صفحة جزء
[ ص: 392 ] قال المصنف رحمه الله تعالى : ( ويحرم الاستمتاع فيما بين السرة والركبة ، وقال أبو بكر إسحاق : لا يحرم غير الوطء في الفرج لقوله صلى الله عليه وسلم : { اصنعوا كل شيء غير النكاح } ; ولأنه وطء حرم للأذى ، فاختص به الفرج كالوطء في الدبر ، والمذهب الأول لما روى عمر رضي الله عنه قال : { سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحل للرجل من امرأته وهي حائض فقال : ما فوق الإزار } ) .


( الشرح ) أما الحديث الأول فبعض حديث ، روى أنس رضي الله عنه : { أن اليهود كانت إذا حاضت منهم المرأة أخرجوها من البيت ، ولم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيت ، فسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل : { ويسألونك عن المحيض } الآية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اصنعوا كل شيء إلا النكاح } رواه مسلم .

وأما حديث عمر رضي الله عنه فرواه ابن ماجه والبيهقي بمعناه ، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت : { كانت إحدانا إذا كانت حائضا فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يباشرها أمرها أن تتزر ثم يباشرها ، قالت : وأيكم يملك إربه كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك إربه } وعن ميمونة رضي الله عنها نحوه رواه البخاري ومسلم ، وفي رواية : { كان يباشر نساءه فوق الإزار } يعني في الحيض ، والمراد بالمباشرة : هنا التقاء البشرتين على أي وجه كان .

( أما حكم المسألة ) ففي مباشرة الحائض بين السرة والركبة ثلاثة أوجه . أصحها عند جمهور الأصحاب : أنها حرام ، وهو المنصوص للشافعي رحمه الله في الأم والبويطي وأحكام القرآن ، قال صاحب الحاوي : وهو قول أبي العباس وأبي علي بن أبي هريرة ، وقطع به جماعة من أصحاب المختصرات . واحتجوا له بقوله تعالى : { فاعتزلوا النساء في المحيض } وبالحديث المذكور ; ولأن ذلك تحريم للفرج ، ومن يرعى حول الحمى يوشك أن يخالط الحمى وأجاب القائلون بهذا عن حديث أنس المذكور : بأنه محمول على القبلة ولمس [ ص: 393 ] الوجه واليد ونحو ذلك مما هو معتاد في غالب الناس ، فإن غالبهم إذا لم يستمتعوا بالجماع استمتعوا بما ذكرناه لا بما تحت الإزار . والوجه الثاني : أنه ليس بحرام ، وهو قول أبي إسحاق المروزي حكاه صاحب الحاوي عن أبي علي بن خيران ، ورأيته أنا مقطوعا به في كتاب اللطيف لأبي الحسن بن خيران من أصحابنا ، وهو غير أبي علي بن خيران ، واختاره صاحب الحاوي في كتابه الإقناع والروياني في الحلية ، وهو الأقوى من حيث الدليل لحديث أنس رضي الله عنه فإنه صريح في الإباحة .

وأما مباشرة النبي صلى الله عليه وسلم فوق الإزار فمحمولة على الاستحباب جمعا بين قوله صلى الله عليه وسلم وفعله ، وتأول هؤلاء الإزار في حديث عمر على أن المراد به الفرج بعينه ونقلوه عن اللغة ، وأنشدوا فيه شعرا ، وليست مباشرة النبي صلى الله عليه وسلم فوق الإزار تفسيرا للإزار في حديث عمر رضي الله عنه بل هي محمولة على الاستحباب كما سبق . والوجه الثالث : إن وثق المباشر تحت الإزار بضبط نفسه عن الفرج لضعف شهوة أو شدة ورع جاز ، وإلا فلا ، حكاه صاحب الحاوي ومتابعوه عن أبي الفياض البصري ، وهو حسن ، ونقل أبو علي السنجي والقاضي حسين والمتولي في المسألة قولين بدل الوجهين الأولين . قال القاضي : الجديد التحريم والقديم الجواز ثم على قول من لا يحرمه هو مكروه ، وصرح به المتولي وغيره .

هذا حكم الاستمتاع بما بين السرة والركبة . أما ما سواه فمباشرتها فيه حلال بإجماع المسلمين ، نقل الإجماع فيه الشيخ أبو حامد والمحاملي في المجموع وابن الصباغ والعبدري وآخرون ، وأما ما حكاه صاحب الحاوي عن عبيدة السلماني الإمام التابعي - وهو بفتح العين وكسر الباء - من أنه لا يباشر شيء من بدنه شيئا من بدنها فلا أظنه يصح عنه ، ولو صح فهو شاذ مردود بالأحاديث الصحيحة المشهورة في مباشرته صلى الله عليه وسلم فوق الإزار ، وإذنه في ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم : { اصنعوا كل شيء إلا النكاح } وبإجماع من قبله ومن بعده والله أعلم .

ثم لا فرق بين أن يكون على الموضع الذي يستمتع به فوق الإزار شيء [ ص: 394 ] من دم الحيض أو لا ، وحكى المحاملي في التجريد وجماعة من المتأخرين وجها : أنه إن كان عليه شيء من دم الحيض حرم ; لأنه أذى ، وهذا الوجه شاذ وغلط ، والصواب الأول ، وبه قطع الأصحاب في جميع الطرق لعموم الأحاديث ; ولأن الأصل الإباحة حتى يثبت دليل ظاهر في التحريم وقياسا على ما لو كان عليها نجاسة أخرى .

وأما الاستمتاع بنفس السرة والركبة وما حاذاهما فلم أر فيه نصا لأصحابنا ، والمختار الجزم بجوازه لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : { اصنعوا كل شيء إلا النكاح } ويحتمل أن يخرج على الخلاف في كونهما عورة ، إن قلنا عورة كانتا كما بينهما ، وإن قلنا - بالمذهب : إنهما ليستا عورة أبيحا قطعا كما وراءهما والله أعلم .

( فرع ) في مذاهب العلماء في المباشرة فيما بين السرة والركبة بغير وطء ، وقد ذكرنا الخلاف في مذهبنا ودلائله ، وممن قال بتحريمها أبو حنيفة ومالك ، وحكاه ابن المنذر عن سعيد بن المسيب وطاوس وشريح وعطاء وسليمان بن يسار وقتادة ، وحكاه البغوي عن أكثر أهل العلم ، وممن قال بالجواز عكرمة ومجاهد والشعبي والنخعي والحكم والثوري والأوزاعي ومحمد بن الحسن وأحمد وأصبغ المالكي وأبو ثور وإسحاق بن راهويه وابن المنذر وداود ، ونقله عنهم العبدري وغيره ، وتقدم دليل الجميع والله أعلم .

( فرع ) إذا قلنا : تحرم المباشرة بين السرة والركبة ففعله متعمدا مختارا عالما بالتحريم أثم ولا كفارة عليه بلا خلاف ، صرح به الماوردي وغيره وهو ظاهر ، فإن إيجاب الكفارة على القديم إنما كان لذلك الحديث الضعيف وليس هنا حديث ولا هو في معناه ، فإن الوطء حرام بالإجماع ويكفر مستحله وهذا بخلافه ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية