر لنقضت الكعبة ، ولجعلتها على أساس إبراهيم ، فإن قريشا حين بنت استقصرت ، ولجعلت لها خلفا" وفي رواية "يعني بابا" .

وعن الأسود عن عائشة قالت : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجدر أمن البيت هو ؟ قال : نعم ، قلت : فما لهم لم يدخلوه في البيت ؟ قال : إن قومك قصرت بهم النفقة ، قلت : فما شأن بابها مرتفعا ؟ قال : فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا ، ولولا أن قومك حديث عهد بجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم ، لنظرت أن أدخل الجدر في البيت ، وألصق بابه بالأرض" وفي رواية : " الحجر" مكان الجدر . متفق عليهن .

وعن يزيد بن رومان ، عن عروة ، عن عائشة ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها : " يا عائشة ، لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم ، فأدخلت فيه [ ص: 597 ] ما أخرج منه ، وألزقته بالأرض ، ولجعلت لها بابين ، بابا شرقيا وبابا غربيا ، فبلغت به أساس إبراهيم ، فذلك الذي حمل ابن الزبير على هدمه ، قال يزيد : وشهدت ابن الزبير حين هدمه وبناه وأدخل فيه من الحجر ، وقد رأيت أساس إبراهيم حجارة كأسنمة البخت . قال جرير ابن حازم : فقلت له - يعني يزيد - : أين موضعه ؟ فقال : أريكه الآن ، فدخلت معه الحجر ، فأشار إلى مكان فقال : هاهنا . قال جرير : فحزرت من الحجر ست أذرع ، أو نحوها" رواه البخاري .

وعن سعيد بن ميناء ، عن عبد الله بن الزبير قال : حدثتني خالتي - يعني عائشة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يا عائشة ، لولا أن قومك حديثو عهد بشرك ، لهدمت الكعبة ، فألزقتها بالأرض ، وجعلت لها بابين ، بابا شرقيا وبابا غربيا ، وزدت فيها ستة أذرع من الحجر ، فإن قريشا اقتصرتها حين بنت الكعبة " رواه مسلم .

[ ص: 598 ] وعن عطاء عن ابن الزبير قال : إني سمعت عائشة تقول : إن النبي - صلى الله عليه وسلم قال : " لولا أن الناس حديث عهدهم بكفر ، وليس عندي من النفقة ما يقوى على بنائه ، لكنت أدخلت فيه من الحجر خمس أذرع ، ولجعلت له بابا يدخل الناس منه ، وبابا يخرج الناس منه" رواه مسلم .

وعن الحارث بن عبد الله بن ربيعة أنه سمع عائشة تقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن قومك استقصروا من بنيان البيت ، ولولا حدثان عهدهم بالشرك : أعدت ما تركوا منه ، فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه فهلمني لأريك ما تركوا منه ، فأراها قريبا من سبعة أذرع" رواه مسلم .

الشرط العاشر : أن يطوف في المسجد الحرام ، فإن طاف خارج المسجد لم يصح ، وإن طاف فيه جاز ، سواء كان بينه وبين البيت حائل مثل زمزم وقبة السقاية ، أو طاف في الأروقة التي في جوانب المسجد ، أو طاف قريبا منه ، هذا قول . . . ، وعلى هذا القول فالمصحح للطواف : الكون في المسجد .

ولا فرق بين ما كان مسجدا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وبين ما زيد فيه على عهد عمر ، وبني أمية ، وبني العباس .

[ ص: 599 ] وقال القاضي - في المجرد - : يجوز الطواف في المسجد وإن حال بينه وبين البيت قبة زمزم وسقايته ؛ لأن الحائل في المسجد كلا حائل ، وإن طاف خارج المسجد لم يجزه ؛ لأن الحائل خارج المسجد يقطع حكم المسجد ، كما لو ائتم بالإمام في المسجد وبينهما سوره ، وعلى هذا فالمانع وجود الحائل ، فلو فرض زوال جدار المسجد صحت الصلاة خارجه .

وقال ابن عقيل : إن تباعد عن البيت من غير عذر لم يمنع الإجزاء ؛ لأن هذه عبادة تتعلق بالبيت ، فلا يؤثر في إبطالها البعد مع مسامتته ، ومحاذاته كالصلاة .

وإن طاف حول المسجد ، أو حول البيت وبينه وبين البيت جدار آخر : احتمل أن لا يجزئه ؛ لأنه لا يسمى طائفا بالبيت ، بل بالمسجد ، أو الجدار الذي هو حائل ؛ ولأن البقعة التي هي محال الطواف معتبرة ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " خذوا عني مناسككم " فلا يجوز أن يجعل غير المطاف مطافا ؛ ولأنه لو سعى في مسامتة المسعى ، وترك السعي بين الصفا والمروة لم يجزه ، كذلك هاهنا .

ووجه الأول : قوله تعالى : ( أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود ) فإنه يقتضي أن بيته معد للطائفين ، والعاكفين والمصلين ، وذلك يقتضي أن له أثرا في اختصا . . .

[ ص: 600 ] الفصل الثالث : أنه لا ركن إلا الوقوف بعرفة ، والطواف طواف الزيارة ، وقد اختلفت عبارة أصحابنا في ذلك .

وأصل ذلك : أن السعي بين الصفا والمروة هل هو ركن ؟ فيه روايتان ، فإن قلنا : ليس بركن فمن أصحابنا من يقول : هما ركنان ، كما ذكره الشيخ .

قال أبو الحسن التيمي : فرض الحج فرضان لا ثالث لهما ، روى ذلك عن أحمد والمروذي ، وإسحاق بن إبراهيم ، وغيرهم ، ونقل عنه ابناه ، وأبو الحارث ، والفضل بن زياد ، أنه قال فيمن وقف بعرفة وزار البيت يوم النحر ، وانصرف ولم يعمل غير ذلك : فحجته صحيحة وعليه دم . قال : وبهذا أقول .

وهذا قول أبي بكر عبد العزيز .

قال حرب : قيل لأحمد : رجل حج فوقف بعرفة ، ثم زار البيت يوم النحر ، [ ص: 601 ] فمضى على وجهه ، ولم ينصرف إلى منى ، ولم يرم الجمار ؟ قال : عليه دم ، وقال . . . القاضي ، وأصحابه ، وعامة المتأخرين من أصحابنا : أركانه ثلاثة بغير خلاف ؛ الإحرام ، والوقوف ، والطواف .

ومن أصحابنا من يحكي ذلك خلافا ، فيقول : الأركان ركنان في قول ، وثلاثة في قول ، وأربعة في قول ، ويعتقد أن المذهب مختلف في الإحرام كاختلافه في السعي .

قال ابن أبي موسى : وفروض الحج أربعة فروض ، وهي الإهلال بالحج ، والوقوف بعرفة ، وطواف الإفاضة ، والسعي بين الصفا والمروة ، وروي عنه : أن السعي بين الصفا والمروة ليس بواجب ، وروي عنه : أن فرض الحج فرضان ؛ هما الوقوف بعرفة ، وطواف الإفاضة ، وما عداهما مسنون ، حتى أنه سئل عن رجل حج فوقف بعرفة ، وطاف طواف الإفاضة ، وانصرف ولم يأت بغير ذلك ؟ فقال : عليه دم شاة ، وحجه صحيح .

واعلم أن الاختلاف في الإحرام اختلاف في عبارة ، وذلك أن الإحرام يعنى به شيئان :

أحدهما : قصد الحج ونيته ، وهذا مشروط في الحج بغير خلاف ، فإن الحج لا يصح بغير نية بإجماع المسلمين ، وهذا المعنى هو الغالب على أصول أصحابنا ؛ لأن الإحرام ينعقد بمجرد النية .

فعلى هذا : منهم من يجعل هذا القصد ، والنية ركنا ، وهو الغالب على قول الفقهاء المصنفين في المذهب من أصحابنا ، وهو الجاري على أصول أحمد ؛ لأن العمرة عنده للشهر الذي أحرم فيه .

[ ص: 602 ] ومنهم من يجعله شرطا للحج بمنزلة الطهارة للصلاة ، وهو قول كثير من مصنفي الخلاف من أصحابنا ، ويشهد له من أصولنا : انعقاده قبل أشهر الحج ، وسقوط الفرض عن العبد والصبي إذا عتق وبلغ قبل الإفاضة من عرفات ، وإن كان الإحرام قد انعقد قبل وجوب الحج ، فإن أركان العبادة لا تفعل قبل وجوبها ، ولا قبل دخول وقتها .

والتحقيق : أنه أصل منفرد بنفسه كما أن الحج عبادة مستقلة بنفسها ، وهو يشبه أركان العبادة من وجه ، وشروطها من وجه ، فإنه ركن مستدام إلى آخر العبادة .

المعنى الثاني للإحرام : هو التجرد عن المخيط وكشف الرأس ، واجتناب المحظورات . وهذا هو واجب ليس بركن ولا شرط . فمن فهم الإحرام هذا المعنى، قال : إن أركان الحج ركنان ، ومن فهم المعنى الأول قال : أركانه ثلاثة ، ومن اعتقد الإحرام شرطا قال : إن أركانه ركنان ، فعلى هذا قيل : الإحرام شرط ، وقيل : هو ركن ، وقيل : هو واجب على ما بيناه .

التالي السابق


الخدمات العلمية