صفحة جزء
قال المصنف : رحمه الله تعالى ( وإن لم يجد ماء ولا ترابا صلى على حسب حاله وأعاد الصلاة ; لأن الطهارة شرط من شروط الصلاة فالعجز عنها لا يبيح ترك الصلاة كستر العورة وإزالة النجاسة واستقبال القبلة والقيام والقراءة ) .


( فرع ) قوله : ( على حسب حاله ) هو بفتح السين أي قدر حاله ، ولو حذف لفظة حسب صح الكلام أيضا ، وقوله ( شرط من شروط الصلاة ) احتراز من العقل فإنه شرط ، ولكن من شروط التكليف ، وقوله ( والقيام والقراءة ) مما ينكر عليه ; لأنه جعلهما من الشروط ، ومعلوم عنده وعند غيره أنهما ليسا من الشرط ، بل من الفرائض والأركان ، وكان ينبغي أن يحذفهما فقد حصل الغرض بما قبلهما ، أو يقول : لأن الطهارة لازم من لوازم الصلاة ; ليتناول كل المذكورات وكأنه أراد بالشرط ما لا تصح الصلاة إلا بوجوده لا حقيقته .

( وأما حكم المسألة ) فإذا لم يجد المكلف ماء ولا ترابا بأن حبس في موضع [ ص: 322 ] نجس أو كان في أرض ذات وحل ولم يجد ماء يجففه به أو ما أشبه ذلك ، ففيه أربعة أقوال حكاها أصحابنا الخراسانيون : ( أحدها ) : يجب عليه أن يصلي في الحال على حسب حاله ، ويجب عليه الإعادة إذا وجد ماء أو ترابا في موضع يسقط الفرض فيه بالتيمم . وهذا القول هو الصحيح الذي قطع به كثيرون من الأصحاب أو أكثرهم وصححه الباقون ، وهو المنصوص في الكتب الجديدة .

( والثاني ) : لا تجب الصلاة بل تستحب ويجب القضاء ، سواء صلى أم لم يصل حكوه عن القديم ، وحكاه الشيخ أبو حامد وغيره من العراقيين . ( والثالث ) : يحرم عليه الصلاة ويجب القضاء ، حكاه إمام الحرمين وجماعة من الخراسانيين عن القديم ( والرابع ) : تجب الصلاة في الحال على حسب حاله ولا تجب الإعادة ، حكوه عن القديم أيضا ، وستأتي أدلة هذه الأقوال في فرع مذاهب العلماء إن شاء الله تعالى . قال إمام الحرمين : وإذا قلنا تجب الصلاة في الوقت ويجب القضاء فالمذهب الظاهر : أن ما يأتي به في الوقت صلاة ولكن يجب تدارك النقص ، ولا يمكن إلا بفعل صلاة كاملة . قال : ومن أصحابنا من قال : الذي يأتي به تشبه كالإمساك في رمضان لمن أفطر عمدا . قال الإمام : وهذا بعيد جدا . قال أصحابنا : فإذا قلنا بالمذهب وهو وجوب الصلاة في الحال ووجوب القضاء صلى الفرض وحده ولا يجوز النفل ولا مس المصحف وحمله ، فإن كان جنبا لم يجز له المكث في المسجد ولا قراءة القرآن في غير الصلاة ، وإن كانت امرأة انقطع حيضها لم يجز وطؤها ; لأن هذه الأشياء إنما تباح بالطهارة ولم تأت بها ، وإنما صلى الفريضة للضرورة محافظة على حرمتها .

وحكى الجرجاني في المعاياة وصاحب البيان وجها : أنه يباح وطؤها وليس بشيء وإذا صلى الفرض وكان جنبا ، أو منقطعة الحيض ، لم يقرأ في الصلاة ما زاد على الفاتحة بلا خلاف ، وفي الفاتحة وجهان سبق بيانهما وشرحهما في آخر باب ما يوجب الغسل ، أصحهما : تجب . والثاني : تحرم ، بل يأتي بالأذكار التي يأتي بها من لا يحسن الفاتحة ، قال أصحابنا : وإذا شرع في [ ص: 323 ] الصلاة على حسب حاله فرأى الماء أو التراب في أثنائها بطلت صلاته . هذا هو الصحيح المشهور ، وبه قطع الجمهور . وحكى القاضي حسين وجها أنها لا تبطل كالوجه المحكي في طريقة خراسان : أن المتيمم في الحضر إذا رأى الماء في أثناء الصلاة لا تبطل ، وهذا الوجه ليس بشيء . قال أصحابنا : ولو أحدث في هذه الصلاة أو تكلم بطلت بلا خلاف .

( فرع ) قال أبو العباس الجرجاني في المعاياة : ليس أحد يصح إحرامه بصلاة الفرض ولا يصح بالنفل إلا من عدم الماء والتراب أو السترة الطاهرة ، أو كان على بدنه نجاسة لا يقدر على إزالتها والله أعلم .

( فرع ) قال أصحابنا : إذا عدم الماء والتراب فصلى على حسب حاله وأوجبنا الإعادة أعاد ، إذا وجد الماء أو وجد التراب في موضع يسقط الفرض فيه بالتيمم . أما إذا قدر على التيمم في حالة لا يسقط الفرض فيها بالتيمم كالحضر فإنه لا يعيدها بالتيمم ; لأنه لا فائدة في الإعادة حينئذ ، وكيف يصلي محدثا صلاة لا تنفعه من غير ضرورة ولا حرمة وقت ؟ وإنما جازت صلاة الوقت في هذا الحال ; لحرمة الوقت ، وقد زال . قال الروياني : قال والدي : إذا كان عليه صلاة فائتة بغير عذر وقلنا : يجب قضاؤها على الفور فعدم الماء والتراب ، فعندي أنه لا يلزمه القضاء في هذه الحالة ; لأنا لو ألزمناه ذلك احتاج إلى الإعادة ثانيا وثالثا ، وما لا يتناهى بخلاف المؤداة ، فإنه يجب فعلها لحرمة الوقت ، ولا يؤدي إلى التسلسل . قال : وهل له أن يقضي في هذه الحالة ؟ فيه وجهان ، يعني يقضي في الحال ثم يقضي إذا وجد الطهور .

( قلت : ) والصواب منهما أنه لا يجوز لما ذكرناه ، والله أعلم .

( فرع ) إذا ربط على خشبة أو شد وثاقه أو منع الأسير أو غيره من الصلاة ، وجب عليهم أن يصلوا على حسب حالهم بالإيماء ، ويكون إيماؤه [ ص: 324 ] بالسجود أخفض من الركوع ويجب الإعادة . أما وجوب الصلاة فلحرمة الوقت ، وأما الإعادة ; فلأنه عذر نادر غير متصل .

هذا هو المذهب الصحيح المشهور . وحكى القاضي أبو الطيب وصاحب الحاوي وجماعة من العراقيين والخراسانيين فيهم قولا قديما : أنه لا إعادة عليهم كالمريض ، والفرق على المذهب أن المرض يعم . وقال الصيدلاني في هذا وفي الغريق يتعلق بعود ويصلي بالإيماء : إن استقبل القبلة فلا إعادة ، كالمريض يصلي بالإيماء وإلا وجبت الإعادة . وقال البغوي في الغريق يصلي بالإيماء : لا يعيد ما يصلي إلى القبلة ويعيد غيره في أصح القولين .

وأما المريض إذا لم يجد من يحوله إلى القبلة فيجب أن يصلي على حسب حاله وتجب الإعادة على الصحيح المشهور لندوره . قال الروياني : ومن أصحابنا من قال : في الإعادة قولان ، وهذا شاذ والله أعلم .

( فرع ) إذا أوجبنا الإعادة في هذه المسائل السابقة ومسألة من لم يجد ماء ولا ترابا ، ومسألة من صلى بنجاسة لا يقدر على إزالتها فأعاد ففي الفرض من صلاته أربعة أقوال حكاها الشيخ أبو حامد والأصحاب في الطريقتين . وذكر صاحب الحاوي أن المزني وأبا علي بن أبي هريرة نقلاها ، وقد ذكرها المصنف في مسألة النجاسة في باب طهارة البدن . قال إمام الحرمين وغيره : كل صلاة صلاها في الوقت عالما باختلالها مع بذل الإمكان ثم أمرناه بالقضاء فقضاها ، ففي الواجب من الصلاتين أربعة أقوال . أصحها عند الأصحاب : أنها الثانية ، وهو نصه في الأم . والثاني : الأولى . والثالث : إحداهما لا بعينها . والرابع : كلاهما واجب ، وهو نصه في الإملاء ، واختاره القفال والفوراني وابن الصباغ ، وهو قوي ; لأنه مكلف بهما ، ويظهر فائدة الخلاف في مسائل : منها إذا أراد أن يصلي الثانية بتيمم الأولى ، وسيأتي تفصيله قريبا إن شاء الله تعالى ، وسيأتي في بيان هذه الأقوال وما يشبهها من الصلوات المفعولات على نوع خلل زيادات في آخر الباب في فرع مستقل بذلك إن شاء الله تعالى . [ ص: 325 ]

( فرع ) في مذاهب العلماء فيمن لم يجد ماء ولا ترابا ، قد قدمنا أن في مذهبنا أربعة أقوال ، وقال بكل واحد منها طائفة من العلماء ، فحكى ابن المنذر عن الأوزاعي وسفيان الثوري وأصحاب الرأي أنه لا يصلي في الحال ، بل يصبر حتى يجد الماء أو التراب ، وهو قول أبي يوسف ورواية عن أبي ثور ، والرواية الأخرى عنه : أنه لا يصلي ولا يعيد ، وحكاها أصحابنا عن داود ، وعن مالك رواية أنه يصلي ويعيد ، ورواية أنه يصلي ولا يعيد ، ورواية لا يصلي ، وفي الإعادة عندهم خلاف .

وقال أحمد : يصلي ، وفي الإعادة روايتان . وقال المزني : يصلي ولا يعيد ، وكذا عنده كل صلاة صلاها على حسب حاله لا تجب إعادتها ، صرح بذلك في مختصره ونقله عنه الأصحاب ، واحتج من منع الصلاة في الحال بقول الله تعالى : { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا } وبحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا يقبل الله صلاة بغير طهور } رواه مسلم . وبحديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { مفتاح الصلاة الطهور } رواه أبو داود والترمذي وقال : حديث حسن ، وبالقياس على الحائض قبل انقطاع حيضها .

واحتج من لم يوجبها في الحال ولم يوجب القضاء بأنه عاجز عن الطهارة كالحائض ، واحتج لمن قال : يصلي ولا يعيد بحديث عائشة رضي الله عنها { أنها استعارت قلادة من أسماء فهلكت ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا من أصحابه في طلبها فأدركتهم الصلاة فصلوا بغير وضوء ، فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم شكوا ذلك إليه فنزلت آية التيمم } رواه البخاري ومسلم . ووجه الدلالة : أنهم صلوا بغير طهارة ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة ، قالوا : ولأن إيجاب الإعادة يؤدي إلى إيجاب ظهرين عن يوم ، وقياسا على المستحاضة والعريان والمصلي بالإيماء لشدة الخوف أو للمرض . [ ص: 326 ] واحتج أصحابنا لوجوب الصلاة في الحال بحديث عائشة المذكور ، فإن هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم صلوا على حسب حالهم حين عدموا المطهر معتقدين وجوب ذلك ، وأخبروا به النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليهم ولا قال : ليست الصلاة واجبة في هذا الحال ، ولو كانت غير واجبة لبين ذلك لهم ، كما قال لعمار رضي الله عنه : { إنما كان يكفيك كذا وكذا } وبحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم } رواه البخاري ومسلم . وهو مأمور بالصلاة بشروطها ، فإذا عجز عن بعضها أتى بالباقي ، كما لو عجز عن ستر العورة أو القبلة أو ركن كالقيام . واحتجوا لوجوب الإعادة بقوله صلى الله عليه وسلم : { لا يقبل الله صلاة بغير طهور } ولأنه عذر نادر غير متصل فلم تسقط الإعادة ، كمن صلى محدثا ناسيا أو جاهلا حدثه ، وكمن صلى إلى القبلة فحول إنسان وجهه عنها مكرها أو منعه من إتمام الركوع ، فإنه يلزمه الإعادة بالاتفاق .

كذا نقل الاتفاق فيه الشيخ أبو محمد الجويني ، قال : وهذا مما وافق عليه المزني . وأما الجواب عن احتجاج الأولين بالآية فمن وجهين .

( أحدهما ) : أن المراد لا تقربوا موضع الصلاة وهو المسجد .

( والثاني ) : أنها محمولة على واجد المطهر ، وهذا الثاني هو الجواب عن الحديث أيضا ; كما في قوله صلى الله عليه وسلم : { لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب } معناه إذا قدر عليها ، وهذا هو الجواب أيضا عن الحديث الآخر .

( والجواب ) عن قياسهم على الحائض : أن الحائض مكلفة بترك الصلاة لا طريق لها إلى فعلها ولو وجدت الطهور ، وهذا بخلافها .

( والجواب ) عن حديث عائشة : أن تأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز والقضاء على التراخي .

( والجواب ) عن قولهم يؤدي إلى إيجاب ظهرين أنه لا امتناع في ذلك إذا اقتضاه الدليل ، كما إذا اشتبه عليه وقت الصلاة أو الصوم فصلى وصام بالاجتهاد ، ثم تحقق أنه فعله قبل الوقت وأدرك الوقت ، [ ص: 327 ] فإنه يلزمه الإعادة ، فقد أوجبنا عليه ظهرين .

( والجواب ) عن المستحاضة : أن عذرها إذا وقع دام ، وعمن بعدها أن أعذارهم عامة ، فلو أوجبنا الإعادة شق وحصل الحرج بخلاف مسألتنا والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية