صفحة جزء
قال المصنف : رحمه الله تعالى ( وأما الخائف من استعمال الماء ، فهو أن يكون به مرض أو قروح يخاف معها من استعمال الماء ، أو في برد شديد يخاف التلف من استعمال الماء ، فينظر فيه ، فإن خاف التلف من استعمال الماء جاز له التيمم لقوله تعالى : { وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا } قال ابن عباس رضي الله عنهما : " إذا كانت بالرجل جراحة في سبيل الله عز وجل أو قروح أو جدري فيجنب فيخاف أن يغتسل فيموت فإنه يتيمم بالصعيد " . وروي عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال : { احتلمت في ليلة باردة في غزاة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت وصليت بأصحابي صلاة الصبح ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا عمرو : وصليت بأصحابك وأنت جنب ؟ فقال : سمعت الله تعالى يقول : { ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما } ولم ينكر عليه } . وإن خاف الزيادة في المرض وإبطاء البرء قال في الأم : لا يتيمم ، وقال في القديم والبويطي والإملاء : يتيمم إذا خاف الزيادة ، فمن أصحابنا من قال : هما قولان .

( أحدهما ) : يتيمم ; لأنه يخاف الضرر من استعمال الماء فأشبه إذا خاف التلف ( والثاني ) : لا يجوز ; لأنه واجد للماء لا يخاف التلف من استعماله ، فأشبه إذا خاف أنه يجد البرد ، ومنهم من قال : لا يجوز قولا واحدا وما قاله في القديم والبويطي والإملاء محمول عليه إذا خاف زيادة مخوفة ، وحكى أبو علي في الإفصاح طريقا آخر أنه يتيمم قولا واحدا ، وإن خاف من استعمال الماء شيئا فاحشا في جسمه فهو كما لو خاف الزيادة في المرض ; لأنه يتألم قلبه بالشين الفاحش كما يتألم بزيادة المرض ) .


( الشرح ) أما قول ابن عباس رضي الله عنهما فرواه البيهقي موقوفا على ابن عباس ، ورواه مرفوعا أيضا إلى النبي صلى الله عليه وسلم .

وأما حديث عمرو بن العاص فرواه أبو داود والحاكم أبو عبد الله في المستدرك على الصحيحين والبيهقي ، ولكن رووه من طريقين مختلفتي الإسناد والمتن ، متن إحداهما كما ذكره في المهذب ، ومتن الثانية أن عمرا احتلم فغسل مغابنه [ ص: 328 ] وتوضأ وضوءه للصلاة ثم صلى بهم " وذكر الباقي بمعنى ما سبق ولم يذكر التيمم ، قال الحاكم في الرواية الثانية : هذا حديث صحيح على شرط البخاري ومسلم قال : والذي عندي أنهما عللاه بالرواية الأولى يعني لاختلافهما ، وهي قضية واحدة . قال الحاكم : ولا تعلل رواية التيمم رواية الوضوء ، فإن أهل مصر أعرف بحديثهم من أهل البصرة ، يعني : أن رواية الوضوء يرويها مصري عن مصري ، ورواية التيمم بصري عن مضري . قال البيهقي : ويحتمل أن يكون فعل ما نقل في الروايتين جميعا ، فغسل ما أمكنه وتيمم الباقي ، وهذا الذي قاله البيهقي متعين ; لأنه إذا أمكن الجمع بين الروايتين تعين . وقوله : مغابنه بفتح الميم وبغين معجمة ، وبعد الألف باء موحدة مكسورة ، والمراد بها هنا الفرج وما قاربه ، والقروح الجروح ونحوها ، واحدها قرح بفتح القاف وضمها ، والجدري بضم الجيم وفتحها لغتان فصيحتان ، والدال مفتوحة فيهما ، وإبطاء البرء هو بضم الباء وإسكان الراء ، وبعدها همزة ، يقال : برئ من المرض برءا بضم الباء ، وبرأ برءا بفتحها ، وبرأ برءا ثلاث لغات أفصحهن الثانية ، وهو مهموز فيهن . ومنهم من ترك الهمز تخفيفا ، وقوله أشفقت أي خفت ، وقوله : أهلك هو بكسر اللام هذه اللغة الفصيحة وبها جاء القرآن ، وحكى أبو البقاء فتحها وأنه قرئ به في الشواذ ، وهذا شاذ إن ثبت ، وذات السلاسل بفتح السين الأولى وكسر الثانية وهي من غزوات الشام ، وكان في جمادى الآخرة سنة ثمان من الهجرة وأميرها عمرو بن العاص قيل : سميت بذلك باسم ماء بأرض جذام يقال له المسلسل ، كذا ذكره ابن هشام في كتابه سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكره غيره ، وهذا يؤيد ما ذكرناه أنها بفتح السين الأولى وهذا هو المشهور ، وقد حكي فيها الضم ، وقد أوضحته في تهذيب الأسماء واللغات . وعمرو بن العاص يكنىأبا عبد الله ، وقيل : أبا محمد وأسلم قبل الفتح بأشهر ، وقيل : أسلم بين الحديبية وخيبر . مات بمصر عاملا عليها سنة اثنتين ، وقيل : ثلاث وأربعين ، وقيل : إحدى وخمسين يوم الفطر وهو ابن [ ص: 329 ] سبعين سنة ، ويقال : ابن العاصي ، والعاص بإثبات الياء وحذفها ، وإثباتها هو الصحيح الفصيح وفي حديثه هذا فوائد . إحداها : جواز التيمم لخوف التلف مع وجود الماء . الثانية : جواز التيمم للجنب . الثالثة : أن التيمم لشدة البرد في السفر يسقط الإعادة . الرابعة : التيمم لا يرفع الحدث ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماه جنبا . الخامسة : جواز صلاة المتوضئ خلف المتيمم . السادسة : استحباب الجماعة للمسافرين . السابعة : أن صاحب الولاية أحق بالإمامة في الصلاة ، وإن كان غيره أكمل طهارة أو حالا منه . الثامنة : جواز قول الإنسان : سمعت الله يقول أو : الله يقول : كذا ، وقد كره هذه الصيغة مطرف بن عبد الله بن الشخير التابعي ، وقال : إنما يقال : قال الله بصيغة الماضي وهذا الذي قاله شاذ باطل ، ويرده الكتاب والسنة واستعمال الأمة ، وقد ذكرت دليله مبسوطا في كتاب أدب القراء وكتاب الأذكار .

قال الله تعالى : { والله يقول الحق } . وفيه فضيلة لعمرو لحسن استنباطه من القرآن ، وفيه غير ذلك من الفوائد والله أعلم .

( أما أحكام المسألة ) فالمرض ثلاثة أضرب : ( أحدها ) : مرض يسير لا يخاف من استعمال الماء معه تلفا ولا مرضا مخوفا ولا إبطاء برء ولا زيادة ألم ولا شيئا فاحشا ، وذلك كصداع ووجع ضرس وحمى وشبهها ، فهذا لا يجوز له التيمم بلا خلاف عندنا ، وبه قال العلماء كافة إلا ما حكاه أصحابنا عن أهل الظاهر وبعض أصحاب مالك : أنهم [ ص: 330 ] جوزوه للآية ، دليلنا : أن التيمم رخصة أبيحت للضرورة فلا يباح بلا ضرورة ولا ضرورة هنا ، ولأن واجد الماء لا يخاف ضررا فلا يباح التيمم كما لو خاف ألم البرد دون تعقب ضرر . قال أصحابنا : ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء } رواه البخاري ومسلم من رواية ابن عمر وغيره ، فندب إلى الماء للحمى فلا تكون سببا لتركه والانتقال إلى التيمم ، والجواب عن الآية من وجهين . ( أحدهما ) : أن ابن عباس رضي الله عنهما فسرها بالجراحة ونحوها كما سبق ، وروى هذا التفسير مرفوعا كما سبق ، والجراحة ونحوها يخاف معها الضرر من الماء فلا يلحق بها غيرها .

( والثاني ) : أنها لو كانت عامة لخصصناها بما سبق .

( الضرب الثاني ) مرض يخاف معه من استعمال الماء تلف النفس أو عضو أو حدوث مرض يخاف منه تلف النفس أو عضو أو فوات منفعة عضو ، فهذا يجوز له التيمم مع وجود الماء بلا خلاف بين أصحابنا إلا صاحب الحاوي ، فإنه حكى في خوف الشلل طريقين أحدهما : فيه قولان كما في خوف زيادة المرض ، وأصحهما : القطع بالجواز ، كما قاله الجمهور وإلا ما حكاه إمام الحرمين عن العراقيين أنهم نقلوا في جواز التيمم لمن خاف مرضا مخوفا قولين ، وهذا النقل عنهم مشكل ، فإن الموجود في كتبهم كلهم القطع بجواز التيمم لخوف حدوث مرض مخوف ، وقد أشار الرافعي أيضا إلى الإنكار على إمام الحرمين في هذا النقل هذا بيان مذهبنا . وحكى أصحابنا عن عطاء بن أبي رباح والحسن البصري أنهما قالا : لا يجوز التيمم للمريض إلا عند عدم الماء لظاهر الآية .

دليلنا ما سبق من تفسير ابن عباس وحديث عمرو بن العاص ، وحديث الرجل الذي أصابته الشجة وغيره من الأدلة الظاهرة ، وأما الآية فحجة لنا وتقديرها والله أعلم وإن كنتم مرضى فعجزتم أو خفتم من استعمال الماء أو كنتم على سفر فلم تجدوا ماء فتيمموا .

