صفحة جزء
قال المصنف : رحمه الله تعالى ( وإن اجتمع ميت وجنب أو ميت وحائض انقطع دمها ، وهناك ماء يكفي أحدهما ، فإن كان لأحدهما كان صاحبه أحق به ; لأنه محتاج إليه لنفسه ، فلا يجوز له بذله لغيره ، فإن بذله للآخر وتيمم لم يصح تيممه ، وإن كان الماء لهما كانا فيه سواء . وإن كان الماء مباحا أو لغيرهما وأراد أن يجود به على أحدهما فالميت أولى ; لأنه خاتمة طهارته ، والجنب والحائض يرجعان إلى الماء فيغتسلان . وإن اجتمع ميت وحي على بدنه نجاسة والماء يكفي أحدهما ، ففيه وجهان . ( أحدهما ) : صاحب النجاسة أولى ; لأنه ليس لطهارته بدل ولطهارة الميت بدل ، وهو التيمم فكان صاحب النجاسة أحق بالماء .

( والثاني ) : الميت أولى وهو ظاهر المذهب ; لأنه خاتمة طهارته ، وإن اجتمع حائض وجنب والماء يكفي أحدهما ، ففيه وجهان . قال أبو إسحاق رحمه الله : الجنب أولى ; لأن غسله منصوص عليه في القرآن ومن أصحابنا من قال : الحائض أولى ; [ ص: 316 ] لأنها تستبيح بالغسل ما يستبيح الجنب وزيادة وهو الوطء فكانت أولى ، وإن اجتمع جنب ومحدث وهناك ماء يكفي المحدث ولا يكفي الجنب فالمحدث أولى ; لأن حدثه يرتفع به ولا يرتفع به حدث الجنب ، وإن كان الماء يكفي الجنب ولا يفضل عنه شيء ، ويكفي المحدث ويفضل عنه ما يغسل به الجنب بعض بدنه ففيه ثلاثة أوجه .

( أحدها ) : الجنب أولى ; لأنه يستعمل جميع الماء بالإجماع ، وإذا دفعناه إلى المحدث بقي ماء مختلف في وجوب استعماله في الجنابة .

( والثاني ) : المحدث أولى ; لأن فيه تشريكا بينهم في الماء .

( والثالث ) : أنهما سواء ، فيدفع الماء إلى من شاء منهما ، لأنه يرفع حدث كل واحد منهما ، ويستعمله كل واحد منهما بالإجماع ) .


( الشرح ) في الفصل مسائل : ( إحداها ) إذا اجتمع ميت ، وجنب ، وحائض ، ومحدث ، ومن على بدنه نجاسة ، وهناك ما يكفي أحدهم فإن كان لأحدهم فهو أحق به ، ولا يجوز له أن يبذله لطهارة غيره . قال إمام الحرمين وغيره : لأن الإيثار إنما يشرع في حظوظ النفوس لا فيما يتعلق بالقرب والعبادات ، قال أصحابنا : ويستوون كلهم في تحريم البذل ، لما ذكرناه .

هذا هو المذهب الصحيح وبه قطع الجمهور . وحكى الدارمي وابن الصباغ وغيرهما عن أبي إسحاق المروزي أنه قال : من أصحابنا من قال : فيه قول آخر أنه إن كان الماء للجنب أو الحائض أو المحدث لزمه أن يقدم الميت به على نفسه ويأخذ ثمنه من مال الميت . قال ابن الصباغ : وهذا لا يعرف للشافعي ، والصواب الأول ، وعليه التفريع ، فلو خالف صاحب الماء وبذله لغيره قال المحاملي في المجموع والصيدلاني : لا تصح هبته ، ولا يزول ملكه فيه ، كأنه محجور عليه فيه ، وذكر جماعات في صحة هبته وجهين ، وسنشرحهما مع ما يتعلق بهما في مسألة من أراق الماء سفها ، حيث ذكرها المصنف بعد هذا إن شاء الله تعالى . قال أصحابنا : فإذا صلى بالتيمم فإن كان الماء باقيا في يد الموهوب له لم يصح تيمم الباذل ، وعليه إعادة الصلاة . وإن كان الماء قد تلف ففي وجوب الإعادة الوجهان فيمن أراق الماء بعد دخول الوقت سفها أصحهما : لا تجب وسنشرحهما في موضعهما إن شاء الله تعالى مع فروعهما ، فهذا الذي ذكرته [ ص: 317 ] من التفصيل هو الذي قاله الأصحاب في الطريقين ، ولم يوضح المصنف المسألة بتفصيلها ، بل أطلق وجوب الإعادة .

. وكلامه محمول على ما إذا تيمم والماء باق في يد الموهوب ، وقد أنكر بعضه عليه إطلاقه ولا يصح إنكاره ; لأن مراده ما ذكرته ، هذا كله فيمن وهب بعد دخول الوقت ، أما من وهب قبل الوقت فلا تحرم هبته وتصح صلاته بالتيمم ، ولا إعادة كما لو أراقه قبل الوقت . وإذا أوجبنا الإعادة مع بقاء الماء أو مع عدمه على أحد الوجهين ففي قدر ما تجب إعادته ثلاثة أوجه ، ستأتي هناك إن شاء الله تعالى ، ومعنى قول الأصحاب في هذا : صاحب الماء أحق به أي لا حق لغيره فيه .

قال الأزهري : " أحق " في كلام العرب له معنيان .

( أحدهما ) : استيعاب الحق كله كقولك : فلان أحق بماله أي لا حق لأحد فيه غيره ، ( والثاني ) : على ترجيح الحق وإن كان للآخر فيه نصيب ، كقولك : فلان أحسن وجها من فلان ، لا تريد نفي الحسن عن الآخر ، بل تريد الترجيح ، قال : وهذا معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : { الأيم أحق بنفسها من وليها } أي : لا يفتات عليها فيزوجها بغير إذنها ، ولم ينف حق الولي ، فإنه هو الذي يعقد عليها وينظر لها والله أعلم .

( المسألة الثانية ) : إذا كان الماء لهم فهم فيه سواء ، ولا يجوز لأحدهم أن يبذل نصيبه لطهارة غيره إن كان نصيب الباذل يكفيه ، وإن كان لا يكفيه وقلنا : يجب استعماله لم يجز بذله وإلا فيجوز .

( الثالثة ) إذا كان الماء لأجنبي فأراد أن يجود به على أحوجهم أو أوصى بماء لأحوج الناس في الموضع الفلاني أو وكل من يصرفه إلى أحوجهم فأيهم أحق ؟ فيه التفصيل الذي ذكره المصنف وسنشرحه إن شاء الله تعالى ، هكذا صورها إمام الحرمين والغزالي ومن تابعهما ، وصورها المصنف وجمهور الأصحاب في الطريقتين فيما إذا وصل هؤلاء المحتاجون إلى ماء مباح ، وذكروا فيها التفاصيل المذكورة ، وأنكر إمام الحرمين هذا عليهم وقال : هذا عندي غلط ظاهر ، فإن الماء المباح إذا ازدحم عليه قوم وجب أن يستووا في تملكه ، ولا يتوقف المالك على الحاجة ، بل يجب القطع باستوائهم ويقسم الماء بينهم [ ص: 318 ] بالسوية ، ولا ينظر إلى أحداثهم وأحوالهم قال : ولا خفاء بما نبهنا عليه من هذا الزلل . قال الرافعي : ( لا منافاة بين كلام إمام الحرمين وكلام الأصحاب ; لأنهم أرادوا التقديم على سبيل الاستحباب وكأنهم يقولون : مجرد الوصول إلى الماء المباح لا يقتضي الملك ، وإنما يثبت الملك بالاستيلاء والإحراز فيستحب لغير الأحوج ترك الاستيلاء والإحراز إيثارا للأحوج ، والأصحاب يسلمون أنهم لو لم يفعلوا ذلك ، واستولوا عليه وازدحموا كان الأمر كما ذكره إمام الحرمين ، لكن يمكن أن ينازعهم فيما ذكروه من الاستحباب ويقول : هو متمكن من الطهارة بالماء فلا يجوز العدول إلى التيمم ، كما لو ملك الماء ) . هذا كلام الرافعي ، فإذا ثبت دفعه إلى الأحوج ففيه صور .

( إحداها ) إذا حضر ميت مع جنب أو حائض أو محدث ، فهو أحق منهم لعلتين .

( إحداهما ) : التي ذكرها الشافعي والمصنف والأصحاب أنه خاتمة أمره فخص بأكمل الطهارتين والأحياء سيجدون الماء .

( والثانية ) : أن القصد من غسل الميت تنظيفه ، ولا يحصل بالتراب ، والقصد من طهارة الأحياء استباحة الصلاة وذلك يحصل بالتيمم .

وقال أبو يوسف : الحي أحق من الميت ، وهو رواية عن مالك وأحمد قال أصحابنا : ولا يفتقر استحقاق الميت وتخصيصه إلى قبول وارث ونحوه ، كما لو تطوع إنسان بتكفين ميت ، فإنه لا يفتقر إلى قبول ، وحكى الدارمي والرافعي وجها في اشتراط قبول هبة الماء للميت وليس بشيء .

( الثانية ) : إذا حضر ميت ومن عليه نجاسة ، فإن كان على الميت نجاسة ، فهو أحق بلا خلاف ، وإلا فوجهان مشهوران . الصحيح منهما عند الأصحاب : أن الميت أحق . قال أصحابنا : هما مبنيان على العلتين في الميت إن قلنا بالأولى فهو أحق ، وإن قلنا بالثانية فالنجس أحق ; لأنه لا يسقط فرضه بالتيمم وتحصل طهارة الميت بالتيمم ، ولو حضر ميتان ، والماء يكفي أحدهما فإن كان الماء موجودا قبل موتهما فالأول أحق ، وإن وجد بعد موتهما أو ماتا معا فأفضلهما أحق به ، فإن استويا أقرع بينهما ، نقله الرافعي .

[ ص: 319 ] الثالثة ) : لو حضر من عليه نجاسة مع جنب وحائض ومحدث فهو أحق منهم بلا خلاف ; لأنه لا بدل لطهارته .

( الرابعة ) حضر جنب وحائض فثلاثة أوجه مشهورة ( أصحها ) عند الأصحاب : الحائض أحق لغلظ حدثها . وقول القائل الآخر : إن غسل الجنب منصوص عليه في القرآن لا حجة فيه ، فإن غسلها ثابت بالأحاديث الصحيحة والإجماع .

( والوجه الثاني ) : الجنب أحق ; لأن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في صحة تيمم الجنب دون الحائض ، فقدم لتصح طهارتهما بالإجماع ، هكذا احتج له القاضي حسين والصيدلاني ، قال إمام الحرمين : هذا ضعيف جدا ، ولم يصح عن الصحابة في تيمم الحائض شيء .

( والثالث ) : يستويان حكاه الدارمي عن ابن القطان ; فعلى هذا قال الأكثرون يقرع بينهما ، وممن صرح بهذا القفال والقاضي حسين والمتولي والبغوي والروياني وآخرون ، وقال إمام الحرمين وغيره : فيه تفصيل اختصره الرافعي فقال : إن طلب أحدهما القرعة والآخر القسمة فالقرعة أولى في أصح الوجهين والقسمة في الثاني . هذا إن أوجبنا استعمال الماء الناقص عن الكفاية وإلا تعينت القرعة ، وإن اتفقا على القسمة جاز إن أوجبنا استعمال الناقص وإلا فلا ; لأنه تضييع .

( الخامسة ) : حضر جنب ومحدث ، فإن كان الماء يكفي الوضوء دون الغسل ، فالمحدث أحق إن لم نوجب استعمال الناقص ، وإن أوجبناه فثلاثة أوجه .

( أصحها ) : المحدث أحق ; لأنه يرتفع به حدثه بكماله .

( والثاني ) : الجنب أحق لغلظ حدثه .

( والثالث ) : يستويان ويجيء فيه ما سبق من الإقراع والقسمة ، وقول المصنف : " فيدفع إلى من شاء منهما " المراد به إذا كان صاحب الماء يجود به على المحتاج ، وأما الوكيل والوصي والحاكم في المباح فيقرعون بينهما على الأصح ، ويقسمون على الوجه الآخر ولا تخيير ، وإن لم يكن الماء كافيا لواحد منهما فالجنب أولى إن أوجبنا استعمال الناقص ، وإلا فكالمعدوم ، وإن كان كافيا لكل واحد منهما نظر إن فضل عن الوضوء منه شيء ولم يفضل عن الغسل ، فالجنب أولى إن لم نوجب استعمال الناقص ; لأنه إذا استعمله المحدث يضيع الباقي ، وإن أوجبنا [ ص: 320 ] استعمال الناقص ففيه الأوجه الثلاثة المذكورة في الكتاب ، أصحها : الجنب أحق .

والثاني : المحدث . والثالث : هما سواء . وإن لم يفضل من واحد منهما شيء ، أو فضل عن كل واحد منهما شيء فالجنب أحق ، وفي الحاوي - وجه - أنه إذا كان لا يفضل عن واحد منهما شيء فهما سواء ، والصحيح الأول ، وإن كان يكفي الغسل ولا يكفي الوضوء إن تصور ذلك فالجنب أحق . قال الرافعي : ( ويتصور ذلك بأن يكون المغتسل نضو الخلق فاقد الأعضاء ، والمتوضئ ضخم الأعضاء ) وإذا استعمل الماء - في هذه المسائل - غير من قلنا : إنه أحق فقد أساء ، وطهارته صحيحة والله أعلم

( فرع ) قال الشافعي في مختصر المزني رحمهما الله : لو كان مع الميت ماء ، فخافت رفقته العطش شربوه ويمموه وأدوا ثمنه في ميراثه ، واتفق أصحابنا على أنه يحل لهم شربه وعليهم ضمانه بقيمته يوم الشرب ، كما قلنا في غيره من المتلفات . قال القاضي أبو الطيب وغيره : وسمى الشافعي القيمة هنا ثمنا مجازا ، وإلا فحقيقة الثمن ما كان في عقد ، ولكن قد سمت العرب القيمة ثمنا . قلت : قد قال أهل اللغة مثل هذا ، فقال الأزهري في تهذيب اللغة : قال الليث : ثمن كل شيء قيمته ، وقال الهروي في الغريبين : الثمن قيمة الشيء . قال أصحابنا : وإنما أوجبنا القيمة ولم نوجب المثل ، وإن كان الماء مثليا ; لأن المسألة مفروضة فيما إذا كانوا في برية للماء فيها قيمة ، ثم رجعوا إلى بلدهم ، ولا قيمة للماء فيه ، وأراد الوارث تغريمهم في البلد فلو ردوا الماء لكان إسقاطا للضمان .

هذا هو المذهب الصحيح المقطوع به في طرق الأصحاب ، وحكى صاحب البحر والرافعي وجها : أن مراد الشافعي بالثمن المثل ، وأنه يرد مثل الماء لا قيمته وهذا شاذ والصواب الأول .

وأما إذا غرموا في موضع الشرب فإنهم يغرمون مثل الماء بلا خلاف ، قال صاحبا العدة والبحر : وكذا لو غرموا في موضع آخر للماء فيه قيمة فلهم [ ص: 321 ] أداء مثل الماء ، وإن كان أقل من قيمته يوم الإتلاف كمن أتلف حنطة غرم مثلها ، وإن كانت قيمتها يوم الغرم أقل . ولو غرموا القيمة ثم اجتمعوا هم والوارث في موضع للماء فيه قيمة ، فهل له رد القيمة والمطالبة بمثل الماء ؟ وجهان ، كالوجهين فيمن أتلف مثليا فتعذر المثل فغرم القيمة ثم وجد المثل ، هل للمالك أن يرد القيمة ويطالب بالمثل ؟ هكذا قاله القاضي حسين والفوراني وصاحب العدة وآخرون وسنوضح المسألة في كتاب الغصب إن شاء الله تعالى .

هذا كله إذا احتاج الأحياء إلى ماء الميت للعطش ، فأما إذا لم يحتاجوا إليه للعطش بل للطهارة ، فإنهم يغسلونه منه بقدر حاجته ، وما بقي حفظوه للورثة ، ويحرم عليهم الوضوء به بل يتيممون ، فإن توضئوا به أثموا وضمنوه على ما سبق والله أعلم

التالي السابق


الخدمات العلمية