صفحة جزء
قال المصنف : رحمه الله تعالى ( وإذا طهرت من الحيض حل لها الصوم ; لأن تحريمه بالحيض ، وقد زال . ولا تحل الصلاة والطواف وقراءة القرآن وحمل المصحف ; لأن المنع منها للحدث والحدث باق ، ولا يحل الاستمتاع بها حتى تغتسل لقوله تعالى { ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن } . قال مجاهد : حتى يغتسلن ، [ ص: 395 ] فإن لم تجد الماء فتيممت حل لها ما يحل بالغسل ; لأن التيمم قائم مقام الغسل فاستبيح به ما يستباح بالغسل ، فإن تيممت وصلت فريضة لم يحرم وطؤها ، ومن أصحابنا من قال : يحرم وطؤها بفعل الفريضة ، كما يحرم فعل الفريضة بعدها ، والأول أصح ; لأن الوطء ليس بفرض فلم يحرم بفعل الفريضة كصلاة النفل ) .


( الشرح ) قال أصحابنا : يتعلق بالحيض أحكام : ( أحدها ) : يمنع صحة الطهارة إلا أغسال الحج ونحوها مما لا يفتقر إلى الطهارة ( الثاني ) : تحرم الطهارة بنية العبادة إلا ما استثنينا من أغسال الحج ونحوها ، ( الثالث ) : يمنع وجوب الصلاة ( الرابع ) : يحرمها ( الخامس ) : يمنع صحتها ( السادس ) : يمنع وجوب الصوم ( السابع ) : يحرمه ( الثامن ) : يمنع صحته ( التاسع ) : يحرم مس المصحف وحمله وقراءة القرآن والمكث في المسجد ، وكذا العبور على أحد الوجهين ( العاشر ) : يحرم سجود التلاوة والشكر ويمنع صحته ( الحادي عشر ) : يحرم الاعتكاف ويمنع صحته .

( الثالث عشر ) : يمنع وجوب طواف الوداع ( الرابع عشر ) : يحرم الوطء ، وكذا المباشرة بين السرة والركبة على أحد الأوجه ( الخامس عشر ) : يحرم الطلاق ( السادس عشر ) : تبلغ به الصبية ( السابع عشر ) : تتعلق به العدة والاستبراء ( الثامن عشر ) : يوجب الغسل ، وهل يجب بخروجه أم بانقطاعه أم بهما ؟ فيه أوجه سبقت في باب ما يوجب الغسل . ومعظم هذه الأحكام مجمع عليه .

قال أصحابنا : فإذا طهرت من الحيض ارتفع من هذه الأمور المحرمة تحريم الصوم والطلاق والظهار ، وارتفع أيضا تحريم العبور في المسجد على الأصح ، إذا قلنا بتحريمه في زمن الحيض ، وقد سبق حكاية وجه عن حكاية صاحب الحاوي وإمام الحرمين أن العبور يبقى تحريمه حتى تغتسل وليس بشيء ، ولا يرتفع ما حرم للحدث كالصلاة والطواف ، والسجود والقراءة ، والاعتكاف ومس المصحف والمكث في المسجد ، ولا يرتفع أيضا تحريم الجماع والمباشرة بين السرة والركبة ، فإن لم تجد الماء فتيممت استباحت جميع ذلك ; لأن التيمم كالغسل . [ ص: 396 ] قال أصحابنا : : إذا تيممت ثم أحدثت لم يحرم وطؤها بلا خلاف ، وممن نقل اتفاق الأصحاب على هذا القاضي أبو الطيب ; لأنها استباحت الوطء بالتيمم ، والحدث لا يحرم الوطء كما لو اغتسلت ثم أحدثت .

قال القاضي : ولأنا لو قلنا : يحرم الوطء بعد الحدث لأدى إلى تحريمه ابتداء بعد التيمم ; لأنه ينتقض الوضوء بالتقاء البشرتين قبل الوطء . وأما إذا تيممت ثم رأت الماء فيحرم الوطء على المذهب ، وبه قطع الأصحاب في الطريقتين ; لأن طهارتها بطلت برؤية الماء وعادت إلى حدث الحيض . وحكى الدارمي وجها شاذا أنه يحل الوطء بعد رؤية الماء ، والصواب الأول . قال القاضي أبو الطيب : فلو رأت الماء في خلال الجماع نزع في الحال واغتسلت ، وأما إذا تيممت وصلت فريضة فهل يصح الوطء بعد الفريضة بذلك التيمم ؟ أم لا يحل إلا بتيمم جديد ؟ فيه الوجهان اللذان ذكرهما المصنف ، وقد ذكر دليلهما ، الصحيح : جوازه . ولو تيممت فوطئها ثم أراد الوطء ثانيا بذلك التيمم ففي جوازه وجهان حكاهما صاحب الحاوي وغيره ، الصحيح : جوازه لارتفاع حدث الحيض بالتيمم ، وبهذا قطع الجمهور ، والثاني : لا يجوز إلا بتيمم جديد كما لا يجمع بين فريضتين بتيمم ، وهذا ليس بشيء . ولو تيممت وصلت فريضة وقلنا : : يجوز الوطء بعدها فلم يطأ حتى خرج وقت تلك الفريضة فهل يحل الوطء بذلك التيمم ؟ فيه وجهان حكاهما الشيخ أبو حامد المحاملي في كتابيه والفوراني وغيرهم في آخر باب التيمم ، وحكاهما أيضا صاحب الحاوي وآخرون .

الصحيح جوازه ; لأن خروج الوقت لا يزيد على الحدث . والثاني : لا يجوز الوطء إلا بتيمم جديد قال صاحب الحاوي : وبه قال ابن سريج واختاره الشيخ أبو حامد ; لأن دخول الوقت رفع حكم التيمم ، ولهذا تجب إعادته للصلاة الأخرى ، وهذا الاستدلال ضعيف أو باطل ; لأن التيمم لا يبطل بخروج الوقت ، ولهذا له أن يصلي به ما شاء من النوافل على المذهب كما سبق ، ولو عدمت الماء والتراب صلت الفريضة لحرمة الوقت كما سبق ، ولا يجوز الوطء حتى تجد أحد الطهورين . هذا هو الصحيح المشهور وبه قطع الجمهور ، وحكى الجرجاني في المعاياة وصاحب البيان والرافعي وجها شاذا أنه يجوز الوطء كالصلاة ، وهذا ليس بشيء . [ ص: 397 ] قال أصحابنا : والمقيمة في هذا كالمسافرة ، فإذا عدمت المقيمة الماء أو كانت مريضة أو جريحة فتيممت على الوطء ، وإن كان صلاتها يجب قضاؤها ; لأن طهارتها صحيحة والله أعلم

( فرع ) في مذاهب العلماء في وطء الحائض إذا طهرت قبل الغسل قد ذكرنا أن مذهبنا تحريمه حتى تغتسل أو تتيمم ، حيث يصح التيمم وبه قال جمهور العلماء . كذا حكاه الماوردي عن الجمهور ، وحكاه ابن المنذر عن سالم بن عبد الله وسليمان بن يسار والزهري وربيعة ومالك والثوري والليث وأحمد وإسحاق وأبي ثور ، ثم قال ابن المنذر : وروينا بإسناد فيه مقال عن طاوس وعطاء ومجاهد أنهم قالوا : إن أدرك الزوج الشبق أمرها أن تتوضأ ثم أصابها إن شاء . قال ابن المنذر : وأصح من هذا عن عطاء ومجاهد موافقة القول الأول ، قال : ولا يثبت عن طاوس خلاف قول سالم ، قال : فإذا بطل أن يصح عن هؤلاء قول ثان كان القول الأول كالإجماع .

هذا كلام ابن المنذر . وقال أبو حنيفة : إن انقطع دمها لأكثر الحيض - وهو عشرة أيام عنده - حل الوطء في الحال - وإن انقطع لأقله لم يحل حتى تغتسل أو تتيمم ، فإن تيممت ولم تصل لم يحل الوطء حتى يمضي وقت صلاة . وقال داود الظاهري : إذا غسلت فرجها حل الوطء . وحكي عن مالك تحريم الوطء إذا تيممت عند فقد الماء . هكذا نقل أصحابنا وغيرهم هذا الخلاف مطلقا كما ذكرته ، وقال ابن جرير : أجمعوا على تحريم الوطء حتى تغسل فرجها ، وإنما الخلاف بعد غسله ، واحتج لأبي حنيفة بأنه يجوز الصوم والطلاق وكذا الوطء ; ولأن تحريم الوطء هو للحيض وقد زال وصارت كالجنب ، واحتج أصحابنا بقول الله تعالى : { فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن ، فإذا تطهرن فأتوهن } وقد روي حتى يطهرن بالتخفيف والتشديد ، والقراءتان في السبع ، فقراءة التشديد صريحة في اشتراط الغسل ، وقراءة التخفيف يستدل بها من وجهين ( أحدهما ) : معناها أيضا يغتسلن ، وهذا شائع في اللغة فيصار إليه جمعا بين القراءتين ( والثاني ) : أن الإباحة معلقة بشرطين [ ص: 398 ] أحدهما : انقطاع دمهن . والثاني : تطهرهن وهو اغتسالهن ، وما علق بشرطين لا يباح بأحدهما ، كما قال الله تعالى : { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } فإن قيل : ليستا شرطين بل شرط واحد ، ومعناه حتى ينقطع دمهن ، فإذا انقطع فأتوهن ، كما يقال : لا تكلم زيدا حتى يدخل الدار ، فإذا دخل فكلمه ، فالجواب من أوجه ( أحدها ) : أن ابن عباس والمفسرين وأهل اللسان فسروه فقالوا : معناه فإذا اغتسلن . فوجب المصير إليه ( والثاني ) : أن ما قاله المعترض فاسد من جهة اللسان ، فإنه لو كان كما قال لقيل : فإذا طهرن ، فأعيد الكلام ، كما يقال : لا تكلم زيدا حتى يدخل ، فإذا دخل فكلمه ، فلما أعيد بلفظ آخر دل على أنهما شرطان ، كما يقال : لا تكلم زيدا حتى يأكل ، فإذا أكل فكلمه .

( الثالث ) أن فيما قلنا جمعا بين القراءتين فتعين ، واحتج أصحابنا بأقيسة كثيرة ومناسبات ، أحسنها ما ذكره إمام الحرمين في الأساليب ، فقال : أولى متمسك من طريق المعنى اعتبار صورة الاتفاق ، فنقول : اتفقنا على التحريم إذا طهرت لدون العشرة فاستمرار التحريم بعد انقطاع الدم إن علل بوجوب غسل الحيض لزم التحريم إذا طهرت لأكثر الحيض ، وإن علل بإمكان عود الدم فهو منتقض بما إذا اغتسلت أو تيممت أو خرج وقت الصلاة ، ثم ذكر معاني أخر ، ثم قال : فالوجه : اعتماد ما ناقضوا فيه ، وكل ما ذكروه منتقض بما سلموه فإن قيل : تحريم الوطء بالحيض غير معلل ، قلنا : وجوب الغسل بالانقطاع غير معلل ، ولا يمكن أن يقال : عادت إلى ما كانت فإن الغسل واجب ، فوجب الرجوع إلى ظاهر القرآن ; لانسداد طريق النظر ، فظاهر القرآن تحريم الوطء حتى تغتسل ، وأما الجواب عن جواز الصوم : أن الشرع ورد بتحريم الصوم على الحائض ، وهذه ليست بحائض وهنا حرم الوطء حتى تغتسل . وعن الطلاق : أن تحريمه لتطويل العدة ، وذلك يزول بمجرد الانقطاع . وعن قولهم : التحريم للحيض من أوجه .

( أحدها ) : لا نسلم ، بل هو لحدث الحيض ، وهو باق ( الثاني ) : أنه ينتقض بالانقطاع لدى أكثر الحيض ( الثالث ) : أن الجنابة لا تمنع الوطء ، وكذا غسلها بخلاف الحيض ، والله أعلم

[ ص: 399 ] فرع ) قال أبو العباس الجرجاني في المعاياة : ليست امرأة تمنع من الصلاة بحكم الحيض إلا ويحرم وطؤها إلا واحدة ، وهي من انقطع دمها وعدمت الماء فتيممت ثم أحدثت ، فإنها تمنع من الصلاة دون الوطء هذا كلامه .

وقد ينازع فيه ويقال : المنع من الصلاة هنا للحدث قال : وانقطاع الدم إذا أباح الصلاة أباح الوطء إلا في حق من عدمت الماء والتراب فتصلي ، ولا يحل وطؤها على الصحيح .

( فرع ) : لو أراد الزوج أو السيد الوطء فقالت : أنا حائض ، فإن لم يمكن صدقها لم يلتفت إليها وجاز الوطء .

وإن أمكن صدقها ، ولم يتهمها بالكذب حرم الوطء ، وإن أمكن الصدق ، ولكن كذبها ، فقال القاضي حسين في تعليقه وفتاويه وصاحب التتمة : يحل الوطء ; لأنها ربما عاندته ومنعت حقه ; ولأن الأصل عدم التحريم ولم يثبت سببه . وقال الشاشي : ينبغي أن يحرم وإن كانت فاسقة ، كما لو علق طلاقها على حيضها فيقبل قولها ، والمذهب الأول ، وفرق القاضي بينه وبين تعليق الطلاق : بأن الزوج مقصر في تعليقه بما لا يعرف إلا من جهتها .

قال القاضي وغيره : ولو اتفقا على الحيض وادعى انقطاعه وادعت بقاءه في مدة الإمكان فالقول قولها ، بلا خلاف للأصل .

( فرع ) لو طهرت زوجته أو أمته المجنونة من الحيض حرمت عليه حتى يغسلها ، فإذا صب الماء عليها ونوى غسلها عن الحيض حلت ، وإن لم ينو فوجهان سبقا في باب نية الوضوء . ولو شك هل حاضت المجنونة أو العاقلة أم لا ؟ لم يحرم ; لأن الأصل عدم التحريم وعدم الحيض .

( فرع ) إذا ارتكبت المرأة من المحرمات المذكورة أثمت وتعزر وعليها التوبة ، ولا كفارة عليها بالاتفاق . صرح به الماوردي وغيره ; لأن الأصل البراءة .

( فرع ) يجوز عندنا وطء المستحاضة في الزمن المحكوم بأنه طهر ، وإن كان الدم جاريا ، وهذا لا خلاف فيه عندنا ، قال القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والعبدري : وهو قول أكثر العلماء ، ونقله ابن المنذر في الإشراف عن ابن عباس وابن المسيب والحسن وعطاء وسعيد بن جبير وقتادة [ ص: 400 ] وحماد بن أبي سليمان وبكر بن عبد الله المزني والأوزاعي ومالك والثوري وإسحاق وأبي ثور .

قال ابن المنذر : وبه أقول . وحكي عن عائشة والنخعي والحكم وابن سيرين منع ذلك ، وذكر البيهقي وغيره : أن نقل المنع عن عائشة ليس بصحيح عنها ، بل هو قول الشعبي أدرجه بعض الرواة في حديثها ، وقال أحمد : لا يجوز الوطء إلا أن يخاف زوجها العنت ، واحتج للمانعين بأن دمها يجري فأشبهت الحائض ، واحتج أصحابنا بما احتج به الشافعي في الأم ، وهو قول الله تعالى : { فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن ، فإذا تطهرن فأتوهن } وهذه قد تطهرت من الحيض . واحتجوا أيضا : بما رواه عكرمة عن حمنة بنت جحش رضي الله عنها " أنها كانت مستحاضة ، وكان زوجها يجامعها .

" رواه أبو داود وغيره بهذا اللفظ بإسناد حسن ، وفي صحيح البخاري قال : قال ابن عباس : " المستحاضة يأتيها زوجها إذا صلت ، الصلاة أعظم ; " ولأن المستحاضة كالطاهر في الصلاة والصوم والاعتكاف والقراءة وغيرها ، فكذا في الوطء ; ولأنه دم عرق ، فلم يمنع الوطء كالناسور ; ولأن التحريم بالشرع ولم يرد بتحريم ، بل ورد بإباحة الصلاة التي هي أعظم كما قال ابن عباس . والجواب عن قياسهم على الحائض : أنه قياس يخالف ما سبق من دلالة الكتاب والسنة فلم يقبل ; ولأن المستحاضة لها حكم الطاهرات في غير محل النزاع فوجب إلحاقه بنظائره لا بالحيض الذي لا يشاركه في شيء .

التالي السابق


الخدمات العلمية