( الضرب الثالث ) : أن يخاف إبطاء البرء ، أو زيادة المرض وهي كثرة الألم وإن لم تطل مدته أو شدة الضنى ، وهو الداء الذي يخامر صاحبه ، وكلما ظن أنه برئ نكس ، وقيل : هو النحافة والضعف أو خاف حصول شين فاحش على عضو ظاهر وهو الذي يبدو في حال المهنة غالبا ، ففي هذه الصور [ ص: 331 ] النصوص ، والخلاف الذي ذكره المصنف وحاصله ثلاث طرق ، الصحيح منها : أن في المسألة قولين أصحهما : جواز التيمم ولا إعادة عليه ، وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد وداود وأكثر العلماء لظاهر الآية وعموم البلوى ; ولأنه لا يجب شراء الماء بزيادة يسيرة لدفع الضرر ، والضرر هنا أشد ، ولأنه يجوز الفطر في ترك القيام في الصلاة بهذا النوع ودونه فههنا أولى . والقول الثاني : لا يجوز التيمم وبه قال عطاء والحسن وأحمد . والطريق الثاني : القطع بالجواز . والثالث : القطع بالمنع ، وحكى أصحابنا عن أبي إسحاق المروزي أنه لا يجوز التيمم للشين الفاحش قطعا ، وإنما الخلاف في زيادة المرض وغيره مما سبق ، وحكى الماوردي عنه أنه على الخلاف ، وهذا هو الصحيح ودليله ما ذكره المصنف ثم الخلاف في شين فاحش على عضو ظاهر كما ذكرنا ; فأما " شين يسير على عضو ظاهر " كسواد قليل ، وشين كثير على عضو غير ظاهر فلا يبيح التيمم ; لأنه ليس فيه ضرر كثير فأشبه الصداع ونحوه والله أعلم .

( فرع ) إذا كانت العلة المرخصة في التيمم مانعة من استعمال الماء في جميع أعضاء الطهارة تيمم عن الجميع ، فإن منعت بعضا دون بعض غسل الممكن وتيمم عن الباقي ، كما سنوضحه إن شاء الله تعالى في فصل تيمم الجريح .

( فرع ) قال أصحابنا : يجوز أن يعتمد في كون المرض مرخصا في التيمم وأنه على الصفة المعتبرة على معرفة نفسه إن كان عارفا وإلا فله الاعتماد على قول طبيب واحد حاذق مسلم بالغ عدل ، فإن لم يمكن بهذه الصفة لم يجز اعتماده ، وفيه وجه ضعيف أنه يجوز اعتماد قول صبي مراهق وبالغ فاسق ، لعدم التهمة ، حكاه صاحبا التتمة والتهذيب وغيرهما ، واتفقوا على أنه لا يعتمد الكافر ويقبل قول المرأة وحدها والعبد وحده ، هذا هو الصحيح المشهور .

، ورأيت في نسخة من تعليق القاضي حسين فيهما وجهين ، ويقبل قول واحد على المذهب ، وبه قطع القاضي حسين والمتولي والبغوي وغيرهم ، وحكى الرافعي عن أبي عاصم أنه حكى في اشتراط العدد وجها ، والصحيح الأول ; لأنه من باب الأخبار ، وإذا لم يجد طيبا بالصفة المشروطة [ ص: 332 ] فقد قال صاحب البحر ، قال أبو علي السنجي : لا يتيمم ، ولم يزد على هذا ولم أر لغيره موافقة له ولا مخالفة .

( فرع ) قال أصحابنا : لا فرق في هذه المسائل في تيمم المريض بين المسافر والحاضر ولا بين الحدث الأصغر والأكبر ، ولا إعادة في شيء من هذه الصورة الجائزة بلا خلاف ، سواء فيه المسافر والحاضر لعمومه .

( فرع ) إذا تيمم للمرض ثم برأ في أثناء صلاته ، فهو كالمسافر يجد الماء في صلاته ، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى ، قاله الدارمي والمحاملي في اللباب وغيرهما وهو ظاهر .

( فرع ) الأقطع والمريض الذي لا يخاف ضررا من استعمال الماء إذا وجد ماء ولم يقدر على استعماله فقد قدمنا في باب صفة الوضوء أنه يلزمه تحصيل من يوضئه بأجرة أو غيرها . فإن لم يجد وقدر على التيمم وجب عليه أن يتيمم ويصلي ثم يعيد ، كذا نص عليه الشافعي ، ونقله الشيخ عن نص الشافعي ولم يذكر غيره ، وكذا حكاه آخرون عن النص وصرح به أيضا جماعات من الأصحاب وكذا قال صاحب التهذيب في الزمن ، عندما لا يجد من يناوله يتيمم ويصلي ويعيد الصلاة ، وشذ صاحب البيان عن الأصحاب ، فقال : يصلي على حسب حاله ويعيد ، ولا يتيمم ; لأنه واجد للماء . وهذا الذي قاله غلط فاحش مخالف لنص الشافعي والأصحاب ، والدليل : لأنه عاجز عن استعماله فهو كما لو حال بينهما سبع ، وإنما وجبت الإعادة لندوره والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية