صفحة جزء
مسألة : ( والمبيت بمزدلفة إلى نصف الليل ) .

وجملة ذلك : أن الوقوف بمزدلفة - في الجملة واجب . تارة يعبر عنه أحمد بالوقوف بمزدلفة ، وتارة يعبر بالمبيت بمزدلفة لقوله سبحانه : ( فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم ) والمشعر الحرام : مزدلفة كلها كما تقدم . وإن أريد به نفس قزح فقد أمر بالذكر عنده ، وذلك يحصل بالوقوف فيما حوله ، بدليل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " هذا الموقف ومزدلفة كلها موقف وارفعوا عن بطن محسر " .

وأيضا : فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف بها ، وقال : " خذوا عني مناسككم " ، وقال : " هذا الموقف ومزدلفة كلها موقف " ، كما قال : " هذا الموقف وعرفة كلها موقف " .

فإن طلعت الشمس ولم يقف بالمزدلفة فعليه دم ، وحجه صحيح .

قال أحمد - في رواية ابن القاسم - : ليس أمر جمع عندي كعرفة ، ولا أرى الناس جعلوها كذلك .

وقال صالح : سألت أبي عن رجل فاته الوقوف بجمع ، وقد وقف بعرفة ، ومر بجمع بعد طلوع الشمس ؟ قال : عليه دم .

وقال أبو طالب : سألت أحمد عن حديث عروة الطائي : " من صلى معنا صلاة الصبح ، وقد أتى عرفات قبل ذلك ، ليلا أو نهارا فقد تم حجه " قال : هذا شديد ، قلت : فكيف يصنع من أتى عرفات ، ولم يشهد جمعا مع الإمام ؟ قال : هذا أحسن حالا ممن لم يجئها .

وقد رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للضعفة أن يتعجلوا بليل وصلى عمر - [ ص: 608 ] رضوان الله عليه - وجعل ينتظر الأعرابي ، وقد جاء الأعرابي ، قلت : فيجزئه إذا أتى عرفة ، ثم لم يدرك جمعا ؟ قال : هذا مضطر ، أرجو أن يجزئه ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدم الضعفة ولم يشهدوا معه . قلت : أليس من لم يقف بجمع عليه دم ؟ قال : نعم عليه دم . إذا لم يقف بجمع عليه دم ، لكن يأتي جمعا فيمر قبل الإمام ، قلت : قبل الإمام يجزئه ؟ قال : نعم ، قد قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - الضعفة .

وقال حنبل : قال عمي : من لم يقف غداة المزدلفة ليس عليه شيء ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدم الضعفة ، ولا ينبغي له أن يفعل إلا أن يكون معه ضعفة ، أو غلمة ، وعليه أن يبيت ليلة المزدلفة ، وإن لم يبت فعليه دم ، وسئل عمن لم يأت جمعا ؟ قال : ليس عليه شيء إذا أخطأ الطريق ، أو كان جاهلا فليس عليه شيء إذا لم ينزل ، وهو قول الحسن - رضي الله عنه - .

وقال حرب : قلت لأحمد : رجل أتى عرفة قبل طلوع الفجر ؟ قال : حجه جائز إذا وقف بعرفة قبل طلوع الفجر ، قيل : فإن لم يقف بجمع جائز .

[ ص: 609 ] وأحكام جمع - مضطربة - تتلخص في مسائل :

الأولى : أن الوقوف بها واجب في الجملة ; لما تقدم .

الثانية : أنه ليس بركن فمن فاته الوقوف بها حتى طلعت الشمس لعذر صح حجه ، وإن تعمد ترك إتيانها ، أو سلك إلى منى غير طريقها ، فكلامه يقتضي روا..... ، ينظر ألفاظ الأحاديث ; وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم : لما سألوه وهو واقف بعرفة كيف ؟ فقال : " الحج عرفة ، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج " ومعلوم أنه لو كان الحج يفوت بفوات المزدلفة : لما قال : " الحج عرفة " ، بل قال : الحج عرفة ومزدلفة .

وقوله : من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج : يدل على أمن الفوات ; لأن من أدرك العبادة لا تفوته البتة ، ولو كان ترك الوقوف بمزدلفة يفوت الحج ، لم يكن الواقف بعرفة مدركا . وهذا كقوله : " من أدرك ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الفجر " نعم . يمكن أن يوجد بعد الإدراك ما يبطل العبادة ، ولا يبطل الحج إلا الوطء . فأما ترك واجب مؤقت يكون تركه فواتا للحج فلا . ألا ترى أنه لما أراد أن يبين ما به يتم الحج قال : " من شهد معنا هذه الصلاة ، ووقف معنا حتى ندفع ، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا - فقد تم حجه وقضى تفثه " . فجعل الوقوف بمزدلفة بعد التعريف ، به يتم الحج ، ويقضى التفث ، إذ لم يبق بعده إلا التحلل برمي جمرة العقبة وما بعده ، فعلم بهذين الحديثين أنه بالوقوف بعرفة يدرك الحج ، ويؤمن فواته ، فلو كان بعده ركن مؤقت لم يدرك ، ولم يؤمن الفوات ، وبالوقوف بمزدلفة يتم الحج ، ويقضى التفث .

[ ص: 610 ] وأيضا : ما احتج به أحمد من إجماع الناس حيث قال : ليس أمره عندي كعرفة ، ولا أرى الناس جعلوها كذلك ، فذكر أنه لم ير أحدا من الناس سوى بينهما ، مع معرفته لمذاهب الصحابة والتابعين ، ومن بعدهم من أئمة الفتوى .

وعن ابن عمر قال : "من وقف بعرفة بليل فقد أدرك الحج ، وإن لم يدرك الموقف بجمع" .

وعن ابن عباس قال : " الحج عرفات ، والعمرة لا يجاوز بها البيت ، ومن لم يحل عند البيت فلا عمرة له" .

الثالثة : أن من فاته الوقوف بها والمبيت فعليه دم ، هذا هو المذهب المنصوص في رواية صالح وغيره .

ويحتمل كلامه في رواية حنبل ، وأبي طالب إذا تركها لعذر لا شيء عليه .

وخرج القاضي وابن عقيل فيمن لم يمر بها حتى طلعت الشمس ، أو أفاض منها أول الليل : لا شيء عليه ; تخريجا من إحدى الروايتين في المبيت بمنى ; لأن المبيت ليس بمقصود لنفسه ، وإنما يقصد للوقوف في غداتها ، وذلك ليس بواجب ، فما يقصد له أولى .

وهذا التخريج فاسد على المذهب ، باطل في الشريعة ; فإن بين الوقوف [ ص: 611 ] بمزدلفة والمبيت بمنى من المباينة في الكتاب والسنة ، ما لا يجوز معه إلحاق أحدهما بالآخر ، إلا كإلحاق الوقوف بين الجمرتين بالوقوف بعرفة .

وقولهم : ليس بمقصود قد منعه من يقول : إن الوقت يمتد إلى طلوع الفجر .

والتحقيق : أن المقصود هو الوقوف بالمشعر الحرام ، ووقته من أواخر الليل إلى طلوع الشمس كما سيأتي .

الرابعة : أنه يفوت وقتها بطلوع الفجر ، فمن لم يدركها قبل ذلك فعليه دم . هذا هو الذي ذكره القاضي وعامة أصحابنا بعده ; لقول أحمد : وعليه أن يبيت بالمزدلفة ، فإن لم يبت فعليه دم ; لأن الواجب هو المبيت بالمزدلفة . والمبيت إنما يكون بالليل كالمبيت بمنى ، فإذا طلع الفجر ذهب وقت المبيت ، وأصحاب هذا القول : لا يرون الوقوف بالمزدلفة واجبا ، وإنما الواجب عندهم المبيت بها ، ولا يرون الوقوف غداة جمع من جنس الواجب ، بل من جنس الوقوف بين الجمرتين ، وهذا القول في غاية السقوط لمن تدبر الكتاب والسنة ، ونصوص الإمام أحمد والعلماء قبله .

ونقل عنه صالح - في رجل فاته الوقوف بجمع وقد وقف بعرفة ، ومر بجمع بعد طلوع الشمس قال : عليه دم .

ونقل عنه المروذي : إذا وقف بعرفة ، فغلبه النوم حتى طلعت الشمس عليه دم . فأوجب الدم بفوات الوقوف بها إذا طلعت الشمس .

وكذلك قال في رواية أبي طالب : إذا لم يقف بجمع عليه دم ، ولكن يأتي [ ص: 612 ] جمعا فيقف قبل الإمام ويجزئه ، فجعل الموجب للدم عدم الوقوف ، فإذا وقف مع الإمام أو قبله فلا دم عليه ، وكذلك احتج بحديث عمر لما انتظر الأعرابي ، وإنما جاء بعد طلوع الفجر .

وعلى هذا إذا لم يقف قبل طلوع الفجر فعليه أن يقف بعد طلوعه ، وهذا هو الصواب أن وقت الوقوف لا يفوت إلى طلوع الشمس ، فمن وافاها قبل ذلك فقد وقف بها ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف بها وأفاض قبيل طلوع الشمس ، وهذا الوقوف المشروع في غداتها هو المقصود الأعظم من الوقوف بمزدلفة ، وبه يتم امتثال قوله : ( فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام ) الآية . وإليه الإشارة بقوله : "هذا هو الموقف وجمع كلها موقف ، وارفعوا عن بطن محسر" وهذا نظير الوقوف عشية عرفة ، وأحد الموقفين الشريفين ، فكيف لا يكون له تأثير في الوجوب وجودا وعدما ؟ أم كيف لا يكون هذا الزمان وقتا للنسك المشروع بمزدلفة ؟

وأيضا : فإن عروة بن مضرس أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بمزدلفة حين خرج لصلاة الفجر ، وقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من أدرك معنا هذه الصلاة ، ووقف معنا حتى ندفع ، وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارا فقد تم حجه ، وقضى تفثه " .

وهذا نص في مزدلفة تدرك بعد طلوع الفجر كما تدرك قبل الفجر ; لأن هذا السائل إنما وافاها بعد طلوع الفجر ، وأخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - بقضاء حجه ، ولم يخبره أن عليه دما ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ، ولا يصح أن يقال : فلعله دخل فيها قبل الفجر . . .

[ ص: 613 ] ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن من أدرك الصلاة والموقف بجمع ، ووقف قبل ذلك بعرفات ، فقد تم حجه ، ولم يذكر دما ولا غيره ، ولم يشترط إدراك مزدلفة قبل الفجر ، بل نص على الاكتفاء بإدراك الوقوف مع الناس .

وفي لفظ : " من أدرك إفاضتنا هذه " والإفاضة قبيل طلوع الشمس ، فأين يذهب عن البيان الواضح من النبي صلى الله عليه وسلم .

ولأن من أدرك عرفة قبيل الفجر فمحال أن يدرك المزدلفة تلك الليلة ، فلو كان هذا المدرك لعرفة قد فاتته المزدلفة وعليه دم لم يصح أن يقال : من أدرك عرفة أدرك الحج مطلقا ، فإنه قد فاته بعض الواجبات ، بل أعظم الواجبات ; ولذلك أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعون بعده : صرحوا بأن من طلع عليه الفجر بعرفة فقد أدرك الحج ، من غير ذكر لدم ، ولا تفويت الوقوف بالمزدلفة .

وأيضا : فإيجاب النسك باسم المبيت بمزدلفة ، لم ينطق كتاب ولا سنة ، ولا ذكره الصحابة والتابعون ، بل الذي في كتاب الله قوله : ( فاذكروا الله عند المشعر الحرام ) وهذا يقتضي التعقيب ; لقوله : ( فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام ) فمن أفاض من عرفات عند طلوع الفجر يذكر الله إذا أفاض بعد طلوع الفجر بنص الآية .

وأيضا : فإن الله أمر كل مفيض من عرفات بذكره عند المشعر الحرام ، فلو كان وقت هذا الواجب يفوت بطلوع الفجر ، لم يمكن كل مفيض امتثال هذا الأمر .

وأيضا : فإن وقت التعريف يمتد إلى طلوع الفجر ، فلا بد أن يكون عقيبه وقت [ ص: 614 ] للمشعر الحرام ; لئلا يتداخل وقت هذين النسكين .

وأما السنة : فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - ... الوقوف بالمزدلفة ، وشهود صلاة الصبح ، والوقوف معه ، وإنما جاء المبيت بمزدلفة تبعا لأن الوقوف بعد الفجر ، وإنما يكون ذلك بعد المبيت ، فكيف يكون المقصود تبعا والتبع مقصودا ؟ !

وأيضا : فما روى إبراهيم عن الأسود : " أن رجلا قدم على عمر بن الخطاب وهو بجمع بعدما أفاض من بعرفات ، فقال : يا أمير المؤمنين ، قدمت الآن ، فقال : أما كنت وقفت بعرفات ؟ قال : لا ، قال : فأت عرفة وقف بها هنيهة ، ثم أفض . فانطلق الرجل ، وأصبح عمر بجمع ، وجعل يقول : أجاء الرجل ؟ فلما قيل : قد جاء أفاض" رواه سعيد بإسناد صحيح ، واحتج به أحمد .

فهذا رجل إنما أدرك الناس قبل الإفاضة من جمع ; لأن مجيئه إلى مزدلفة قبل التعريف لا أثر له ، فإن مزدلفة إنما يصح المبيت والوقوف بها بعد عرفة ، ومع هذا لم يأمره عمر بدم ، بل انتظره ليقف مع الناس ، ولو كان وقت الوجوب قد ذهب لما كان لانتظاره معنى .

وأيضا : فإن الوقوف بالمزدلفة بعد الوقوف بعرفة بنص القرآن والسنة . والعبادات المتعاقبة لا يجوز دخول وقت إحداهما في وقت الأخرى ، كأوقات الصلوات .

[ ص: 615 ] ووقت عرفة يمتد إلى طلوع الفجر ، فلو كان وقت مزدلفة ينتهي إلى ذلك الوقت ، لكان وقت مزدلفة بعض وقت عرفة ، وذلك لا يجوز .

وأما قولهم : المبيت بمزدلفة واجب .

قلنا : هذا غير مسلم ، فإن من أدركها في النصف الثاني ، أو قبيل طلوع الفجر لا يسمى بائتا بها ، ألا ترى أن المبيت بمنى لما كان واجبا ، لم يجز أن يبيت بها لحظة من آخر الليل حتى يبيت بها معظم الليل . نعم من أدركها أول الليل فعليه أن يبيت بها إلى آخر الليل ; لأجل أن الوقوف المطلوب هو في النصف الآخر ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، وصار هذا مثل الوقوف الواجب بعرفة هو آخر النهار ، فإذا نزلوا بنمرة أقاموا إلى نصف النهار لانتظار الوقوف ، لا لأن النزول بنمرة هو المقصود ، ولو تأخر الإنسان إلى وقت الوقوف أجزأ ، كذلك هنا .

الخامسة : من وافاها أول الليل : فعليه أن يبيت بها ، بمعنى أن يقيم بها ، لا يجوز له الخروج منها إلى آخر الليل .

قال أحمد - في رواية حنبل - : وعليه أن يبيت بمزدلفة ، وإن لم يبت فعليه دم .

ثم إن كان من أهل الأعذار ; مثل النساء ، والصبيان ، والمرضى ، ومن يقوم بهم فله الدفع منها في آخر الليل من غير كراهة كما تقدم .

وأما غيرهم فالسنة له أن يقيم إلى أن يقف بعد طلوع الفجر .

وفي الوقت الذي يجوز الدفع فيه روايتان :

إحداهما : يجوز الدفع بعد نصف الليل ، قال حرب : قلت لأحمد : رجل خرج من المزدلفة نصف الليل ، فأتى [ ص: 616 ] منى وعليه ليل يرمي الجمار ؟ قال : نعم أرجو أن لا يكون به بأس ، قلت لأحمد : فإنه مضى من حتى أتى مكة فطاف طواف الزيارة قبل أن يطلع الفجر ؟ قال : لا يمكنه أن يأتي مكة بليل .

ولعل حربا سأل أحمد عن هاتين المسألتين في وقتين ; لأن في أول المسألة أنه أباح الإفاضة نصف الليل ، وفي آخرها قال : لا يجوز الخروج من جمع حتى يغيب القمر ، وبينهما زمن جيد . وقال - عنه - في موضع آخر وقد سئل عن الإفاضة من جمع من غير عذر ؟ فقال : أرجو ، إلا أنه قال : في وجه السحر . وهذا قول القاضي ومن بعده من أصحابنا ، لما روي عن عائشة قالت : " أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - بأم سلمة ليلة النحر ، فرمت الجمرة قبل الفجر ، ثم مضت ، فأفاضت ، وكان ذلك اليوم الذي يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعني عندها " رواه أبو داود .

وفي رواية لابن أبي حاتم ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن أم سلمة [ ص: 617 ] قالت : " قدمني النبي - صلى الله عليه وسلم - فيمن قدم من أهله ليلة المزدلفة ، قالت : فرميت الجمرة بليل ، ثم مضيت إلى مكة ، فصليت بها الصبح ، ثم رجعت إلى منى " .

قالوا : ومن المنزل إلى مكة نحو من سبعة أميال أو أكثر ، ومن موقف الإمام بعرفة إلى باب المسجد الحرام بريد ، اثنا عشر ميلا .

ومن يسير إلى منى ويرمي الجمرة ويطوف للإفاضة ، ثم يصلي الصبح ، لا يقطع سبعة أميال إلا أن يكون أفاض بليل .

ولأن أكثر الشيء يقوم مقام جميعه ، فإذا بات أكثر الليل بالمزدلفة صار في حكم من بات جميعها ، لما رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - في الإفاضة منها قبل طلوع الفجر .

فعلى هذا : العبرة بنصف الليل المنقضي بطلوع الفجر أو بطلوع . . .

والرواية الثانية : لا تجوز الإفاضة قبل مغيب القمر ، وإنما يغيب قبل الفجر بمنزلتين من منازل القمر ، وهما أقل من ساعتين .

قال - في رواية حرب أيضا - : لا يجوز أن يخرج من جمع حتى القمر . وأكثر نصوصه على هذا ; لأن الذي في الأحاديث الصحيحة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرخص للضعفة أن يفيضوا من جمع بليل ، ولم يؤقته ، بل إنما قدمهم في وجه السحر .

وكان ابن عمر : " يقدم ضعفة أهله ، فيقومون عند المشعر الحرام [ ص: 618 ] بالمزدلفة ، فيذكرون الله ما بدا لهم ، ثم يدفعون قبل أن يقف الإمام ، وقبل أن يدفع بهم ، فمنهم من يقدم منى لصلاة الفجر ، ومنهم من يقدم بعد ذلك ، فإذا قدموا رموا الجمرة ، وكان ابن عمر يقول : " أرخص في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم " متفق عليه .

ولم يجئ توقيت في حديث إلا حديث أسماء ، رواه عبد الله الهر مولاها : " أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة ، فقامت تصلي ، فصلت ساعة ، ثم قالت : يا بني هل غاب القمر ؟ قلت : لا ، فصلت ساعة ، قالت : يا بني هل غاب القمر ؟ قلت : نعم ، قالت : فارتحلوا ، فارتحلنا ، ومضينا حتى رمت الجمرة ، ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها فقلت لها : يا هنتاه ما أرانا إلا قد غلسنا ؟ قالت : يا بني إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للظعن " متفق عليه .

فهذه أسماء : قد روت الرخصة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعلتها مؤقتة بمغيب القمر إذ كانت هي التي روت الرخصة وليس في الباب شيء مؤقت أبلغ من هذا . وسائر الأحاديث لا تكاد تبلغ هذا الوقت . وحديث أم سلمة لا يخالفه ، فإن ستة أميال : تقطع في أقل من ثلاث ساعات بكثير ، بل في قريب من ساعتين ، فإذا قامت بعد مغيب القمر : أدركت الفجر بمكة إدراكا حسنا وأما طوافها : ...

[ ص: 619 ] وعلى هذا ، فيكون المبيت واجبا إلى أن يبقى سبعا الليل إذا جعل آخره طلوع الشمس ، وذلك أقل من الثلث ، ولا يصلون إلى جمع إلا بعد أن يمضي شيء من الليل ، فتكون الإفاضة من جمع جائزة إذا بقي من وقت الوقوف الثلث . وتقدير الرخصة بالثلث له نظائر في الشرع ، والتقدير بالأسباع له نظائر خصوصا في المناسك ، فإن أمر الأسباع فيه غالب ، فيجوز أن يكون الوقوف بمزدلفة مقدرا بالأسباع .

التالي السابق


الخدمات العلمية