صفحة جزء
قال المصنف : رحمه الله تعالى ( وإن كان في بعض بدنه قرح يخاف استعمال الماء فيه التلف غسل الصحيح وتيمم عن الجريح ، وقال أبو إسحاق : يحتمل قولا آخر أن يقتصر على التيمم ، كما لو عجز عن الماء في بعض بدنه للإعواز ، والأول أصح ; ; لأن العجز هناك ببعض الأصل ، وهاهنا العجز ببعض البدن ، وحكم الأمرين مختلف ، ألا ترى أن الحر إذا عجز عن بعض الأصل في الكفارة جعل كالعاجز عن جميعه في جواز الاقتصار على البدل ، ولو كان نصفه حرا ونصفه عبدا لم يكن العجز بالرق في البعض كالعجز بالجميع ، بل إذا ملك بنصفه الحر مالا لزمه أن يكفر بالمال ) .


[ ص: 333 ] الشرح ) قال أصحابنا : إذا كان في بعض أعضاء طهارة المحدث أو الجنب والحائض والنفساء قرح ونحوه ، وخاف من استعمال الماء الخوف المجوز للتيمم لزمه غسل الصحيح والتيمم عن الجريح ، هذا هو الصحيح الذي نص عليه الشافعي وقاله جمهور أصحابنا المتقدمين .

وقال أبو إسحاق المروزي وأبو علي بن أبي هريرة والقاضي أبو حامد المروزي : فيه قولان : كمن وجد بعض ما يكفيه من الماء ( أحدهما ) : يجب غسل الصحيح والتيمم ( والثاني ) : يكفيه التيمم ، والمذهب الأول ، وأبطل الأصحاب هذا التخريج بما ذكره المصنف .

قال أصحابنا : فإن كان الجريح جنبا أو حائضا أو نفساء ، فهو مخير إن شاء غسل الصحيح ثم تيمم عن الجريح ، وإن شاء تيمم ثم غسل إذ لا ترتيب في طهارته . قال أصحابنا : وهذا بخلاف المسافر إذا وجد بعض ما يكفيه ، وأوجبنا استعماله فإنه يجب استعماله أولا ثم يتيمم ; لأنه هناك أبيح له التيمم لعدم الماء ، فلا يجوز مع وجوده ، وهنا أبيح للجراحة وهي موجودة .

هذا هو الصحيح المشهور ، وحكى القاضي حسين وإمام الحرمين والمتولي وغيرهم - وجها - أنه يجب تقديم الغسل هنا وهو شاذ ضعيف . قال أصحابنا : فإن كانت الجراحة على وجهه فخاف إن غسل رأسه نزول الماء إليها لم يسقط غسل الرأس ، بل يلزمه أن يستلقي على قفاه أو يخفض رأسه ، فإن خاف انتشار الماء وضع بقرب الجراحة خرقة مبلولة ، وتحامل عليها ، ليقطر منها ما يغسل الصحيح الملاصق للجريح .

قال صاحبا التهذيب والبحر : فإن لم يمكنه ذلك أمس ما حوالي الجريح الماء من غير إفاضة وأجزأه ، وقد رأيت نص الشافعي رحمه الله في الأم نحو هذا ، فإنه قال : إن خاف لو أفاض الماء إصابة الجريح أمس الماء الصحيح إمساسا لا يفيض وأجزأه ذلك إذا أمس الشعر والبشرة ، هذا نصه بحروفه ، قال أصحابنا : فإن كان الجرح في ظهره استعان بمن يغسله ويمنع وصول الماء إلى الجراحة ، وكذا الأعمى يستعين ، فإن لم يجد متبرعا لزمه تحصيله بأجرة المثل ، فإن لم يجد غسل ما يقدر عليه وتيمم للباقي وأعاد لندوره ، نص عليه الشافعي ، واتفق الأصحاب عليه .

قال أصحابنا : ولا يجب مسح موضع الجراحة بالماء ، وإن كان لا يخاف [ ص: 334 ] منه ضررا ، ونقل إمام الحرمين اتفاق الأصحاب على هذا ; لأن الواجب الغسل ، فإذا تعذر فلا فائدة في المسح بخلاف مسح الجبيرة ، فإنه مسح على حائل كالخف قال أصحابنا : ولا يلزمه أن يضع عليها عصابة لتمسح عليها ، هذا هو الصحيح المشهور ، وحكى إمام الحرمين عن والده أنه أوجب وضع شيء عليها إذا أمكنه ليمسح عليه . قال الإمام : ولم أر هذا لأحد من الأصحاب وفيه بعد من حيث إنه لا يوجد له نظير في الرخص ، وليس للقياس مجال في الرخص ، ولو اتبع لكان أولى شيء ، وأقربه أن يمسح الجرح عند الإمكان ، فإذا كان ذلك لا يجب بالاتفاق ، فوضع العصابة أولى بأن لا يجب .

قال الإمام : ولو كان متطهرا فأرهقه حدث ووجد من الماء ما يكفيه لوجهه ويديه ورأسه دون رجليه ، ولو لبس الخف أمكنه المسح عليه ، فهل يلزمه لبس الخف ليمسح عليه بعد الحدث ؟ قياس ما ذكره شيخي إيجاب ذلك ، وهو بعيد عندي ، ولشيخي أن يفرق بأن مسح الخف رخصة محضة فلا يليق بها إيجابها ، وما نحن فيه ضرورة فيجب فيه الممكن ، هذا كلام الإمام وحكى الغزالي في هاتين الصورتين ترددا ، ومراده به ما ذكره الإمام .

قال أصحابنا : فإن احتاج إلى العصابة لإمساك الدواء أو لخوف انبعاث الدم عصبها على طهر على موضع الجراحة ، وما لا يمكن عصبها إلا بعصبة من الصحيح ، فإن خاف من نزعها لما يجب المسح عليها بدلا عما تحتها من الصحيح كالجبيرة لا عن موضع الجراحة . قال أصحابنا : فإن كانت الجراحة على موضع التيمم ، وجب إمرار التراب على موضعها ; لأنه لا ضرر ولا خوف عليه في ذلك بخلاف غسله بالماء ، قال الشافعي والأصحاب : حتى لو كان للجراحة أفواه مفتحة وأمكن إمرار التراب عليها لزمه ذلك ; لأنها صارت ظاهرة .

قال أصحابنا : واستحب الشافعي رحمه الله هنا أن يقدم التيمم ثم يغسل صحيح الوجه واليدين ليكون الغسل بعده مزيلا آثار الغبار عن الوجه واليدين ، هذا حكم الجنب والحائض والنفساء ، أما المحدث إذا كانت جراحته في أعضاء الوضوء ، ففيه ثلاثة أوجه مشهورة عند الخراسانيين ( أحدها ) : أنه كالجنب فيتخير بين تقديم التيمم على غسل الصحيح وتأخيره وتوسيطه ، وهذا اختيار الشيخ أبي علي السنجي - بكسر السين المهملة وبالجيم - وبه قطع صاحب الحاوي قال : والأفضل [ ص: 335 ] تقديم الغسل ، ( والثاني ) : يجب تقديم غسل جميع الصحيح ( والثالث ) : يجب الترتيب ، فلا ينتقل من عضو حتى يكمل طهارته محافظة على الترتيب فإنه واجب ، وهذا هو الأصح عند الأصحاب صححه المتولي والروياني وصاحب العدة وآخرون من الخراسانيين ، وقطع به جمهور العراقيين منهم القاضي أبو الطيب والمحاملي في المجموع وابن الصباغ والشيخ نصر في كتابيه ، والشاشي في المعتمد وآخرون ، ونقله الروياني عن جمهور الأصحاب . فعلى هذا قال أصحابنا : إن كانت الجراحة في وجهه وجب تكميل طهارة الوجه أولا ، فإن شاء غسل صحيحه ثم تيمم عن جريحه ، وإن شاء تيمم ثم غسل ، والأولى تقديم التيمم قاله الشيخ نصر .

وذكر المتولي وجها أنه يجب تقديم الغسل وهو الشاذ الذي حكيناه في الجنب ، وليس بشيء ولا يخفى تفريعه فيما بعد ، ولكن لا يفرع عليه ، فإذا فرغ من طهارة الوجه على ما ذكرنا ; غسل اليدين ثم مسح الرأس ثم غسل الرجلين ، وإن كانت الجراحة في يديه أو إحداهما غسل وجهه ثم إن شاء غسل صحيح يديه ثم تيمم عن جريحهما ، وإن شاء تيمم ثم غسل ، ثم يمسح رأسه ثم يغسل رجليه ، وإن كانت الجراحة في جميع رأسه غسل الوجه واليدين ثم تيمم عن الرأس ثم غسل الرجلين ، وإن كانت الجراحة في الرجلين طهر الأعضاء قبلهما ثم تخير فيهما بين تقديم الغسل والتيمم . قال صاحب البيان : إذا كانت الجراحة في يديه استحب أن يجعل كل يد كعضو مستقل فيغسل وجهه ثم صحيح اليمنى ، ثم يتيمم عن جريحهما أو يقدم التيمم على غسل صحيحها ثم يغسل صحيح اليسرى ثم يتيمم عن جريحهما أو يعكس .

قال : وكذا الرجلان . وهذا الذي قاله حسن ، فإن الترتيب بين اليمين واليسار سنة ، فإذا اقتصر على تيمم واحد فقد طهرهما في حالة واحدة .

هذا كله إذا كانت الجراحة في عضو ، فإن كانت في عضوين وجب تيممان ، وإن كانت في ثلاثة وجب ثلاثة ، فإن كانت في الوجه واليدين غسل صحيح الوجه ثم تيمم عن جريحه أو عكس ثم غسل صحيح اليدين ثم تيمم عن جريحهما أو عكس ثم مسح الرأس ثم غسل الرجلين ، وإن كانت في اليدين والرجلين غسل الوجه ثم طهر اليدين غسلا وتيمما ثم مسح الرأس ثم طهر الرجلين غسلا وتيمما .

[ ص: 336 ] فإن قيل ) : إذا كانت الجراحة في وجهه ويده فينبغي أن يجزئه تيمم واحد ، فيغسل صحيح الوجه ثم يتيمم عن جريحه وجريح اليد ثم يغسل صحيح اليد ، فإنه يجوز أن يوالي بين تيممهما فيغسل صحيح الوجه ثم يتيمم عن جريحه ثم يتيمم عن جريح اليد ثم يغسل صحيحهما ، وإذا جاز تيمماهما في وقت فينبغي أن يكفي تيمم واحد لهما ، كما لو تيمم للمرض أو لعدم الماء ، فإنه يكفيه تيمم واحد لكل الأعضاء ، فالجواب : أن التيمم هنا وقع عن بعض الأعضاء في طهارة وجب فيها الترتيب ، فلو جوزنا تيمما واحدا لحصل تطهير الوجه واليد في وقت واحد وهذا لا يجوز ، بخلاف التيمم عن الأعضاء كلها ، فإنه لا ترتيب هناك ، وإن كانت الجراحة في الوجه واليد والرجل غسل صحيح الوجه ، وتيمم عن جريحه ، ثم اليدين كذلك ، ثم مسح رأسه ، ثم غسل الرجلين وتيمم لجريحهما .

أما إذا عمت الجراحات الأعضاء الأربعة ، فقال القاضي أبو الطيب وغيره : يكفيه تيمم واحد ; لأنه سقط الترتيب لكونه لا يجب غسل شيء من الأعضاء ، قالوا : ولو عمت الرأس وكانت في بعض من كل واحد من الأعضاء الثلاثة وجب غسل صحيح الأعضاء الثلاثة وأربعة تيممات على ما ذكرنا من الترتيب ، والفرق بين الصورتين : أن في الأولى سقط حكم الوضوء وبقي الحكم للتيمم ، وفي الثانية : ترتيب الوضوء باق . قال صاحب البحر : فإذا تيمم في هذه الصورة أربعة تيممات وصلى ثم حضرت فريضة أخرى أعاد التيممات الأربعة ، ولا يلزمه غسل صحيح الوجه ويعيد ما بعده ، وهذا الذي قاله في إعادة غسل ما بعد الوجه هو اختياره ، وسيأتي فيه خلاف للأصحاب إن شاء الله تعالى والله أعلم .

( فرع ) المتيمم للجراحة لا يلزمه إعادة الصلاة بالاتفاق ; لأنه مما تعم به البلوى ويكثر كالمرض والله أعلم .

( فرع ) إذا كان في بدنه حبات الجدري إن لم يلحقه ضرر من غسل ما بينها وجب غسله ، وإن لحقه ضرر لم يجب ، ذكره القاضي أبو الطيب وغيره ويكون كالجريح والله أعلم .

( فرع ) إذا غسل الصحيح وتيمم عن العليل بسبب مرض أو جراحة أو كسر أو نحوها استباح بتيممه فريضة وما شاء من النوافل ، فإذا أراد [ ص: 337 ] فريضة أخرى قبل أن يحدث ، فإن كان جنبا أعاد التيمم دون الغسل بالاتفاق كذا قاله الأصحاب في كل الطرق . وقال الرافعي : في إعادة الغسل خلاف كما في المحدث وهذا ضعيف متروك .

وإن كان محدثا أعاد التيمم ولا يجب على المذهب الصحيح الذي قاله الأكثرون غسل صحيح الأعضاء ; وممن صرح بهذا وقطع به ابن الحداد وصاحب الحاوي وإمام الحرمين والغزالي وصاحب العدة وآخرون ، قال إمام الحرمين : أجمع الأصحاب أنه لا يجب إعادة غسل صحيح الأعضاء ; قال : وهذا وإن كان يتطرق إليه احتمال فهو متفق عليه ، وقال ابن الصباغ : قول ابن الحداد يحتاج إلى تفصيل ، فإن كانت الجراحة في الرجلين أجزأه التيمم ، وإن كانت في الوجه أو اليد فينبغي أن يعيد التيمم وغسل ما بعد موضع الجراحة ; ليحصل الترتيب .

قال الشاشي : قول ابن الحداد أصح وبسط الاستدلال له في المعتمد فقال : لأن ما غسله من صحيح أعضائه ارتفع حدثه ، وناب التيمم عما سواه وسقط فرضه ، فالأمر بإعادة غسله - من غير تجدد حدث - غلط وليس الأمر بالتيمم لكل فريضة ; لبطلان الأول ، بل لأنه طهارة ضرورة ، فأمر به لكل فرض لا لتغير صفة الطهارة ، ولهذا أمرنا المستحاضة بالطهارة لكل فرض ، وإن كان حالها بعد الفرض كحالها قبله ، وقد حصل الترتيب في الغسل وسقط الفرض في الأعضاء مرتبا .

هذا كلام الشاشي . وقال القاضي حسين وصاحبا التتمة والتهذيب : إذا أوجبنا الترتيب وجب إعادة غسل ما بعد العليل ، وفي غسل صحيح العليل وما قبله طريقان أصحهما : لا يجب . والثاني فيه قولان قيل بناء على تفريق الوضوء وقيل على ماسح الخف إذا خلعه . وقال الرافعي : أصح الوجهين وجوب إعادة غسل ما بعد العليل . والصحيح المختار : ما قدمته عن الجمهور والله أعلم .

( فرع ) قال البغوي وغيره : إذا كان جنبا والجراحة في غير أعضاء الوضوء فغسل الصحيح وتيمم للجريح ثم أحدث قبل أن يصلي فريضة لزمه الوضوء ولا يلزمه إعادة التيمم ; لأن تيممه عن غير أعضاء الوضوء فلا يؤثر فيه الحدث . ولو صلى فريضة ثم أحدث توضأ للنافلة ولا يتيمم ، وكذا حكم الفرائض والله أعلم . [ ص: 338 ]

( فرع ) إذا اندملت الجراحة وهو على طهارة فأراد الصلاة فإن كان محدثا ، فعليه غسل محل الجراحة وما بعده بلا خلاف ، وفيما قبله طريقان ، أصحهما وأشهرهما : أنه على القولين في نازع الخف ، أصحهما : لا يجب . والطريق الثاني : القطع بأنه لا يجب ، وإن كان جنبا لزمه غسل محل الجراحة وفي الباقي الطريقان .

( فرع ) قال أصحابنا : إذا غسل الصحيح وتيمم عن الجريح ، ثم توهم اندمال الجراحة ، فرآها لم تندمل فوجهان . أحدهما : يبطل تيممه كتوهم وجود الماء بعد التيمم وأصحهما - باتفاقهم - لا يبطل لأن طلب الاندمال ليس بواجب ، فلم يبطل بالتوهم بخلاف الماء . هكذا علله الأصحاب قال إمام الحرمين : قولهم لا يجب البحث عن الاندمال عند إمكانه وتعلق الظن به ليس نفيا عن الاحتمال ، أما إذا اندمل الجرح فصلى بعد اندماله صلوات وهو لا يعلم اندماله ، فإنه يلزمه إعادتهن بلا خلاف لتفريطه . كذا صرح بأنه لا خلاف فيه صاحب التتمة وغيره .

( فرع ) قد ذكرنا أن مذهبنا المشهور أن الجريح يلزمه غسل الصحيح والتيمم عن الجريح . وهو الصحيح في مذهب أحمد . وعن أبي حنيفة ومالك أنه إن كان أكثر بدنه صحيحا ، اقتصر على غسله ولا يلزمه تيمم ، وإن كان أكثره جريحا كفاه التيمم ولم يلزمه غسل شيء والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية