صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى : ( وإن وجد بعض ما يكفيه ففيه قولان ، قال في الأم : يلزمه أن يستعمل ما معه ثم يتيمم لقوله تعالى : { فلم تجدوا ماء فتيمموا } وهذا واجد للماء فيجب ألا يتيمم وهو واجد له ; ولأنه مسح أبيح للضرورة فلا ينوب إلا في موضع الضرورة كالمسح على الجبيرة ، وقال في القديم والإملاء : يقتصر على التيمم ; لأن عدم بعض الأصل بمنزلة عدم الجميع في جواز الاقتصار على البدل ، كما نقول فيمن وجد بعض الرقبة في الكفارة ) .


( الشرح ) قوله : ( مسح أبيح للضرورة ) احتراز من مسح الخف ، وإذا وجد المحدث حدثا أصغر أو أكبر بعض ما يكفيه من الماء لطهارته ففي وجوب استعماله القولان اللذان ذكرهما المصنف بدليلهما ، واتفق الأصحاب على أن الأصح وجوب استعماله ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد وداود ، وحكاه ابن الصباغ عن عطاء والحسن بن صالح ومعمر بن راشد . والقول الآخر هو مذهب مالك وأبي حنيفة وسفيان الثوري والأوزاعي والمزني وابن المنذر . قال البغوي : وهو قول أكثر العلماء ، والمختار الوجوب ، ودليله مع ما ذكر المصنف حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { وإذا أمرتكم بشيء فافعلوا منه ما استطعتم } رواه البخاري [ ص: 310 ] ومسلم .

. والفرق بينه وبين بعض الرقبة في الكفارة بالنص والمعنى ، أما النص فقوله تعالى : { فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا فمن لم يجد فصيام شهرين } معناه لم يجد رقبة ، وهذا لم يجدها ، وقال تعالى في التيمم { فلم تجدوا ماء } وهذا واجد ماء .

وأما المعنى ; فلأن إيجاب بعض الرقبة مع الشهرين جمع بين البدل والمبدل ، وذلك غير لازم . وفي مسألتنا التيمم يقع عن العضو الذي لم يغسله لا عن المغسول ; ولأن عتق بعضها لا يفيد شيئا لا يفيده الصوم ، وغسل بعض الأعضاء يفيد ما لا يفيده وهو رفع الحدث عن ذلك العضو . قال الفوراني والمتولي والروياني وصاحبا العدة والبيان : اختلف أصحابنا في أصل هذين القولين ، فقيل : مأخوذان من تفريق الوضوء إن جوزناه وجب استعماله وإلا فلا . قالوا : والصحيح أنهما قولان مستقلان غير مأخوذين من شيء . قال أصحابنا : وإذا قلنا : لا يجب استعماله ، فهو مستحب . قالوا : وإذا أوجبناه وجب تقديمه على التيمم ; لأن التيمم لعدم الماء لا يصح مع وجوده بخلاف ما سنذكره في تيمم الجريح إن شاء الله تعالى . قالوا : فيستعمله المحدث في وجهه وما بعده على الترتيب ثم يتيمم لما بقي ، ويستعمله الجنب أولا في أي بدنه شاء . قال أصحابنا : ويستحب أن يبدأ بمواضع الوضوء ورأسه وأعالي بدنه ، وأيهما أولى ؟ فيه خلاف . نقل صاحبا البحر والبيان عن الأصحاب أنه يستحب أن يبدأ برأسه وأعاليه .

قال صاحب البيان : ولو قيل : يستحب أن يبدأ بأعضاء الوضوء كان محتملا . وقطع البغوي وغيره باستحباب تقديم أعضاء الوضوء والرأس ، والمختار تقديم أعضاء الوضوء ثم الرأس ثم الشق الأيمن ، كما يفعل من يغسل جميع البدن ، هذا إذا كان جنبا غير محدث ، فإن كان جنبا محدثا ، فإن قلنا بالمذهب : إن الحدث يندرج في الجنابة - فالحكم كما لو كان جنبا فقط ، وإن قلنا : لا يندرج وكان الماء يكفي للوضوء وحده لزمه أن يتوضأ عن الحدث ويتيمم عن الجنابة ، وهو مخير في تقديم [ ص: 311 ] الوضوء على تيمم الجنابة وتأخيره ، إذ لا يجب الترتيب بين الطهارتين لكن يستحب تقديم الوضوء .

هذا كله إذا وجد ترابا تيمم به ، فإن لم يجده فطريقان في التهذيب وغيره .

( أحدهما ) : أن استعماله هذا الماء الناقص على القولين ، ( وأصحهما ) القطع بوجوب استعماله ، وبه قطع المتولي ، ونقله الروياني عن الأصحاب ; لأنه لا بدل هنا فوجب استعماله بلا خلاف كبعض ما يستر العورة ، بخلاف بعض الرقبة في الكفارة فإنه لا يعتقه العاجز عن الصوم ; لأن الكفارة على التراخي . والله أعلم .

( فرع ) لو لم يجد ماء ووجد ثلجا وبردا لا يقدر على إذابته ، فإن كان جنبا أو حائضا فوجوده كعدمه فيتيمم ويصلي ولا إعادة عليه - على المذهب - وبه قطع الجمهور . وحكى الدارمي وجها أن الإعادة تجب ، ذكره في أول باب المياه ، وقد ذكرته أنا هناك ، وإن كان محدثا ففي وجوب استعماله في الرأس طريقان في التهذيب وغيره ، قالوا : أصحهما لا يلزمه قولا واحدا ; لأن الترتيب واجب فلا يمكن استعماله في الرأس قبل التيمم عن الوجه واليدين ، ولا يمكن التيمم مع وجود ما يحكم بوجوب استعماله .

والطريق الثاني : أنه على القولين وبه قطع الجرجاني في المعاياة . قال الجرجاني والروياني والرافعي وآخرون : فإذا قلنا يجب استعماله تيمم على الوجه واليدين تيمما واحدا ، ثم مسح به الرأس ثم تيمم على الرجلين للترتيب ، ولا يؤثر هذا الماء في صحة التيمم للوجه واليدين ; لأنه لا يجب استعماله فيها ، فوجوده بالنسبة إليهما كالعدم ، وهذا الطريق أقوى في الدليل ; لأنه واحد ، والمحذور الذي قاله الأول يزول بما ذكرناه .

( فرع ) إذا لم يجد ماء ووجد ما يشتري به بعض ما يكفيه ففي وجوب شراه القولان في وجوب استعماله إذا كان معه .

( فرع ) إذا لم يجد شيئا من الماء ووجد ترابا لا يكفيه للوجه واليدين ، بل لأحدهما فطريقان .

( أحدهما ) : للبغوي والشاشي وغيرهما ، [ ص: 312 ] أصحهما : القطع بوجوب استعماله ، وبه قطع القاضي حسين ، وكما لو وجد بعض ما يستر العورة أو أحسن بعض الفاتحة .

( والثاني ) : على القولين واختاره الشاشي في المعتمد ، وضعف الطريق الأول ، وقال : لو قيل لا يجب استعماله قولا واحدا لكان أولى ، ووجهه بما ليس بتوجيه ، فالصواب القطع بوجوب استعماله .

( فرع ) لو كان عليه نجاسات فوجد ما يغسل بعضها دون بعض فالمذهب الصحيح المشهور الذي قطع به الجمهور : القطع بوجوب غسل ما أمكن كبعض الفاتحة والسترة ، وحكى القاضي حسين في تعليقه وجها : أنه لا يجب ; لأنه لا يسقط فرض الصلاة بخلافهما .

( فرع ) قال أصحابنا : لو تيمم لعدم الماء ثم رأى ماء ، فإن احتمل عنده أنه يكفيه لطهارته بطل تيممه ، وإن علم بمجرد رؤيته أنه لا يكفيه فهو على القولين في وجوب استعماله ابتداء إن أوجبناه بطل تيممه وإلا فلا .

( فرع ) لو منع المتطهر من الوضوء إلا منكوسا فهل له التيمم ؟ أم يلزمه غسل الوجه لتمكنه منه ؟ فيه القولان فيمن وجد بعض ما يكفيه ، حكاه صاحب البحر عن والده قال : " ولا تلزمه إعادة الصلاة إذا امتثل المأمور به على القولين " .

( قلت ) : في وجوب الإعادة احتمال ، إلا أن الأظهر أنها لا تجب كما ذكره ; لأنه في معنى من غصب ماؤه ، ولا إعادة عليه قطعا .

( فرع ) قال صاحبا الحاوي والبحر : لو مات رجل معه ماء لنفسه لا يكفيه لغسل جميع بدنه ، فإن قلنا : يجب استعمال الناقص وجب على رفيقه غسله به وتيممه للباقي . وإن قلنا : لا يجب اقتصر به على التيمم قالا : فعلى هذا لو غسله به ضمن قيمته لورثته ; لأنه أتلفه من غير حاجة ، وفيما قالاه نظر ; لأن أصحابنا اتفقوا على استحباب استعمال الناقص فينبغي أن لا يضمن ، ويمكن أن يقال : استحبابه يتوقف على رضاء المالك ولم يوجد .

( فرع ) لو كان محدثا أو جنبا أو حائضا وعلى بدنه نجاسة ومعه [ ص: 313 ] ماء لا يكفي إلا لأحدهما تعين عليه غسل النجاسة به ; لأنه لا بدل لها بخلاف الحدث ، وهذا متفق عليه عند أصحابنا ، وحكاه العبدري عن أبي حنيفة ومحمد وأحمد وداود . ورواية عن أبي يوسف ، وبه قال ابن المنذر . وقال حماد بن أبي سليمان وأبو يوسف في الرواية الأخرى عنه : يتوضأ ولا يغسل النجاسة ، وهو الظاهر من مذهب مالك ، ودليلنا ما سبق . قال أصحابنا : وينبغي أن يستعمل هذا الماء أولا في إزالة النجاسة ، ثم يتيمم للحدث ، فإن خالف فتيمم ثم غسلها ففي صحة تيممه وجهان سبقا في باب الاستطابة ، وفي هذا الباب ( أحدهما ) : لا يصح ; لأن التيمم يراد لإباحة الصلاة وهذا لا يبيحها لبقاء النجاسة عليه ، ( وأصحهما ) يصح ، كما أن الجريح يجوز أن يتيمم ثم يغسل الصحيح ، وإن كان تيممه لا تباح الصلاة عقبه ، هكذا أطلق الأصحاب المسألة . وقال القاضي أبو الطيب في تعليقه : هذا الذي ذكرناه من وجوب استعمال الماء في إزالة النجاسة دون الحدث هو فيما إذا كان مسافرا ، فإن كان حاضرا فغسل النجاسة به أولى ، يعني ولا يجب ; لأنه لا بد من إعادة الصلاة ، سواء غسل النجاسة أو توضأ .

( فرع ) قال أصحابنا : لو كان محرما وعلى بدنه طيب وهو محدث ومعه ما يكفي أحدهما فقط وجب غسل الطيب ويتيمم للحدث إن لم يمكن الوضوء به ، وجمعه لغسل الطيب فإن أمكن وجب فعله ، ولو كان عليه نجاسة وطيب غسل النجاسة ، وقد ذكر المصنف هاتين المسألتين في الحج .

( فرع ) لو عدم ماء الطهارة وساتر العورة ووجدهما يباعان ومعه ثمن أحدهما ، وجب شرى السترة ; لأنه لا بدل لها ; ولأن النفع بها يدوم ; ولأنها تجب للصلاة والصيانة عن العيون ، والماء يخالفها في كل هذا .

( فرع ) قال أصحابنا العراقيون : إذا أجنب فلم يجد الماء فتيمم وصلى فريضة ثم أحدث ووجد ما يكفيه لأعضاء وضوئه فقط فإن قلنا : يجب استعماله للجنابة بطل تيممه ولزمه استعماله ، وإن قلنا : لا يجب قال ابن سريج رحمه الله : إن توضأ به ارتفع حدثه وجاز أن يصلي به النفل [ ص: 314 ] دون الفرض ; لأن التيمم الذي ناب عن غسل الجنابة أباح فريضة وما شاء من النوافل ، فلما أحدث حرمت النوافل ، فإذا توضأ ارتفع تحريم النوافل ولا يستبيح الفرض ; لأن هذا الوضوء لم ينب عن الجنابة ، فإن لم يتوضأ به وتيمم للفريضة جاز واستباح الفريضة والنافلة جميعا ، فإن تيمم للنافلة وحدها فوجهان .

( أحدهما ) : يستبيحها كما يستبيحها إذا نوى الفريضة تبعا ، ( وأصحهما ) : لا يستبيحها وهو قول القاضي أبي الطيب ; لأنه يقدر على الوضوء لها فلا يستبيحها بالتيمم ، بخلاف التيمم للفريضة فإنه ينوب عن غسل الجنابة .

قالوا : وهذه المسألة مما يمتحن به ، فيقال : وضوء يستباح به النافلة دون الفريضة ولا نظير لها . ويقال : وضوء يصح بنية استباحة النفل ولا يصح بنية استباحة الفرض ، ويقال : محدث ممنوع من الصلاة لحدثه ، فإن تيمم للفرض استباحه واستباح النفل ، وإن تيمم للنفل لم يصح له ولا لغيره . وهذا السؤال الثالث يجيء على الوجه الثاني ، وهذا كله تفريع على قولنا : لا يجب استعمال الناقص ، هكذا ذكر هذه المسألة العراقيون والمتولي . وحكى إمام الحرمين هذا عن العراقيين ثم قال : وهذا فيه نظر قال : والوجه أن يقال : الوضوء مع الجنابة لا أثر له ، ولا يتضمن رفع الحدث ووجوده بمثابة ما إذا طرأ الحدث ثم وجد ماء قليلا فيخرج على وجوب استعماله ، وسواء قلنا : يجب أو لا يجب ، فلا بد من التيمم للنافلة ، قال : وفي المسألة احتمال على الجملة .

هذا كلام الإمام والمشهور ما سبق . أما إذا اغتسل الجنب وبقي عضو من بدنه لم يجد له ماء فتيمم له ، ثم أحدث فتيمم ثانيا ، ثم وجد ماء يكفي ذاك العضو دون وضوئه ، فقد قال القاضي حسين والمتولي والبغوي والروياني : إن قلنا فيمن وجد بعض ما يكفيه : لا يلزمه استعماله وجب استعمال هذا الماء في ذلك العضو ، ولا يبطل تيممه ; لأن التيمم الثاني وقع عن الحدث ولم يقدر بعده على ما يزيل الحدث . وإن قلنا : يجب استعماله فقد تعارض فرضان أحدهما : الباقي من الجنابة [ ص: 315 ] والثاني : المقدور عليه من أعضاء الوضوء ، وليس أحدهما أولى من الآخر . هذا كلام هؤلاء ونقله إمام الحرمين عن ابن سريج قال : ونقله الصيدلاني عنه ولم يعترض عليه . قال الإمام : وفرقه بين قولنا : يجب استعماله أو لا يجب غير صحيح ، وكذا أنكره الغزالي في البسيط ، والشاشي . قال الشاشي : هذا بناء فاسد وتفريع باطل ، بل يلزمه استعماله في العضو الباقي ، من الجنابة - قولا واحدا - ولا يبطل تيممه على القولين ; لأن الماء تعين استعماله عن الجنابة ، والتيمم وقع عن الحدث ، فلم يؤثر فيه ما لا يجب استعماله فيه . وهذا الذي قاله الشاشي هو الأظهر ، وقد قطع صاحب الحاوي في باب صفة الغسل بأنه إذا أجنب فوجد ما يكفيه إلا موضعا يسيرا فاغتسل وبقي ذلك الموضع فتيمم وصلى ، ثم وجد ما يكفيه لبدنه للباقي من الجنابة لزمه استعماله في هذا الباقي من الجنابة ، ولا يستعمله في أعضاء الوضوء ، فإذا استعمله في الباقي تيمم وصلى فرضا ونفلا .

قال : وإن تيمم قبل استعماله جاز ; لأن التيمم للحدث الطارئ ، واستعمال الماء للجنابة فجاز تقديم أحدهما على الآخر . قال : فلو أراق هذا الماء بعد التيمم لم يكن له أن يصلي بهذا التيمم ، بل يجدد تيمما بعد الإراقة ; لأن تيممه لم يقع عن العضو الباقي من الجنابة والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية