صفحة جزء
[ ص: 350 ] قال المصنف : رحمه الله تعالى ( وإن رأى الماء بعد الفراغ من الصلاة نظر ، فإن كان في الحضر أعاد الصلاة ; لأن عدم الماء في الحضر عذر نادر غير متصل ، فلم يسقط معه الفرض ، كما لو صلى بنجاسة نسيها ، وإن كان في السفر نظرت فإن كان في سفر طويل لم يلزمه الإعادة ; لأن عدم الماء في السفر عذر عام ، فسقط معه فرض الإعادة ، كالصلاة مع سلس البول ، وإن كان في سفر قصير ففيه قولان أشهرهما : أنه لا يلزمه الإعادة ; لأنه موضع يعدم فيه الماء غالبا ، فأشبه السفر الطويل .

وقال في البويطي : لا يسقط الفرض عنه ; لأنه لا يجوز له القصر فلا يسقط الفرض عنه بالتيمم كما لو كان في الحضر ، وإن كان في سفر معصية ففيه وجهان .

( أحدهما ) : تجب عليه الإعادة ; لأن سقوط الفرض بالتيمم رخصة تتعلق بالسفر ، والسفر معصية ، فلم تتعلق به رخصة ، ( والثاني ) : لا تجب ; لأنا لما أوجبنا عليه ذلك ، صار عزيمة فلم يلزمه الإعادة ) .


( الشرح ) في هذه القطعة مسائل : ( إحداها ) : إذا عدم الحاضر الماء في الحضر ، فحاصل المنقول فيه ثلاثة أقوال . الصحيح المشهور المقطوع به في أكثر كتب الشافعي وطرق الأصحاب : أنه يتيمم ويصلي الفريضة وتجب إعادتها إذا وجد الماء . أما وجوب الصلاة بالتيمم فقياسا على المسافر والمريض لاشتراكهما في العجز ، وأما الإعادة ; فلأنه عذر نادر غير متصل ، احترازنا بالنادر عن المسافر والمريض ، وبغير المتصل عن الاستحاضة .

( والقول الثاني ) : تجب الصلاة بالتيمم ولا إعادة ، كالمسافر والمريض ، حكاه الخراسانيون ، وهو مشهور عندهم .

( والثالث ) : لا تجب الصلاة في الحال بالتيمم ، بل يصبر حتى يجد الماء . حكاه صاحب البيان وجماعة من الخراسانيين وليس بشيء .

( المسألة الثانية ) : إذا صلى بالتيمم في سفر طويل ، ثم وجد الماء بعد الفراغ لا يلزمه الإعادة لظواهر الأحاديث ; ولأن عدم الماء في السفر عذر عام فسقط الفرض بالتيمم بسببه ، كالصلاة قاعدا لعذر المرض ، ولا فرق بين وجود الماء [ ص: 351 ] في الوقت وبعده .

قال صاحب البحر : قال أصحابنا : ولا تستحب الإعادة في هذه المسألة ، ثم المذهب الصحيح المشهور أنه لا فرق بين أن يكون السفر مسافة القصر أو دونها وإن قل ، وهذا هو المنصوص في كتب الشافعي .

وقال الشافعي في البويطي : وقد قيل : لا يتيمم إلا في سفر يقصر فيه الصلاة فمن أصحابنا من جعل هذا قولا للشافعي ، فقال : في قصير السفر قولان ، وممن سلك هذه الطريقة المصنف ، وقال الأكثر : القصير كالطويل بلا خلاف ، وإنما حكى الشافعي مذهب غيره ، وهذا هو المذهب ، والدليل عليه إطلاق السفر في القرآن .

قال الشافعي رحمه الله : ولم تحده الصحابة رضي الله عنهم بشيء ، وحدوا سفر القصر ، ولما روى الشافعي عن ابن عيينة عن ابن عجلان عن نافع : أن ابن عمر رضي الله عنهما " أقبل من الجرف حتى كان بالمربد تيمم وصلى العصر ثم دخل المدينة والشمس مرتفعة فلم يعد الصلاة " هذا إسناد صحيح ، والجرف : بضم الجيم والراء وبعدهما فاء ، موضع بينه وبين المدينة ثلاثة أميال ، والمربد : بكسر الميم ، موضع بقرب المدينة .

( المسألة الثالثة ) العاصي بسفره كالآبق وقاطع الطريق وشبههما إذا عدم الماء في سفره ثلاثة أوجه . والصحيح : أنه يلزمه أن يصلي بالتيمم ويلزمه الإعادة ، والثاني : يلزمه التيمم ولا تجب الإعادة ، والثالث : لا يجوز التيمم ، وهذا الثالث غريب حكاه الحناطي وصاحب البيان والرافعي ، فعلى هذا يقال له : ما دمت على قصدك المعصية لا يحل لك التيمم ، ، فإن ثبت استبحت التيمم وغيره ، كما أنه لا يحل له الميتة عند الضرورة ، بل يقال : تب وكل ، والصواب الأول ; لأنه يلزمه أمران : التوبة والصلاة ، فإذا أخل بأحدهما لا يباح له الإخلال بالآخر ، وليس التيمم في هذا الحال تخفيفا بل عزيمة ، فلا تكون المعصية سببا لإسقاطه ، فعلى هذا لو رأى الماء في صلاته بطلت ويلزمه الخروج منها ، كما إذا رأى الماء في أثناء صلاة الحضر بالتيمم ، وقد تقدم ذكر هذه الأوجه في باب المسح على الخف ، وذكرنا هناك ضابطا فيما يستبيحه العاصي بسفره وما لا يستبيحه ، وبالله التوفيق .

( فرع ) إذا نوى المسافر إقامة أربعة أيام فأكثر في بلد وعدم الماء فيه وصلى بالتيمم ، فحكمه حكم الحاضر بلا خلاف ، فيلزمه إعادة ما صلى بالتيمم [ ص: 352 ] على المذهب . ولو نوى هذه الإقامة في موضع من البادية يعم فيه عدم الماء فلا إعادة فيه بلا خلاف ، هكذا صرح بالصورتين صاحب الحاوي وإمام الحرمين ، ونقله الروياني عن القفال ، وقاله آخرون ولا نعلم فيه خلافا . ولو دخل المسافر في طريقه قرية فعدم الماء فيها وصلى بالتيمم فوجهان ، حكاهما المتولي والروياني وآخرون .

( أحدهما ) : لا إعادة ; لأنه مسافر ولهذا يباح له القصر والفطر ، ( وأصحهما ) : وجوب الإعادة ، صححه الروياني والرافعي ، وهو قول القفال ، وقطع به البغوي وغيره ; لأن عدم الماء في القرية نادر ، فالضابط الأصلي ما قاله الرافعي ، وأشار إليه إمام الحرمين وصاحب الشامل وآخرون : أن الإعادة تجب إذا تيمم في موضع يندر فيه عدم الماء ، ولا يجب إذا كان العدم يغلب فيه ، بدليل ما ذكرنا من هاتين الصورتين . قال الرافعي : اعلم أن وجوب الإعادة على المقيم ليس لعلة الإقامة ، بل لأن فقد الماء في موضع الإقامة نادر . وكذا عدم الإعادة في السفر ليس لكونه مسافرا ، بل لأن فقد الماء في السفر مما يعم حتى لو أقام في مفازة أو موضع يعدم فيه الماء غالبا وطالت إقامته وصلى بالتيمم فلا إعادة ، وفي مثله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه وكان يقيم بالربذة ويفقد الماء أياما : { التراب كافيك ولو لم تجد الماء عشر حجج } قال : ولو دخل المسافر في طريقه قرية وعدم الماء ، تيمم وأعاد على الأصح ، وإن كان حكم السفر باقيا عليه لندور العدم . وإذا عرفت هذا علمت أن قول الأصحاب أن المقيم يقضي والمسافر لا يقضي جار على الغالب في حال السفر والإقامة ، وإلا فالحقيقة ما بيناه .

هذا كلام الرافعي وذكر معناه إمام الحرمين وصاحب الشامل وآخرون والله أعلم .

( فرع ) قال صاحب البيان : قال الشيخ أبو حامد : إذا خرج الرجل إلى ضيعته وبستانه فعدم الماء كان له أن يتيمم ويتنفل على الراحلة ، قال : فمقتضى قوله : أنه سفر قصير ففي إعادة ما صلى فيه بالتيمم القولان : المشهور ، ونص البويطي والله أعلم .

( فرع ) في مذاهب العلماء فيمن عدم الماء في الحضر . [ ص: 353 ] قد ذكرنا : أن مذهبنا المشهور أنه يصلي بالتيمم وعليه الإعادة ، وبه قال جمهور العلماء ، وهو رواية عن أبي حنيفة وعنه رواية أنه لا يصلي بالتيمم . وعن مالك والثوري والأوزاعي والمزني والطحاوي : يصلي بالتيمم ولا يعيد ، وهو رواية عن أحمد وقول لنا كما سبق . واحتج لمن لم يوجب الصلاة وقوله تعالى : { وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا } فأباحه للمريض وللمسافر ، فلم يجز لغيرهما ، وبأن إيجابها مع إيجاب الإعادة يؤدي إلى إيجاب ظهرين عن يوم ; ولأن الصلاة تفعل لتجزئ ، وهذه غير مجزئة ، واحتج لمن أوجب الصلاة بلا إعادة بالقياس على المسافر . واحتج أصحابنا لوجوب الصلاة وقوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } إلى قوله : { فلم تجدوا ماء فتيمموا } وهذا عام . وفي الاستدلال بالآية نظر ; ولأنه مكلف عدم الماء فلزمه التيمم للفريضة كالمسافر ; ولأنه عاجز عن استعمال الماء فلزمه التيمم كالمريض وقياسا على صلاة الجنازة .

وقد وافقوا عليها وأجاب أصحابنا عن احتجاجهم بالآية بجوابين .

( أحدهما ) : أن السفر ذكر فيها لكونه الغالب لا للاشتراط ، كقوله تعالى : { ولا تقتلوا أولادكم من إملاق } ( والثاني ) : أنها محمولة على تيمم لا إعادة معه ، وعن قولهم يؤدي إلى إيجاب ظهرين أن المقصود الثانية ، وإنما وجبت الأولى لحرمة الوقت ، كإمساك يوم الشك إذا ثبت أنه من رمضان ، وفي هذا جواب عن قولهم : الصلاة تفعل لتجزئ فيقال : وقد تفعل حرمة للوقت كما ذكرنا ، واحتج أصحابنا للإعادة بأنه عذر نادر غير متصل ، فأشبه من نسي بعض أعضاء الطهارة ، وفي هذا جواب عن احتجاجهم ، والله أعلم .

( فرع ) في مذاهب العلماء فيمن صلى بالتيمم في السفر ثم وجد الماء بعد الفراغ من الصلاة قد ذكرنا : أن مذهبنا أنه لا إعادة سواء وجد الماء في الوقت أو بعده ، حتى لو وجده عقب السلام فلا إعادة ، وبه قال الشعبي والنخعي وأبو سلمة بن عبد الرحمن ومالك وأبو حنيفة والثوري والأوزاعي وأحمد وإسحاق والمزني وابن المنذر وجمهور السلف والخلف .

وحكى [ ص: 354 ] ابن المنذر وغيره عن طاوس وعطاء والقاسم بن محمد ومكحول وابن سيرين والزهري وربيعة أنهم قالوا : إذا وجد الماء في الوقت لزمه الإعادة ، واستحبه الأوزاعي ولم يوجبه ، قال ابن المنذر : وأجمعوا أنه إذا وجده بعد الوقت لا إعادة ، واحتج لهؤلاء بأن الماء هو الأصل فوجوده بعد التيمم كوجود النص بعد الحكم بالاجتهاد . واحتج أصحابنا بحديث عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : { خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء فتيمما صعيدا طيبا وصليا ، ثم وجد الماء في الوقت فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء ، ولم يعد الآخر ، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له ، فقال للذي لم يعد : أصبت السنة وأجزأتك صلاتك ، وقال للذي توضأ وأعاد : لك الأجر مرتين } رواه أبو داود والنسائي والبيهقي وغيرهم .

قال أبو داود : ذكر أبي سعيد في هذا الحديث وهم وليس بمحفوظ ، بل هو مرسل قلت : ومثل هذا المرسل يحتج به الشافعي وغيره كما قدمنا بيانه في مقدمة هذا الكتاب أن الشافعي يحتج بمرسل كبار التابعين إذا أسند من جهة أخرى أو يرسل من جهة أخرى ، أو يقول به بعض الصحابة أو عوام العلماء ، وقد وجد في هذا الحديث شيئان من ذلك ( أحدهما ) : ما قدمناه قريبا ، عن ابن عمر رضي الله عنهما : ( أنه أقبل من الجرف حتى إذا كان بالمربد تيمم وصلى العصر ثم دخل المدينة والشمس مرتفعة فلم يعد الصلاة ) ، وهذا صحيح عن ابن عمر كما سبق ، ( الثاني ) : روى البيهقي بإسناده عن أبي الزناد قال : " كان من أدركت من فقهائنا الذين ينتهى إلى قولهم منهم سعيد بن المسيب ، وذكر تمام فقهاء المدينة السبعة ، يقولون : من تيمم وصلى ثم وجد الماء وهو في الوقت أو بعده لا إعادة عليه ، " واحتج أصحابنا أيضا بالقياس على المريض يصلي بالتيمم أو قاعدا ، والجواب عن احتجاجهم : أن ما ذكروه ليس نظير مسألتنا ، بل نظيره من صلى بالتيمم ومعه ماء نسيه ، ونظير مسألتنا ما عمله الصحابي باجتهاد ثم نزل النص بإثبات الحكم بخلاف اجتهاده ، فإنه لا يبطل ما عمله والله أعلم

التالي السابق


الخدمات العلمية