صفحة جزء
قال المصنف : رحمه الله تعالى ( إذا كان على بعض أعضائه كسر يحتاج إلى وضع الجبائر وضع الجبائر على طهر ، فإن وضعها على طهر ثم أحدث وخاف من نزعها ، أو وضعها على غير طهر وخاف من نزعها مسح على الجبائر ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عليا رضي الله عنه أن يمسح على الجبائر ; ولأنه تلحقه المشقة في نزعها فجاز المسح عليها كالخف ، وهل يلزمه مسح الجميع أم لا ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) : يلزمه مسح الجميع ; لأنه مسح أجيز للضرورة فوجب فيه الاستيعاب كالمسح في التيمم .

( والثاني ) : يجزيه ما يقع عليه الاسم ; لأنه مسح على حائل منفصل ، فهو كمسح الخف . وهل يجب التيمم مع المسح ؟ فيه قولان . قال في القديم : لا يتيمم ، كما لا يتيمم مع المسح على الخف . وقال في الأم : يتيمم ، لحديث جابر رضي الله عنه { أن رجلا أصابه حجر فشجه في رأسه ثم احتلم ، فسأل أصحابه هل تجدون لي رخصة في التيمم ؟ قالوا : ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء ، فاغتسل فمات فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على رأسه خرقة يمسح عليها ويغسل سائر جسده } ; ولأنه يشبه الجريح ; لأنه يترك غسل العضو لخوف الضرر ، ويشبه لابس الخف ; لأنه لا يخاف الضرر من غسل العضو ، وإنما يخاف المشقة من نزع الحائل كلابس الخف ، فلما أشبههما وجب عليه الجمع بين المسح والتيمم ، فإن [ ص: 368 ] برأ وقدر على الغسل ، فإن كان قد وضع الجبائر على غير طهر لزمه إعادة الصلاة ، وإن كان وضعها على طهر ففيه قولان .

( أحدهما ) : لا يلزم الإعادة ، كما لا يلزم ماسح الخف ( والثاني ) : يلزمه ; لأنه ترك غسل العضو لعذر نادر غير متصل فصار كما لو ترك غسل العضو ناسيا ) .


( الشرح ) قال الأزهري وأصحابنا : الجبائر : هي الخشب التي تسوى فتوضع على موضع الكسر وتشد عليه حتى ينجبر على استوائها ، واحدتها جبارة بكسر الجيم ، وجبيرة بفتحها . قال صاحب الحاوي : الجبيرة ما كان على كسر ، واللصوق بفتح اللام ما كان على قرح ، وقد أنكر جماعة ممن صنف في ألفاظ المهذب على المصنف قوله : وإن كان على عضوه كسر .

وقالوا : هذا غلط وإنما يقال : عضو مكسور ولا يقال : عليه كسر ، وهذا الإنكار باطل ، بل يقال : عضو مكسور وفيه كسر وعليه كسر ، كله بمعنى واحد . وأما حديث جابر فرواه أبو داود والبيهقي وضعفه البيهقي ، وأما حديث علي رضي الله عنه فضعيف رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما واتفقوا على ضعفه ; لأنه من رواية عمرو بن خالد الواسطي ، واتفق الحفاظ على ضعفه ، قال أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وآخرون : هو كذاب ، قال البيهقي : هو معروف بوضع الحديث ، ونسبه إلى الوضع وكيع ، قال البيهقي : ولا يثبت في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء قال : وأقرب شيء فيه حديث جابر الذي سبق وليس بالقوي قال : وإنما فيه قول الفقهاء من التابعين فمن بعدهم مع ما رويناه عن ابن عمر . فذكر بإسناده أن ابن عمر رضي الله عنهما توضأ وكفه معصوبة فمسح عليها وعلى العصابة وغسل ما سوى ذلك .

قال : وهذا عن ابن عمر صحيح ثم روى البيهقي جواز المسح على الجبائر وعصائب الجراحات بأسانيده عن أئمة التابعين . وينكر على المصنف قوله : " لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عليا " فأتى بصيغة الجزم في حديث متفق على ضعفه وتوهينه ، وقد سبق التنبيه على هذه العبارة والقاعدة في الفصول المذكورة في مقدمة الكتاب . وقوله : لأنه مسح أجيز للضرورة ، احتراز من مسح الخف ، فإنه تخفيف ورخصة ، وقوله مسح على حائل منفصل فيه احتراز من مسح اللحية في التيمم .

[ ص: 369 ] أما حكم المسألة ) فقال أصحابنا : إذا احتاج إلى وضع الجبيرة وضمها ، فإن كان لا يخاف ضررا من نزعها وجب نزعها وغسل ما تحتها إن لم يخف ضررا من غسله ، قال العبدري : وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد وداود : لا يلزمه نزعها وإن لم يخف ضررا ، قال أصحابنا : وإن خاف الضرر من نزعها لم يجب نزعها ، والخوف المعتبر ما سبق في المرض المجوز للتيمم على التفصيل السابق اتفاقا واختلافا ، هكذا قاله الأصحاب .

قال أصحابنا : ولا يجوز أن يضع الجبيرة على شيء من الصحيح إلا القدر الذي لا يتمكن من ستر الكسر إلا به ، قالوا : ويجب أن يضعها على طهر .

وحكى إمام الحرمين وجها عن والده أنه لا يجب وضعها على طهر إذا لم نوجب الإعادة على من وضعها على غير طهر ، وهذا شاذ ، والصحيح المشهور : أنه يجب وضعها على طهر مطلقا ، وبه قطع الشيخ أبو جامد والقاضي أبو الطيب والروياني في الحلية وآخرون ، وهو مراد المصنف بقوله : وضع الجبائر على طهر ، أي يجب عليه الطهارة لوضع الجبيرة على عضوه ، وهو مراد الشافعي رحمه الله بقوله في المختصر : ( ولا يضعها إلا على وضوء ) فإن خالف ووضعها على غير طهر ، فإن لم يخف ضررا من نزعها وجب نزعها ثم يلبسها على طهارة ، وإن خاف لم يلزمه نزعها ، بل يصح مسحه ويكون آثما ، هكذا صح به المحاملي والأصحاب ، وإذا أراد لابس الجبيرة الطهارة فليفعل ثلاثة أمور : غسل الصحيح من باقي أعضائه والمسح على الجبيرة والتيمم ، أما غسل الصحيح فيجب غسل الأعضاء الصحيحة ، وكل ما يقدر عليه من أطراف الجبيرة على التفصيل المتقدم في فصل الجريح ، هذا هو الصواب المقطوع به في معظم طرق الأصحاب .

وحكى بعض الخراسانيين والرافعي طريقا آخر أن في غسل الصحيح القولين فيمن وجد بعض ما يكفيه من الماء ، وقد سبق مثل هذا الطريق في الجريح وعلى هذا الطريق يتعين التيمم ، والمذهب : القطع بوجوب غسل الصحيح ; لأن كسر العضو لا يزيد على فقده ، ولو فقده وجب غسل الباقي قطعا .

وأما مسح الجبيرة بالماء فواجب باتفاق الأصحاب في كل الطرق ، وممن نقل اتفاقهم عليه إمام الحرمين إلا قولا حكاه الرافعي عن حكاية الحناطي أنه [ ص: 370 ] يكفيه التيمم ، ولا يمسح الجبيرة بالماء ، ونقله صاحب العدة أيضا ، واختاره القاضي أبو الطيب والمذهب الأول ، وهل يجب استيعاب الجبيرة بالمسح كالوجه في التيمم ؟ أم يكفي مسح ما ينطلق عليه الاسم كالرأس والخف ؟ فيه وجهان مشهوران . ذكرهما المصنف بدليلهما ، أصحهما عند الأصحاب : يجب الاستيعاب صححه الشيخ أبو محمد في الفروق ، والبغوي والروياني في الحلية ، والرافعي وغيرهم ، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد .

وأما التيمم مع غسل الصحيح ومسح الجبيرة بالماء ، ففيه طريقان ، أصحهما وأشهرهما والتي قطع الجمهور بها : أن فيه قولين أصحهما عند الجمهور : وجوبه وهو نصه في الأم والبويطي والكبير . والثاني : لا يجب وهو نصه في القديم ، وظاهر نصه في المختصر ، وصححه الشيخ أبو حامد والجرجاني والروياني في الحلية ، قال العبدري : وبهذا قال أحمد وسائر الفقهاء .

والطريق الثاني حكاه الخراسانيون وصححه المتولي منهم أنه إن كان ما تحت الجبيرة عليلا لا يمكن غسله لو كان ظاهرا وجب التيمم كالجريح ، وإن أمكن غسله لو ظهر لم يجب التيمم كلابس الخف ، وقد ذكر المصنف دليل القولين ، والمذهب الوجوب : فإذا أوجبنا التيمم ، فلو كانت الجبيرة على موضع التيمم ففيه وجهان حكاهما الشيخ أبو محمد وولده إمام الحرمين والغزالي وآخرون .

( أحدهما ) : يجب مسحها بالتراب كما يجب مسحها بالماء .

( وأصحهما ) عند الأصحاب وبه قطع الماوردي والبغوي وآخرون : لا يجب مسحها بالتراب ، بل يمسح ما سواها ; لأن التراب ضعيف ، فلا يؤثر فوق حائل بخلاف المسح بالماء ، فإن تأثيره فوق الحائل معهود في الخف ، فعلى هذا يستحب قاله الدارمي وغيره ; لأن فيه خروجا من الخلاف .

وأما وقت مسح الجبيرة بالماء فإن كان جنبا مسح متى شاء إذ لا ترتيب عليه . وإن كان محدثا مسح إذا وصل غسل عضوها ، وأما وقت التيمم فعلى ما سبق في تيمم الجريح سواء اتفاقا واختلافا وتفريعا ، ومختصره : أنه إن كان جنبا فوجهان .

( أحدهما ) : يجب تقديم الغسل ثم يتيمم ، ( والصحيح ) المشهور : إن شاء قدم التيمم على الغسل ، وإن شاء أخره ، وإن شاء وسطه ، وإن كان محدثا فثلاثة أوجه مشهورة . ( أحدها ) : يجب تقديم [ ص: 371 ] غسل جميع المقدور عليه .

( والثاني ) : يتخير كالجنب ، ( والثالث ) وهو الصحيح عند جمهور الأصحاب : لا ينتقل من عضو حتى يكمل طهارته ، هكذا صححه الأصحاب في طرقهم . ونقل الرافعي تصحيحه عنهم فعلى هذا يجيء التفصيل السابق في تيمم الجريح بين أن يكون عليه جبيرة في الوجه أو اليد أو الرجل أو جبيرتان أو جبائر ، والحكم ما سبق هناك ، فعلى الثالث يتعدد التيمم بحسب الجبائر ، كما سبق هناك ، وعلى الوجهين الأولين يكفي تيمم واحد عن الجبائر كلها ، وهل يجب على صاحب الجبيرة إعادة الوضوء لكل فريضة ؟ وإن لم يحدث كما يجب إعادة التيمم ؟ أم يكفي غسل ما بعد الجبيرة ؟ أم لا يجب غسل شيء ما لم يحدث ؟ فيه ثلاثة أوجه كما سبق في الجريح

. والصحيح أنه لا يجب غسل شيء ، ونقل الاتفاق عليه هنا إمام الحرمين وآخرون ، وصرح به الماوردي والغزالي وغيرهما . وممن ذكر الخلاف فيه القاضي حسين والبغوي ، وقطع الشيخ أبو حامد بوجوب إعادة الوضوء كالمستحاضة ، والمذهب : أنه لا يجب ، ويفارق المستحاضة ، فإن حدثها متجدد ، وحكم إعادة مسح الجبيرة حكم إعادة الغسل . وقطع الغزالي بأنه لا يجب ، وهو المذهب ، وإذا شفي صاحب الجبيرة لزمه غسل موضعها ، وحكم وجوب استئناف الوضوء أو الغسل إن كان جنبا وعدم وجوبه على ما سبق في الجريح . والله أعلم .

هذا كله إذا كان الكسر محوجا إلى الجبيرة فوضعها ، أما إذا لم يحتج إلى وضعها لكن خاف من إيصال الماء إلى العضو ، فحكمه حكم الجريح ، فيجب غسل الصحيح بقدر الإمكان على التفصيل السابق هناك ويجب التيمم مع غسل الصحيح ، ولا يجب مسح موضع الكسر بالماء ، وإن لم يخف منه ضررا ; لأن المسح بالماء لا تأثير له من غير حائل كما قدمناه في الجريح ، بخلاف الجبيرة ، فإنه مسح على حائل كالخف ، كذا قطع به الأصحاب في الطرق ، ونقله الرافعي عن الأئمة ، ثم قال : وللشافعي سياق يقتضي وجوب المسح ، ووجوب التيمم في هذه الصورة متفق عليه ، بلا خلاف ، لئلا يبقى موضع الكسر بلا طهارة ، فإذا تيمم وكان الكسر في محل التيمم وجب مسحه بالتراب ، كما سبق في الجريح ; لأنه لا ضرر فيه ولا حائل دونه والله أعلم .

[ ص: 372 ] وأما إعادة الصلاة التي يفعلها الكسير ، فإن لم يكن عليه ساتر من جبيرة أو لصوق فلا إعادة بالاتفاق ; لأن التيمم إذا تجرد للمرض والجراحة ونحوهما لا يجب معه إعادة ، فمع غسل بعض الأعضاء أولى أن لا يجب ، وإن كان عليه ساتر من جبيرة أو لصوق أو نحوهما ، فإن كان وضعه على طهر ، ففي وجوب الإعادة قولان ذكرهما المصنف بدليلهما الصحيح منهما عند جمهور الأصحاب : لا يجب الإعادة ، وقطع به جماعات وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد ، وانفرد البغوي بترجيح الوجوب . وإن كان وضعه على غير طهر فطريقان ، أصحهما : القطع بوجوب الإعادة لندوره وتقصيره ، وبهذا الطريق قطع المصنف والجمهور في الطرق كلها ، وصححه الباقون ، والثاني : أن في الإعادة قولين حكاه القاضي أبو الطيب والبندنيجي والدارمي وصاحب الشامل والمتولي والروياني وآخرون من العراق والخراسانيين قال المتولي : في المسألة ثلاثة أقوال ، أصحها : إن وضع على طهر لم تجب الإعادة ، وإن وضع على غير طهر وجبت ، والثاني : يجب مطلقا ، والثالث : لا يجب مطلقا . وقال القاضي حسين وإمام الحرمين : إن وضع على طهر لم يعد في القديم ، وفي الجديد قولان : وإن وضع على غير طهر أعاد في الجديد ، وفي القديم قولان ، ثم المشهور : أنه لا فرق في الإعادة بين أن نوجب التيمم ويفعله أو لا نوجبه ، وقال أبو حفص بن الوكيل من أصحابنا : الخلاف إذا لم نوجب التيمم أما إذا أوجبناه فتيمم فلا يعيد - قولا واحدا - والمذهب الأول ، وبه قطع الجمهور ، ثم الجمهور أطلقوا الخلاف في الإعادة .

قال القاضي أبو الطيب وأصحاب الشامل والتتمة والبحر والرافعي : هذا الخلاف إذا كانت الجبيرة أو اللصوق على غير محل التيمم ، فإن كان عليه - وقلنا : لا يجب التيمم - فكذلك وإن قلنا : يجب وجبت الإعادة - قولا واحدا - لنقصان البدل والمبدل ولم أر للجمهور تصريحا بمخالفة هذه الجماعة ولا بموافقتها ، لكن إطلاقهم يقتضي أن لا فرق .

هذا تفصيل مذهبنا ، وحكى ابن المنذر عن جمهور العلماء أنه لا إعادة عليه ، وحكى العبدري عن أحمد بن حنبل وسائر الفقهاء أنه لا يجب التيمم على صاحب الجبيرة والله أعلم

[ ص: 373 ] فرع ) قطع الشيخ أبو حامد والماوردي والدارمي وابن الصباغ وسائر العراقيين وصاحب التتمة وغيره من الخراسانيين بأن المسح على الجبيرة غير مؤقت بل يمسح من غير نزع ، وإن تطاولت الأزمان إلى أن يبرأ ، وذكر الفوراني وإمام الحرمين والغزالي وآخرون من الخراسانيين وجها أنه مؤقت كالخف كذا أطلقوه .

قال الرافعي : فعلى هذا الوجه يختلف بالحضر والسفر ، فينزع المقيم الجبيرة بعد يوم وليلة ، والمسافر بعد ثلاث ، وأنكره عليه الشيخ أبو عمرو بن الصلاح وقال : الصواب أنه يختص بيوم وليلة حضرا وسفرا . والأظهر ما ذكره الرافعي ، وهو مقتضى إطلاق من حكى هذا الوجه ، وهذا الوجه في أصله ضعيف ، والصواب : أنه غير مؤقت ; لأن الرخصة وردت غير مقيدة بخلاف الخف ، ولأن الحاجة تدعو إلى استدامة الجبيرة . قال القاضي أبو الطيب : ولأن الخف ينزعه للجنابة بخلاف الجبيرة . قال إمام الحرمين : هذا الخلاف إنما يثبت إذا أمكن نزع الجبيرة ووضعها بغير ضرر العضو ، فإن أضر به لم يجب بلا خلاف .

قال : وصورة الخلاف إذا لم يمكن النزع بغير خلل يعود إلى العضو إلا بعد كل يوم وليلة ، فإن أمكن في كل وقت لم يجز المسح عليها ، وهذا الذي قاله الإمام حاصله رفع الخلاف من أصله ; فإنا قدمنا اتفاق الأصحاب على أنه إذا لم يكن في النزع ضرر لا يجوز المسح بلا خلاف ، والله أعلم

( فرع ) قال أصحابنا : حكم اللصوق وغيره من الجرح حكم الجبيرة في جميع ما سبق ، فإن قدر على حل عصابته وغسله من غير ضرر لزمه ، وإلا فهو كالجبيرة على ما سبق . قال القاضي حسين وغيره : وكذا لو وضع قشر الباقلا ونحوه على خدشه فهو كالجبيرة . قال صاحب التهذيب : وكذا لو طلى على خدشه شيئا ، قال : وكذا الشقوق على الرجل إذا احتاج فيها إلى تقطير شيء يجمد فيها .

( فرع ) قال أصحابنا : إذا أجنب صاحب الجبيرة ونحوها لم يلزمه نزعها ، بل يغسل الصحيح ويمسح عليها ويتيمم كالمحدث ، بخلاف لابس الخف يلزمه النزع للجنابة ; لعدم المشقة هناك .

[ ص: 374 ] فرع ) لو كان على عضويه جبيرتان فرفع إحداهما لا يلزمه رفع الأخرى ، بخلاف الخفين ; لأن لبسهما جميعا شرط بخلاف الجبيرتين ، ولو سقطت جبيرته عن عضوه في الصلاة بطلت صلاته ، سواء كان برأ أم لا ، كانخلاع الخف ، هذا مذهبنا . وحكى صاحب العدة عن أبي حنيفة أنه إن سقطت قبل البرء لم تبطل ، دليلنا القياس على الخف وعلى ما بعد البرء ، ولو اندمل ما تحت الجبيرة وبرأ وهو لا يعلم فصلى بعده صلوات وجب قضاؤهن بلا خلاف ، كذا نقل الاتفاق فيه صاحب التتمة وغيره ، ولو توهم اندماله بعد التيمم فبان أنه لم يندمل ، ففي بطلان تيممه الوجهان في تيمم الجريح ، أصحهما : لا يبطل ، وقد سبقت المسألة هناك مستوفاة وبالله التوفيق .

فصل في مسائل تتعلق بباب التيمم ( إحداها ) إذا تيمم وعليه خفان أو عمامة لبسهما على طهر ثم خلع ذلك ، لم يبطل تيممه عندنا وبه قال مالك وأبو حنيفة والجمهور ، وحكى العبدري عن أحمد أنه يبطل .

( الثانية ) قال الروياني : قال والدي : لو عدم الجنب الماء فتيمم لقراءة القرآن فشرع فيها ثم رأى الماء ، فإن لم ينو عند الشروع في القراءة قراءة قدر معلوم لزمه قطع القراءة بمجرد رؤية الماء ، وإن نوى قدرا احتمل وجهين . أحدهما : له الإتمام كما لو نوى نافلة محصورة له إتمامها على المذهب . والثاني : يلزمه القطع ; لأن القراءة لا يرتبط بعضها ببعض .

قال الروياني : وهذا الثاني أصح ، ولا وجه للأول . قال : ولو كان في وسط الآية لزمه قطعها .

( الثالثة ) : قال الروياني : قال والدي : لو تيمم عادم الماء قبل الاجتهاد في القبلة ففي صحة تيممه وجهان ، بناء على من تيمم وعليه نجاسة .

( الرابعة ) : إذا تيمم وعليه عمامة أو خفان لبسهما على طهارة ثم نزعهما ، لم يبطل تيممه عندنا وعند مالك وأبي حنيفة وداود والعلماء كافة إلا رواية حكاها العبدري عن أحمد : أنه يبطل .

[ ص: 375 ] فرع ) قال المحاملي في اللباب : التيمم يشتمل على فرض وسنة وأدب وكراهة وشرط ، فالفرض سبعة : طلب الماء ، والقصد إلى الصعيد ، والنية ، ومسح الوجه واليدين ، والترتيب ، والتتابع على قول . والسنة خمسة : التسمية ، والاقتصار على ضربتين ، ونفض الغبار الكثير ، وتقديم اليمنى . والأدب ثلاثة : استقبال القبلة ، والابتداء بأعلى الوجه وبالكفين في اليدين . والكراهة استعمال التراب الكثير ، والزيادة على الضربتين ، والشرط واحد وهو كون التراب مطلقا .

قال : وينقض التيمم ما ينقض الوضوء ، وخمسة أشياء أيضا : وجود الماء أو ثمنه وتوهمه ، وارتفاع المرض ، والإقامة قال : ويفارق التيمم الوضوء في خمسة أشياء : كون التيمم في عضوين ، ولا يجب إيصال التراب إلى أصول الشعر مطلقا ، ولا يصلي فرضين بتيمم ولا يتيمم إلا لعذر ، وبعد دخول الوقت . وهذا آخر كلام المحاملي ، وقد ترك من الشروط العذر ودخول الوقت . وقد شذ عن ضبطه مسائل وتفاصيل ووجوه سبقت في مواضعها والله أعلم

فصل في حكم الصلوات المأمور بهن في الوقت مع خلل للضرورة قال أصحابنا : العذر ضربان ، عام ونادر ، فالعام لا قضاء معه للمشقة ، ومن هذا الضرب المريض يصلي قاعدا أو موميا ، أو بالتيمم خوفا من استعمال الماء ، ومنه المصلي بالإيماء في شدة الخوف ، والمسافر يصلي بالتيمم لعجزه عما يجب عليه أن يستعمله .

وأما النادر فقسمان ، قسم يدوم غالبا وقسم لا يدوم ، فالأول كالمستحاضة وسلس البول والمذي ومن به جرح سائل أو رعاف دائم أو استرخت مقعدته فدام خروج الحدث منه ومن أشبههم ، فكلهم يصلون مع الحدث والنجس ولا يعيدون للمشقة والضرورة .

وأما الذي لا يدوم غالبا فنوعان ، نوع : يأتي معه ببدل للخلل ونوع : لا يأتي ، فمن الثاني من لم يجد ماء ولا ترابا ، والمريض والزمن ونحوهما ممن لا يخاف من استعمال الماء ، لكن لا يجد من يوضئه ، ومن لا يقدر على التحول إلى القبلة ، والأعمى وغيره ممن لا يقدر على معرفة القبلة ولا يجد من يعرفه إياها ، ومن على بدنه أو جرحه نجاسة لا يعفى عنها ولا يقدر على إزالتها ، والمربوط على [ ص: 376 ] خشبة ومن شد وثاقه ، والغريق ومن حول عن القبلة أو أكره على الصلاة إلى غيرها أو على ترك القيام ، فكل هؤلاء يجب عليهم الصلاة على حسب الحال ، وتجب الإعادة لندور هذه الأعذار ، وفي بعض هؤلاء خلاف ضعيف تقدم في هذا الباب .

وأما المصلي عريانا لعدم السترة ففي كيفية صلاته قولان ، ( أصحهما وأشهرهما ) : تجنب الصلاة قائما بإتمام الركوع والسجود .

( والثاني ) : يصلي قاعدا ، فعلى هذا هل يتم الركوع والسجود ؟ أم يقتصر على إدناء الجبهة من الأرض ؟ فيه قولان . وحكى إمام الحرمين والغزالي وجها أنه يتخير بين القيام والقعود ، ويجري هذا الخلاف في المحبوس في موضع نجس بحيث لو سجد لسجد على النجاسة ، هل يتم السجود أم يقتصر على الإيماء ؟ أم يتخير ؟ ويجزي فيمن وجد ثوبا طاهرا لو فرشه بقي عريانا ، وإن لبسه صلى على النجاسة ، ويجري في العاري إذا لم يجد إلا ثوبا نجسا ، والأصح في هاتين الصورتين أنه يصلي عاريا . فإذا قلنا في العريان : لا يتم الركوع والسجود لزمه الإعادة على المذهب ، وفي قول ضعيف لا يعيد ، وقد سبق نظيره فيمن صلى بغير ماء ولا تراب ونظائره . وإن قلنا : يتم الأركان ، فإن كان من قوم عادتهم العري لم تجب الإعادة بلا خلاف ، وإن كانوا لا يعتادونه فالمذهب الصحيح الذي قطع به العراقيون وجماعة من الخراسانيين : أنه لا إعادة أيضا . وفيه وجه حكاه الخراسانيون أنها تجب وهو شاذ ضعيف .

وقد قال الشيخ أبو حامد في تعليقه في باب ستر العورة : لا يجب عليه الإعادة ، ولا أعلم فيه خلافا - يعني بين المسلمين - فأشار إلى الإجماع عليه ، ثم لا فرق في سقوط الإعادة بين الحضر والسفر ; لأن الثوب يعز في الحضر ولا يبذل بخلاف الماء .

وأما الثاني وهو ما يأتي معه ببدل ففيه صور ، منها من يتيمم في الحضر لعدم الماء أو لشدة البرد في الحضر أو السفر ، أو لنسيان الماء في رحله ، ونحوه في السفر ، أو تيمم مع الجبيرة الموضوعة على غير طهر ، والصحيح عند الأصحاب : أنه تجب الإعادة على جميعهم ، وتقدمت تفاصيل الخلاف فيهم ، ومنها المتيمم مع الجبيرة الموضوعة على طهر ، فلا إعادة [ ص: 377 ] عليه في أصح القولين ، ومن الأصحاب من جعل مسألة الجبيرة من العذر العام ، وهو حسن والله أعلم .

ونقل إمام الحرمين والغزالي أن أبا حنيفة رحمه الله قال : كل صلاة تفتقر إلى القضاء لا يجب فعلها في الوقت ، وأن المزني رحمه الله قال : كل صلاة وجبت في الوقت وإن كانت مع خلل لم يجب قضاؤها ، قالا : وهما قولان منقولان عن الشافعي رحمه الله . وهذا الذي قاله المزني هو المختار ; لأنه أدى وظيفة الوقت ، وإنما يجب القضاء بأمر جديد ، ولم يثبت فيه شيء ، بل ثبت خلافه والله أعلم .

قال إمام الحرمين وغيره : ثم ما حكمنا من الأعذار بأنه دائم وأسقطنا الفرض به ، فلو اتفق زواله بسرعة فهو كالدائم المتمادي نظرا إلى جنسه ، وما حكمنا بأنه لا يدوم فاتفق دوامه لم يلحق بالدائم ، بل حكمه حكم ما ينقطع على قرب إلحاقا لما يشذ من الجنس بالجنس ، ثم كل صلاة أوجبناها في الحال مع خلل وأوجبنا قضاءها فقضاها ، ففي الفرض من صلاتيه أربعة أقوال مشهورة في الطريقتين ، وقد سبق بيانها ، أصحها عند الجمهور : أن الفرض الثانية . والثاني الأولى ، والثالث إحداهما لا بعينها ، والرابع كلاهما فرض ، واختاره القفال والفوراني وصاحب الشامل وهو قوي ، فإنه مكلف بهما . قال إمام الحرمين : وإذا أوجبنا الصلاة في الوقت وأوجبنا القضاء فالمذهب : أن ما يأتي به في الوقت صلاة ، ولكن يجب قضاؤها للنقص ، قال : ومن أصحابنا من قال : ليست صلاة بل تشبه الصلاة كالإمساك في رمضان لمن أفطر عمدا ، قال : وهذا بعيد . قال فإن قيل : هلا قلتم : الصلاة المفعولة في الوقت مع الخلل فاسدة كالحجة الفاسدة التي يجب المضي فيها ؟ قلنا : إيجاب الإقدام على الفاسد محال ، وأما التشبه فلا يبعد إيجابه ، والله أعلم بالصواب ، وله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة .

التالي السابق


الخدمات العلمية