صفحة جزء
( فرع ) ليس للمفتي ولا للعامل المنتسب إلى مذهب الشافعي - رحمه الله - في مسألة القولين ، أو الوجهين ، أن يعمل بما شاء منهما بغير نظر ، بل عليه في القولين العمل بآخرهما إن علمه ، وإلا فبالذي رجحه الشافعي ، فإن قالهما في حالة ولم يرجح واحدا منهما - وسنذكر إن شاء الله تعالى [ ص: 111 ] أنه لم يوجد هذا إلا في ست عشرة أو سبع عشرة مسألة ، أو نقل عنه قولان ، ولم يعلم أقالهما في وقت أم في وقتين ؟ وجهلنا السابق وجب البحث عن أرجحهما ، فيعمل به ، فإن كان أهلا للتخريج والترجيح استقل به متعرفا ذلك من نصوص الشافعي ومأخذه وقواعده ، فإن لم يكن أهلا فلينقله عن أصحابنا الموصوفين بهذه الصفة ، فإن كتبهم موضحة لذلك ، فإن لم يحصل له ترجيح بطريق ، توقف حتى يحصل . وأما الوجهان فيعرف الراجح منهما بما سبق ، إلا أنه لا اعتبار فيهما بالتقدم والتأخر إلا إذا وقعا من شخص واحد ، وإذا كان أحدهما منصوصا والآخر مخرجا ، فالمنصوص هو الصحيح الذي عليه العمل غالبا ، كما إذا رجح الشافعي أحدهما ، بل هذا أولى إلا إذا كان المخرج من مسألة يتعذر فيها الفرق ، فقيل : لا يترجح عليه المنصوص ، وفيه احتمال ، وقل أن يتعذر الفرق ، أما إذا وجد من ليس أهلا للترجيح خلافا بين الأصحاب في الراجح من قولين أو وجهين فليعتمد ما صححه الأكثر والأعلم والأورع ، فإن تعارض الأعلم والأورع قدم الأعلم ، فإن لم يجد ترجيحا عن أحد اعتبر صفات الناقلين للقولين والقائلين للوجهين ، فما رواه البويطي والربيع المرادي ( 1 ) والمزني ( 2 ) عن الشافعي مقدم عند أصحابنا ، على ما رواه الربيع الجيزي وحرملة .

وكذا نقله أبو سليمان الخطابي عن أصحابنا في أول معالم السنن ، إلا أنه لم يذكر البويطي فألحقته أنا لكونه أجل من الربيع المرادي والمزني ، وكتابه مشهور فيحتاج إلى ذكره . قال الشيخ أبو عمرو : ويترجح أيضا ما وافق أكثر أئمة المذاهب ، وهذا الذي قاله فيه ظهور واحتمال ، وحكى القاضي حسين فيما إذا كان للشافعي [ ص: 112 ] قولان ، أحدهما يوافق أبا حنيفة ، وجهين لأصحابنا أحدهما : أن القول المخالف أولى ، وهذا قول الشيخ أبي حامد الإسفراييني ، فإن الشافعي إنما خالفه لاطلاعه على موجب المخالفة . والثاني : القول الموافق أولى وهو قول القفال ، وهو الأصح ، والمسألة المفروضة فيما إذا لم يجد مرجحا مما سبق ، وأما إذا رأينا المصنفين المتأخرين مختلفين ، فجزم أحدهما بخلاف ما جزم به الآخر ، فهما كالوجهين المتقدمين على ما ذكرناه من الرجوع إلى البحث على ما سبق ، ويرجح أيضا بالكثرة كما في الوجهين ، ويحتاج حينئذ إلى بيان مراتب الأصحاب ، ومعرفة طبقاتهم وأحوالهم وجلالتهم ، وقد بينت ذلك في ( تهذيب الأسماء واللغات ) بيانا حسنا ، وهو كتاب جليل لا يستغني طالب علم من العلوم كلها عن مثله .

. وذكرت في كتاب ( طبقات الفقهاء ) من ذكرته منهم أكمل من ذلك وأوضح ، وأشبعت القول فيهم وأنا ساع في إتمامه ، أسأل الله الكريم توفيقي له ولسائر وجوه الخير . واعلم : أن نقل أصحابنا العراقيين لنصوص الشافعي وقواعد مذهبه ووجوه متقدمي أصحابنا أتقن ، وأثبت من نقل الخراسانيين غالبا ، والخراسانيون أحسن تصرفا وبحثا وتفريعا وترتيبا غالبا ، ومما ينبغي أن يرجح به أحد القولين ، وقد أشار الأصحاب إلى الترجيح به أن يكون الشافعي ذكره في بابه ومظنته ، وذكر الآخر في غير بابه ، بأن جرى بحث وكلام جر إلى ذكره ، فالذي ذكره في بابه أقوى ; لأنه أتى به مقصودا وقرره في موضعه بعد فكر طويل بخلاف ما ذكره في غير بابه استطرادا ، فلا يعتني به اعتناءه بالأول .

وقد صرح أصحابنا بمثل هذا الترجيح في مواضع لا تنحصر ، ستراها في هذا الكتاب في مواطنها إن شاء الله تعالى ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية