صفحة جزء
[ ص: 43 ] فصل في ترجيح الاشتغال بالعلم على الصلاة ، والصيام ، وغيرهما من العبادات القاصرة على فاعلها قد تقدمت الآيات الكريمات في هذا المعنى كقوله تعالى : { هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } ، وقوله تعالى : { إنما يخشى الله من عباده العلماء } ، وغير ذلك ، ومن الأحاديث ما سبق كحديث ابن مسعود : { لا حسد إلا في اثنتين } ، وحديث : { من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين } ، وحديث : { إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث } ، وحديث : { فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم } ، وحديث : { فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد } ، وحديث : { من سلك طريقا يلتمس فيه علما } ، وحديث : { من دعا إلى هدى } ، وحديث : { لأن يهدي الله بك رجلا واحدا } ، وغير ذلك مما تقدم ، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : { خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا في المسجد مجلسان : مجلس يتفقهون ، ومجلس يدعون الله ، ويسألونه ، فقال : كلا المجلسين إلى خير ، أما هؤلاء فيدعون الله تعالى ، وأما هؤلاء فيتعلمون ، ويفقهون الجاهل . هؤلاء أفضل ، بالتعليم أرسلت ثم قعد معهم } رواه أبو عبد الله بن ماجه ، ، وروى الخطيب الحافظ أبو أحمد بن علي بن ثابت البغدادي في كتابه ( كتاب الفقيه والمتفقه ) أحاديث ، وآثارا كثيرة بأسانيدها المطرقة منها عن ابن عمر رضي الله عنه ما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا قالوا : يا رسول الله ، وما رياض الجنة ؟ قال : حلق الذكر فإن لله سيارات من الملائكة ، يطلبون حلق الذكر ، فإذا أتوا عليهم حفوا بهم . } وعن عطاء قال : مجالس الذكر هي مجالي الحلال والحرام كيف تشتري ، وتبيع ، وتصلي ، وتصوم ، وتنكح ، وتطلق ، وتحج ، وأشباه هذا .

وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { مجلس فقه خير من عبادة ستين سنة } ، وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { يسير الفقه خير من كثير العبادة } ، وعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { فقيه واحد أفضل عند الله من ألف عابد } ، وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { أفضل العبادة الفقه } [ ص: 44 ] ، وعن أبي الدرداء : ( ما نحن لولا كلمات الفقهاء ؟ ) ، وعن علي رضي الله عنه : ( العالم أعظم أجرا من الصائم القائم الغازي في سبيل الله ) ، وعن أبي ذر ، وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا : ( باب من العلم نتعلمه أحب إلينا من ألف ركعة تطوع ، وباب من العلم نعلمه عمل به أو لم يعمل ، أحب إلينا من مائة ركعة تطوعا ) ، وقالا : سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { إذا جاء الموت طالب العلم ، وهو على هذه الحال مات وهو شهيد . } . وعن أبي هريرة رضي الله عنه : ( لأن أعلم بابا من العلم في أمر ، ونهي ، أحب إلي من سبعين غزوة في سبيل الله ) ، وعن أبي الدرداء : ( مذاكرة العلم ساعة خير من قيام ليلة ) ، وعن الحسن البصري ، قال : لأن أتعلم بابا من العلم فأعلمه مسلما أحب إلي من أن تكون لي الدنيا كلها في سبيل الله تعالى ، وعن يحيى بن أبي كثير : دراسة العلم صلاة . وعن سفيان الثوري ، والشافعي : ( ليس شيء بعد الفرائض أفضل من طلب العلم ) ، وعن أحمد بن حنبل ، وقيل له : أي شيء أحب إليك ؟ : ( أجلس بالليل أنسخ أو أصلي تطوعا ، قال فنسخك تعلم بها أمر دينك لهو أحب ) ، وعن مكحول : ما عبد الله بأفضل من الفقه . وعن الزهري : ما عبد الله بمثل الفقه . وعن سعيد بن المسيب قال : ليست عبادة الله بالصوم ، والصلاة ، ولكن بالفقه في دينه . يعني ليس أعظمها ، وأفضلها الصوم ، بل الفقه . وعن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة : أقرب الناس من درجة النبوة أهل العلم ، وأهل الجهاد فالعلماء دلوا الناس على ما جاءت به الرسل ، وأهل الجهاد جاهدوا على ما جاءت به الرسل ، وعن سفيان بن عيينة : أرفع الناس عند الله تعالى منزلة من كان بين الله وعباده ، وهم الرسل ، والعلماء .

وعن سهل التستري : من أراد النظر إلى مجالس الأنبياء فلينظر إلى مجالس العلماء فاعرفوا لهم ذلك .

فهذه أحرف من أطراف ما جاء في ترجيح الاشتغال ( بالعلم ) على العبادة ، وجاء عن جماعات من السلف ممن لم أذكره نحو ما ذكرته ، والحاصل أنهم متفقون على أن الاشتغال بالعلم أفضل من الاشتغالات بنوافل الصوم ، والصلاة ، والتسبيح ، ونحو ذلك من نوافل عبادات البدن ، ومن دلائله سوى ما سبق أن نفع العلم يعم صاحبه ، والمسلمين ، والنوافل المذكورة مختصة به ، ولأن العلم مصحح فغيره من العبادات مفتقر إليه ، ولا ينعكس ، ولأن العلماء ورثة الأنبياء ، ولا يوصف المتعبدون بذلك ، ولأن العابد تابع للعالم مقتد به مقلد له في عبادته وغيرها واجب عليه طاعته ، ولا [ ص: 45 ] ينعكس ; ولأن العلم تبقى فائدته وأثره بعد صاحبه ، والنوافل تنقطع بموت صاحبها ; ولأن العلم صفة لله تعالى ; ولأن العلم فرض كفاية أعني العلم الذي كلامنا فيه ، فكان أفضل من النافلة ، وقد قال إمام الحرمين رحمه الله في كتابه الغياثي : فرض الكفاية أفضل من فرض العين من حيث إن فاعله يسد مسد الأمة ، ويسقط الحرج عن الأمة ، وفرض العين قاصر عليه ، وبالله التوفيق .

فصل .

فيما أنشدوه في فضل طلب العلم وهذا واسع جدا ، ولكن من عيونه ما جاء عن أبي الأسود الدؤلي ظالم بن عمرو التابعي : رحمه الله

العلم زين وتشريف لصاحبه فاطلب هديت فنون العلم والأدبا     لا خير فيمن له أصل بلا أدب
حتى يكون على ما زانه حدبا     كم من كريم أخي عي وطمطمة
فدم لدى القوم معروف إذا انتسبا     في بيت مكرمة آباؤه نجب
كانوا الرءوس فأمسى بعدهم ذنبا     وخامل مقرف الآباء ذي أدب
نال المعالي بالآداب والرتبا     أمسى عزيزا عظيم الشأن مشتهرا
في خده صعر قد ظل محتجبا     العلم كنز وذخر لا نفاد له
نعم القرين إذا ما صاحب صحبا     قد يجمع المرء مالا ثم يحرمه
عما قليل فيلقى الذل والحربا     وجامع العلم مغبوط به أبدا
ولا يحاذر منه الفوت والسلبا     يا جامع العلم نعم الذخر تجمعه
لا تعدلن به درا ولا ذهبا

غيره :

تعلم فليس المرء يولد عالما     وليس أخو علم كمن هو جاهل
وإن كبير القوم لا علم عنده     صغير إذا التفت عليه المحافل

.

ولآخر :

علم العلم من أتاك لعلم     واغتنم ما حييت منه الدعاء
وليكن عندك الغني إذا ما     طلب العلم والفقير سواء

[ ص: 46 ]

ولآخر :

ما الفخر إلا لأهل العلم إنهمو     على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه     والجاهلون لأهل العلم أعداء

.

ولآخر :

صدر المجالس حيث حل لبيبها     فكن اللبيب وأنت صدر المجلس

.

ولآخر :

عاب التفقه قوم لا عقول لهم     وما عليه إذا عابوه من ضرر
ما ضر شمس الضحى والشمس طالعة     أن لا يرى ضوءها من ليس ذا بصر



التالي السابق


الخدمات العلمية