صفحة جزء
قال المصنف : رحمه الله تعالى ( فإن تيمم وصلى ثم علم أنه كان في رحله ماء نسيه لم تصح صلاته وعليه الإعادة على المنصوص ; لأنها طهارة واجبة فلا تسقط بالنسيان ، كما لو نسي عضوا من أعضائه فلم يغسله . وروى أبو ثور عن الشافعي رحمهما الله : أنه قال : تصح صلاته ولا إعادة عليه ; لأن النسيان عذر حال بينه وبين الماء فسقط الفرض بالتيمم كما لو حال بينهما سبع . وإن كان في رحله ماء وأخطأ رحله فطلبه فلم يجده فتيمم وصلى ، ففيه وجهان ، قال أبو علي الطبري : لا تلزمه الإعادة ; لأنه غير مفرط في الطلب ، ومن أصحابنا من قال : تلزمه لأنه فرط في حفظ الرحل ) .


( الشرح ) الرحل : منزل الرجل من حجر أو مدر أو شعر أو وبر . كذا نقله الأزهري وسائر أهل اللغة ، قالوا : ويقع أيضا اسم الرحل على متاعه وأثاثه ومنه البيت المشهور :

ألقى الصحيفة كي يخفف رحله

[ ص: 305 ] وكلام المصنف والفقهاء في هذا الباب يتناول الرحل بالمعنيين ، وقد غلط وجهل من أنكر على الفقهاء إطلاقه بمعنى المتاع ، والله أعلم . ثم في الفصل خمس مسائل ذكر المصنف منها مسألتين : ( إحداها ) إذا تيمم بعد الطلب الواجب من رحله وغيره ، وصلى ثم علم أنه كان في رحله ماء يجب استعماله ، وكان علمه قبل التيمم ثم نسيه فالمنصوص في مختصر المزني وجامعه الكبير والأم وجميع كتب الشافعي أنه يلزمه إعادة الصلاة .

وقال أبو ثور : سألت أبا عبد الله فقال : لا إعادة عليه هكذا حكاه الجمهور عن أبي ثور .

وقال ابن المنذر في الأشراف ، والشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والماوردي والمصنف وآخرون : قال أبو ثور قال الشافعي : لا إعادة ، واختلف الأصحاب في المسألة على طرق . أصحها وأشهرها : أن فيها قولين أصحهما وجوب الإعادة وهو الجديد ، والثاني : لا إعادة وهو القديم ، وقد ذكر المصنف دليلهما وهذه طريقة أبي إسحاق المروزي . وقد قدمنا في فصل ترتيب الوضوء فرعا في مسائل من هذا القبيل في كل مسألة قولان . والطريق الثاني : القطع بوجوب الإعادة كما نص عليه الشافعي في كتبه ، وهؤلاء اختلفوا في الجواب عن رواية أبي ثور ، فقال كثيرون : لعله أراد بأبي عبد الله مالكا أو أحمد ، وضعف المحققون هذا بأن أبا ثور لم يلق مالكا ، وليس معروفا بالرواية عن أحمد ، وإنما هو صاحب الشافعي وأحد رواة كتبه القديمة كما قدمناه في مقدمة الكتاب ، ولأن مذهب أحمد وجوب الإعادة ، وتأول هؤلاء روايته على أن غيره أدرج الماء في رحله وهو لا يعلم ، فالصحيح في هذه الصورة أنه لا إعادة ، كما سنذكره إن شاء الله تعالى ، وممن قال بهذا التأويل أبو الفياض البصري حكاه عنه الماوردي . الطريق الثالث : أن المسألة على حالين فنصه على وجوب الإعادة إذا كان الرحل صغيرا تمكن الإحاطة به ، ورواية أبي ثور إذا كان كبيرا لا تمكن الإحاطة به .

حكاه الماوردي عن أبي علي بن أبي هريرة ، وحكاه الشاشي عن أبي الفياض . ( المسألة الثانية ) : إذا علم في موضع نزوله بئرا ثم نسيها وتيمم وصلى ثم [ ص: 306 ] ذكرها فهو كنسيان الماء ، ففيه الطريقان الأولان ، فأما إذا لم يعلم البئر أصلا ، ثم علمها بعد صلاته بالتيمم ، فقال صاحب الشامل والشيخ نصر وغيرهما : قال الشافعي في الأم : لا إعادة ، وقال في البويطي : تجب الإعادة ، قالوا : وأراد بالأول إذا كانت البئر خفية . وبالثاني إذا كانت ظاهرة ، وذكر صاحب الحاوي فيها ثلاثة أوجه . أحدها : تجب الإعادة ، وهو قول ابن خيران . والثاني : لا تجب ، وهو قول ابن سريج ، والثالث : إن كانت ظاهرة الأعلام بينة الآثار وجبت الإعادة لتقصيره ، وإن كانت خفية لم تجب لعدم تقصيره ، قال : وبهذا قال الشيخ أبو حامد وأبو الفياض وجمهور أصحابنا البغداديين والبصريين ، وهذا الثالث هو الصحيح ، ولو كان الماء يباع فنسي أن معه ثمنه فصلى بالتيمم ثم ذكر ، فالمذهب الصحيح الذي قطع به الدارمي والشيخ نصر في كتابيه الانتخاب والكافي أنه كنسيان الماء في رحله ، وفيه احتمال لابن كج حكاه الرافعي .

( المسألة الثالثة ) : إذا أدرج غيره الماء في رحله ولم يعلم صاحب الرحل إلا بعد صلاته بالتيمم ، فطريقان مشهوران حكاهما الصيدلاني وإمام الحرمين والغزالي وصاحب العدة وآخرون . أحدهما : أنه على القولين في نسيان الماء في رحله لكن أصحهما هنا أنه لا إعادة وهناك وجوب الإعادة . والطريق الثاني : القطع بعدم الإعادة ; لعدم تقصيره وهذا الطريق صححه إمام الحرمين والغزالي في البسيط ، ثم الجمهور أطلقوا المسألة كما ذكرنا .

وقال البغوي : إن طلب في رحله فلم يجد فذهب للطلب من موضع آخر فأدرج في غيبته فلا إعادة ، وإن لم يطلب من رحله لعلمه أن لا ماء فيه ، وكان قد أدرج ولم يعلم فالأصح وجوب الإعادة لتقصيره .

( الرابعة ) : لو كان في رحله ماء فطلب الماء في رحله ، فلم يجده فتيمم وصلى ثم وجده ، فإن لم يمعن في الطلب وجبت الإعادة ، وإن أمعن حتى ظن العدم فوجهان ، وقيل قولان ، وهما مخرجان من القولين في الخطأ في القبلة ، [ ص: 307 ] أصحهما : وجوب الإعادة وبه قطع الفوراني لندوره . والثاني : لا ; لعدم تقصيره .

( الخامسة ) : إذا كان في رحله ماء فأخطأ رحله بين الرحال لظلمة أو غيرها فطلبه فلم يجده فصلى بالتيمم ثم وجده ، فإن لم يمعن في الطلب وجبت الإعادة ، وإن أمعن فثلاثة طرق . أصحها وأشهرها : أن فيه وجهين أصحهما لا إعادة .

والثاني : تجب وبهذا الطريق قطع المصنف وكثيرون ، ودليلهما في الكتاب .

( والطريق الثاني ) : القطع بعدم الإعادة ، وبه قطع الماوردي والفوراني والبغوي .

( والثالث ) : إن وجده قريبا وجبت الإعادة ، وإن كان بعيدا فلا إعادة حكاه الرافعي عن الحليمي ، قال الرافعي : والمذهب أنه لا إعادة مطلقا ، وقال الروياني في الحلية : إن أضل رحله فلا إعادة ، وإن أضله بين الرحال لزمه الإعادة ، والمشهور أنه لا فرق والله أعلم .

( فرع ) لو غصب رحله الذي به الماء وحيل بينه وبينه تيمم ولا إعادة بلا خلاف ، كما لو حال دونه سبع ; ولأنه غير مفرط بخلاف الناسي . ولو ضل عن القافلة أو عن الماء صلى بالتيمم ولا إعادة بالاتفاق ، وممن صرح به الروياني وصاحب العدة والشاشي وصاحب البيان وآخرون وهو واضح والله أعلم .

( فرع ) قال أبو العباس الجرجاني في كتابه المعاياة : لو نسي الماء في رحله وصلى بالتيمم لزمه الإعادة على الأصح ، ولو عجز عن استعمال الماء فتيمم وصلى لم تلزمه الإعادة ، ولو صلى بنجاسة نسيها أو عجز عن إزالتها لزمه الإعادة ، فسوينا بين العجز والنسيان في النجاسة ، وفرقنا بينهما في التيمم ، والفرق : أنه أتى في التيمم ببدل بخلاف النجاسة .

( فرع ) قد ذكر المصنف هنا أبا ثور وأبا علي الطبري وتقدم ذكر أبي علي في باب الشك في نجاسة الماء ، وهناك بينا اسمه وحاله ، وتقدم بيان حال أبي ثور في آخر الفصول التي في مقدمة الكتاب ، وأما قول الغزالي في [ ص: 308 ] الوسيط في نسيان الماء في رحله ، وفيه قول قديم كما في نسيان الفاتحة وترتيب الوضوء ناسيا ، فكذا وقع في النسخ وصوابه : حذف لفظة ناسيا .

( فرع ) في مذاهب العلماء فيمن نسي الماء في رحله وصلى بالتيمم ثم علمه فالصحيح في مذهبنا : وجوب الإعادة ، وبه قال أبو يوسف وأحمد ورواية عن مالك ، وقال أبو حنيفة وأبو ثور وداود : لا إعادة وهي رواية عن مالك وحكاه محمد بن جرير عن سفيان الثوري . واحتجوا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه } حديث حسن رواه ابن ماجه والبيهقي بإسناد حسن ; ولأنه صلى على الوجه الذي يلزمه ذلك الوقت فلم تلزمه إعادة ; ولأن النسيان عذر حال بينه وبين الماء فأشبه السبع ; ولأنه صلى ولا يعلم معه ماء فلم تلزمه إعادة كمن صلى ثم رأى بقربه بئرا .

واحتج أصحابنا بأن التيمم لا يكفي واجد الماء بالاتفاق إذا لم يكن مريضا ونحوه ، وهذا واجد والنسيان لا ينافي الوجود فهو واجد غير ذاكر ; ولأنه شرط للصلاة فلم يسقط بالنسيان كستر العورة ، وغسل بعض الأعضاء ، وكمريض صلى قاعدا متوهما عجزه عن القيام وكان قادرا ، وكحاكم نسي النص فحكم بالقياس ، وكمن نسي الرقبة في الكفارة فصام ، وكمن كان الماء في إناء على كتفه فنسيه فتيمم وصلى فإنه يعيد بالاتفاق ، ذكره القاضي أبو الطيب .

والجواب عن الحديث الذي احتجوا به : أن أصحابنا وغيرهم من أهل الأصول اختلفوا فيه هل هو مجمل أم عام ؟ فإن قلنا : مجمل توقف الاحتجاج به على بيان المراد فلا حجة لهم فيه ، وإن قلنا عام وهو الأصح فقد خص منه غرامات المتلفات ، ومن صلى محدثا ناسيا ، ومن نسي بعض أعضاء طهارته ، ومن نسي ساتر العورة وغير ذلك مما ذكرناه في دليلنا وغيره مما هو معروف ، فكذا يخص منه نسيان الماء في رحله قياسا على نسيان بعض الأعضاء وغيره مما ذكرناه ، فإن التخصيص بالقياس جائز ، فهذا هو الجواب الذي نعتقده ونعتمده ، وأما أصحابنا في كتب المذهب فيقولون : المراد رفع الإثم بدليل وجوب غرامة الإتلاف ناسيا والقتل خطأ ، وهذا ضعيف ; لأنه إن كان الحديث عاما فليس تخصيصه منحصرا في رفع [ ص: 309 ] الإثم ، فإن أكل الناسي في الصوم وكلام الناسي في الصلاة وغير ذلك لا يضر ، وإن كان مجملا فيتوقف فيه إلى البيان .

والجواب عن قولهم : صلى على الوجه الذي يلزمه : أنه إن أرادوا يلزمه في نفس الأمر فلا نسلمه ، وإن أرادوا في الظاهر وبالنسبة إلى اعتقاده فينتقض بمن نسي بعض الأعضاء ، وعن القياس على السبع أنه لا تقصير فيه بخلاف مسألتنا ، ولهذا اتفقنا على أن السبع لو حال بينه وبين ساتر العورة صحت صلاته عاريا ، ولو تركها ناسيا أعاد . وأما قياسهم على البئر ، فإن كانت ظاهرة لزمه الإعادة كما سبق فلا نسلم حكمها ، وإن كانت خفية فالفرق أنه لا ينسب فيها إلى تفريط بخلاف النسيان والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية