صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى : ( إذا رأت المرأة الدم لسن يجوز أن تحيض فيه أمسكت عما تمسك عنه الحائض ، فإن انقطع لدون اليوم والليلة كان ذلك دم فساد فتتوضأ وتصلي ، وإن انقطع ليوم وليلة أو لخمسة عشر يوما أو لما بينهما فهو حيض ، فتغتسل عند انقطاعه ، سواء كان الدم على صفة دم الحيض أو على غير صفته ، وسواء كان لها عادة ، فخالف عادتها أو لم تكن . وقال أبو سعيد الإصطخري : إن رأت الصفرة أو الكدرة في غير وقت العادة لم يكن حيضا ، لما روي عن أم عطية رضي الله عنها قالت : " كنا لا نعتد بالصفرة والكدرة بعد الغسل شيئا " ولأنه ليس فيه أمارة الحيض فلم يكن حيضا ، والمذهب أنه حيض ; لأنه دم صادف زمان الإمكان ولم يجاوزه ، فأشبه إذا رأت الصفرة أو الكدرة في أيام عادتها . [ ص: 416 ] وحديث أم عطية يعارضه ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : " كنا نعد الصفرة والكدرة حيضا " وقوله : أنه ليس فيه أمارة غير مسلم ، بل وجوده في أيام الحيض أمارة ، ; لأن الظاهر من حالها الصحة والسلامة ، وأن ذلك دم الجبلة دون العلة ) .


( الشرح ) حديث أم عطية صحيح ، رواه البخاري والدارمي وأبو داود والنسائي وغيرهم ، وهذا المذكور في المهذب هو لفظ رواية الدارمي ، وفي رواية البخاري { كنا لا نعد الصفرة والكدرة شيئا } وفي رواية أبي داود { كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئا } وإسنادها إسناد صحيح على شرط البخاري ومما ينكر على المصنف قوله : روي عن أم عطية بصيغة التمريض مع أنه حديث صحيح ، وقد سبق التنبيه على أمثال هذا وروى البيهقي بإسناد ضعفه عن عائشة رضي الله عنها قالت : " { ما كنا نعد الصفرة والكدرة شيئا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم } "

وأما حديث عائشة رضي الله عنها المذكور في الكتاب فلا أعلم من رواه بهذا اللفظ لكن صح عن عائشة رضي الله عنها قريب من معناه فروى مالك في الموطأ عن عقبة بن أبي عقبة عن أمه مولاة عائشة قالت : " كانت النساء يبعثن إلى عائشة رضي الله عنها بالدرجة فيها الكرسف فيه الصفرة من دم الحيض فتقول : لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء تريد بذلك الطهر من الحيضة " هذا لفظه في الموطأ وذكره البخاري في صحيحه تعليقا بصيغة جزم فصح هذا اللفظ عن عائشة رضي الله عنها والدرجة بضم الدال وإسكان الراء وبالجيم ، وروي بكسر الدال وفتح الراء وهي خرقة أو قطنة أو نحو ذلك تدخله المرأة فرجها ثم تخرجه لتنظر هل بقي شيء من أثر الحيض أم لا ؟ وقولها القصة هي بفتح القاف وتشديد الصاد المهملة ، وهي الجص شبهت الرطوبة النقية الصافية بالجص فهذا موقوف على عائشة . وأما حديث أم عطية فهل هو موقوف ، أم مرفوع ؟ فيه خلاف قدمناه في الفصول السابقة في مقدمة الكتاب فيما إذا قال الصحابي : كنا نفعل كذا وأوضحنا المذاهب فيه . [ ص: 417 ] واسم أم عطية : نسيبة بضم النون وفتح السين وإسكان الياء وقيل : بفتح النون وكسر السين وهي نسيبة بنت كعب وقيل : بنت الحارث أنصارية بصرية كانت تغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت غاسلة للميتات وذكرت جملة من أحوالها في تهذيب الأسماء . وأما أبو سعيد الإصطخري فبكسر الهمزة وقيل يجوز بفتحها وهي همزة قطع ، ويجوز تخفيفها كهمزة الأرض ونحوها ، منسوب إلى إصطخر المدينة المعروفة ، واسمه الحسن بن أحمد ولد سنة أربع وأربعين ومائتين وتوفي سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة وكان من كبار أصحابنا وأئمتهم وعبادهم وأخيارهم وله أحوال جميلة وكتب نفيسة وذكرت جملة من أحواله في التهذيب والطبقات وقوله : دم الجبلة بكسر الجيم وتشديد اللام أي : الخلقة ومعناه دم الحيض المعتاد الذي يكون في حال السلامة ، وليس هو دم العلة الذي هو دم الاستحاضة ، وأما الصفرة والكدرة فقال الشيخ أبو حامد في تعليقته : هما ماء أصفر وماء كدر وليسا بدم .

وقال إمام الحرمين : هما شيء كالصديد يعلوه صفرة وكدرة ليسا على لون شيء من الدماء القوية ولا الضعيفة .

( أما الأحكام ) فقال أصحابنا رحمهم الله : إذا رأت المرأة الدم لزمان يصح أن يكون حيضا بأن يكون لها تسع سنين فأكثر ولم يكن عليها بقية طهر ولا هي حامل أو حائل وقلنا بالصحيح : إنها تحيض أمسكت عن الصوم والصلاة والقرآن والمسجد والوطء وغير ذلك مما تمسك عنه الحائض ; لأن الظاهر أنه حيض ، وهذا الإمساك واجب على الصحيح المشهور وبه قطع الأصحاب في كل الطرق إلا صاحبي الحاوي والتهذيب فحكيا وجها شاذا . قال صاحب الحاوي : هو قول ابن سريج أنه لا يجوز للمبتدأة أن تمسك بل يجب عليها أن تصلي مع رؤية الدم ، فإن انقطع لدون يوم وليلة ، كانت الصلاة واجبة عليها وأجزأها ما صلت وإن استدام يوما وليلة تركت الصلاة حينئذ ; لأن الدم الذي رأته يجوز أن يكون حيضا ويجوز أن يكون دم فساد ، فلا يجوز ترك الصلاة بالشك . قال صاحب الحاوي : وهذا الوجه فاسد من وجهين : ( أحدهما ) : أن المعتادة إذا فاتحها الدم تمسك ( والثاني ) : المعتادة إذا جاوز الدم عادتها تمسك وإن كان هذا الاحتمال موجودا ، وإنما أمرناها بالإمساك ; لأن الظاهر أنه حيض وهذا المعنى موجود في المبتدأة قال : [ ص: 418 ] فبطل قول ابن سريج ، والتفريع بعد هذا على المذهب وهو وجوب الإمساك . قال أصحابنا : فإذا أمسكت فانقطع الدم لدون يوم وليلة تبينا أنه دم فساد ، فتقضي الصلاة بالوضوء ولا غسل . فإن كانت صامت في ذلك اليوم فصومها صحيح . وإن انقطع ليوم وليلة أو خمسة عشر أو لما بينهما فهو حيض ، سواء كان أسود أو أحمر ، وسواء كانت مبتدأة أو معتادة وافق عادتها أو خالفها بزيادة أو نقص أو تقدم أو تأخر ، وسواء كان الدم كله بلون واحد أو بعضه أسود وبعضه أحمر ، وسواء تقدم الأسود أو الأحمر ، ولا خلاف في شيء من هذا إلا وجهين شاذين ضعيفين .

( أحدهما ) : حكاه صاحب الحاوي أنها إن كانت مبتدأة ورأت دما أحمر لا يكون حيضا لضعفه بل هو دم فساد ، ووافق هذا القائل على أنها لو رأت الأحمر وهي معتادة كان حيضا .

( والوجه الآخر ) : حكاه البغوي وغيره : أنها إذا رأت أحمر وأسود وتقدم الأحمر كان الحيض هو الأسود وحده إن أمكن جعله حيضا ، قال هذا القائل : ولو رأت خمسة حمرة ثم خمسة سوادا ثم خمسة حمرة كان الأحمر الأول دم فساد والأحمر والأسود بعده حيضا . وسنوضح هذه المسألة في فصل المميزة إن شاء الله تعالى ، أما إذا كان الذي رأته صفرة أو كدرة فقد قال الشافعي في مختصر المزني رحمه الله : الصفرة والكدرة في أيام الحيض حيض . واختلف الأصحاب في ذلك على ستة أوجه الصحيح المشهور الذي قاله أبو العباس بن سريج وأبو إسحاق المروزي وجماهير أصحابنا المتقدمين والمتأخرين أن الصفرة والكدرة في زمن الإمكان ، وهو خمسة عشر يكونان حيضا ، سواء كانت مبتدأة أو معتادة خالف عادتها أو وافقها ، كما لو كان أسود أو أحمر وانقطع لخمسة عشر .

( والوجه الثاني ) : قول أبي سعيد الإصطخري وأبي العباس بن القاص أن الصفرة والكدرة في أيام العادة حيض وليست في غير أيام العادة حيضا فإن رأت الصفرة والكدرة مبتدأة أو معتادة في غير أيام العادة فليست بحيض ، وإن رأتها معتادة فهي في أيام العادة حيض .

( والوجه الثالث ) : قول أبي علي الطبري وغيره من أصحابنا أنه إن تقدم الصفرة والكدرة دم قوي أسود أو أحمر ولو بعض يوم ، كانت حيضا في الخمسة عشر ، وإن لم يتقدمها شيء لم يكن حيضا على انفرادها . [ ص: 419 ] وحكى صاحب الشامل وغيره هذا عن حكاية أبي علي بن أبي هريرة عن بعض أصحابنا ( والرابع ) حكاه السرخسي في الأمالي والمتولي والبغوي وآخرون من الخراسانيين أنه إن تقدم على الصفرة دم قوي يوما وليلة كان حيضا تبعا للقوي .

وإن تقدمها دون يوم وليلة فليست حيضا ( والخامس ) حكاه ابن كج والسرخسي إن تقدمها دم قوي ولحقها دم قوي كانت حيضا وإلا كانت كالنقاء ( والسادس ) حكاه السرخسي إن تقدمها دم قوي يوما وليلة ولحقها دم قوي يوما وليلة كانت حيضا وإلا فلا . ، وقد نقل الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والمحاملي وإمام الحرمين والبغوي والرافعي وآخرون اتفاق الأصحاب على أن الصفرة والكدرة في أيام العادة تكون حيضا ، وهذا الذي نقلوه مخالف لما قدمناه من الخلاف في اشتراط تقدم الأسود فإنه جار في أيام العادة ، وقد صرح به صاحب التتمة وغيره : قال أصحابنا المصنفون : ومأخذ الخلاف بين الإصطخري والجمهور اختلافهم في مراد الشافعي بقوله : الصفرة والكدرة في أيام الحيض حيض . فالإصطخري يقول : معناه في أيام العادة ، والجمهور يقولون : في أيام الإمكان . قال الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب وآخرون : قال أبو إسحاق المروزي : كنت أقول : مراد الشافعي في أيام العادة حتى رأيته قال في كتاب العدة : ( والصفرة والكدرة في أيام الحيض حيض ، والمبتدأة والمعتادة في ذلك سواء ) فلما قال : هما سواء علمت أنه لم يعتبر أيام العادة . ثم قال الجمهور من أصحابنا في الطرق كلها لا فرق في جريان الخلاف المذكور بين المبتدأة والمعتادة ، وذكر إمام الحرمين والغزالي وجهين أصحهما هذا والعبارة عنه أن حكم مرد المبتدأة وهو يوم وليلة أو ست أو سبع حكم ما وراء العادة ، والوجه الثاني حكم مردها حكم أيام العادة . قال إمام الحرمين : هذا الوجه غير مرضي والله أعلم .

( فرع ) اعلم أن مسائل الصفرة مما يعم وقوعه وتكثر الحاجة إليه ، ويعظم الانتفاع به فنوضح أصلحها مختصرة . قال أصحابنا رحمهم الله : إذا رأت المبتدأة خمسة عشر يوما أو يوما وليلة ، أو ما بينهما صفرة أو كدرة ، [ ص: 420 ] فعلى المذهب وقول الجمهور الجميع حيض ، وعلى الأوجه الخمسة الباقية ليس بحيض فتتوضأ وتصلي ولها حكم الطاهرات ولو رأت أياما سوادا ثم صفرة ، ولم يجاوز الخمسة عشر ، فعلى المذهب الجميع حيض وعند الإصطخري الأسود حيض ، والباقي طهر ولا يخفى قياس الباقين . ولو رأت نصف يوم سوادا ثم أياما صفرة فعلى المذهب الجميع حيض وعند الإصطخري كله دم فساد . ولو رأت خمسة صفرة ثم خمسة سوادا ثم انقطع فعند الإصطخري حيضها السواد وعلى المذهب حكمها حكم من رأت خمسة حمرة ثم خمسة سوادا ، وفيها ثلاثة أوجه يأتي بيانها إن شاء الله تعالى ، أصحها : الجميع حيض ، والثاني : الأسود حيض والصفرة دم فساد ولو رأت خمسة صفرة ثم خمسة عشر سوادا ، فعند الإصطخري : حيضها السواد وعلى المذهب فيه ثلاثة أوجه ( أحدها ) حيضها حيض المبتدأة من أول الأصفر يوم وليلة أو ست أو سبع ( والثاني ) : حيضها السواد ( والثالث ) : حيضها الصفرة لسبقها وتعذر الجمع وهذا ضعيف ، وسيأتي إيضاح هذه الأوجه في فصل المميزة إن شاء الله تعالى . ولو رأت خمسة صفرة ثم ستة عشر سوادا فعند الإصطخري حيضها حيض المبتدأة من أول الأسود وعلى المذهب : حيضها حيض المبتدأة من أول الصفرة إلا على الوجه الثالث في المسألة قبلها ، فإن حيضها الصفرة .

ولو رأت خمسة سوادا ثم خمسة حمرة ثم خمسة صفرة ، فعند الإصطخري حيضها عشرة السواد والحمرة ، وعلى المذهب : حيضها الخمسة عشر ، ولو رأت خمسة حمرة ثم خمسة صفرة ثم خمسة سوادا ، فعلى المذهب لها حكم من رأت عشرة حمرة ثم خمسة سوادا ، وفيها الأوجه الثلاثة الأصح : الجميع حيض ، والثاني : الحيض الأسود ، والثالث : فاقدة التمييز . وعند الإصطخري الحمرة والسواد حيض وفي الصفرة بينهما القولان في النقاء المتخلل بين الدمين هكذا ذكره البغوي وغيره هذا كله في المبتدأة . أما المعتادة فإذا كانت عادتها خمسة أيام من كل شهر فرأت خمسة سوادا ثم خمسة صفرة ، فعلى المذهب الجميع حيض ، وعند الإصطخري حيضها الأسود ، ولو رأت خمسة سوادا ثم طهرت خمسة عشر ثم رأت خمسة صفرة [ ص: 421 ] فعلى المذهب الصفرة حيض ثان وبينه وبين السواد طهر كامل ، وعند الإصطخري الصفرة دم فساد ; لأنها ليست في أيام العادة ، ولو كان عادتها عشرة من أول الشهر ، فرأت خمسة سوادا ثم عشرة صفرة وانقطع ، فعلى المذهب الجميع حيض ; لأنه في مدة الإمكان ، وعند الإصطخري ، قال صاحب الحاوي حيضها عشرة ، خمسة السواد مع خمسة من أول الصفرة ، وهذا ظاهر ، ولو كان عادتها خمسة فرأت خمسة سوادا ثم خمسة صفرة ، ثم خمسة حمرة أو سوادا وانقطع ، فعند الإصطخري السواد والحمرة حيض ، وفي الصفرة بينهما القولان في النقاء بين الدمين .

وأما على المذهب فاختلفوا فيه ، فقال الشيخ أبو حامد والمحاملي في المجموع والتجريد : قال ابن سريج : السواد والحمرة حيض ، وفي الصفرة القولان في النقاء كما قال الإصطخري قالا : قال أبو العباس والفرق بين هذه المسألة وباقي المسائل حيث حكمنا بأن الصفرة في مدة الإمكان حيض إذا تأخرت عن السواد أن العادة في الحيض أن يكون في أوله قويا أسود ثخينا ثم يرق فيحمر ثم يصفر ثم ينقطع فتكون الصفرة من بقايا الحيض فحكم بأنها حيض . وأما هنا فهذه الصفرة يعقبها حمرة ، فعلمنا أنها ليست بقية حيض ; لأنه لا يضعف ثم يقوى ، وإنما اصفر ; لأنه انقطع فكان نقاء بين حيضتين . هكذا نقل أبو حامد والمحاملي عن ابن سريج ولم يخالفاه بل قرراه . وحكى صاحب الشامل هذا عن أبي حامد ، وأنكره وقال هذا لا يجيء على مذهب الشافعي ولا مذهب ابن سريج ; ; لأن عندهما الصفرة في زمن الإمكان حيض ، وإنما يجيء على قول الإصطخري ، وذكر صاحب البحر نحو قول صاحب الشامل وقال صاحب الحاوي ، والقاضي أبو الطيب وصاحب التتمة : المذهب أن الجميع حيض . وهذا هو الصواب والله أعلم .

( فرع ) في مذاهب العلماء في الصفرة والكدرة . قد ذكرنا أن الصحيح في مذهبنا أنهما في زمن الإمكان حيض ولا تتقيد بالعادة ، ونقله صاحب الشامل عن ربيعة ومالك وسفيان والأوزاعي وأبي حنيفة ومحمد وأحمد وإسحاق . وقال أبو يوسف : الصفرة حيض والكدرة ليست بحيض إلا أن يتقدمها دم . وقال أبو ثور : إن تقدمها دم فهما حيض وإلا فلا ، قال : واختاره ابن المنذر وحكى العبدري عن أكثر الفقهاء أنهما [ ص: 422 ] حيض في مدة الإمكان ، وخالفه البغوي فقال : قال ابن المسيب وعطاء والثوري والأوزاعي وأحمد وأكثر الفقهاء : لا تكون الصفرة والكدرة في غير أيام الحيض حيضا ، ومدار أدلة الجميع على الحديثين المذكورين في الكتاب ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية