صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( دم النفاس يحرم ما يحرمه الحيض ويسقط ما يسقطه الحيض لأنه حيض مجتمع احتبس لأجل الحمل ، فكان حكمه حكم الحيض . فإن خرج قبل الولادة شيء لم يكن نفاسا ، وإن خرج بعد الولادة كان نفاسا ، وإن خرج مع الولد ففيه وجهان : ( أحدهما ) أنه ليس بنفاس لأنه ما لم ينفصل جميع الولد فهي في حكم الحامل ، ولهذا يجوز للزوج رجعتها ، فصار كالدم الذي تراه في حال الحمل . وقال أبو إسحاق وأبو العباس بن أبي أحمد بن القاص : هو نفاس لأنه دم انفصل بخروج الولد ، فصار كالدم الخارج بعد الولادة ، وإن رأت الدم قبل الولادة خمسة أيام ثم ولدت ورأت الدم ، فإن الخارج بعد الولادة نفاس ، وأما الخارج قبله ففيه وجهان من أصحابنا من قال : هو استحاضة لأنه لا يجوز أن يتوالى حيض ونفاس من غير طهر كما لا يجوز أن يتوالى حيضتان من غير طهر ، ومنهم من قال : إذا قلنا : إن الحامل تحيض فهو حيض لأن الولد يقوم مقام الطهر في الفصل ) .


( الشرح ) في هذه القطعة مسائل : إحداها في ألفاظها ( النفاس ) بكسر النون ، وهو عند الفقهاء الدم الخارج بعد الولد وعلى قول من يجعل الخارج معه نفاسا يقول هو الخارج مع الولد أو بعده ، وأما أهل اللغة فقالوا : النفاس الولادة ويقال في فعله : نفست المرأة بضم النون وفتحها والفاء مكسورة فيهما وهاتان اللغتان مشهورتان حكاهما ابن الأنباري والجوهري والهروي في الغريبين وآخرون أفصحهما : الضم ولم يذكر صاحب العين والمجمل غيره .

وأما إذا حاضت فيقال : نفست بفتح النون وكسر الفاء لا غير ، كذا قال ابن الأنباري والهروي وآخرون ; ويقال في الولادة : امرأة نفساء بضم النون وفتح الفاء وبالمد ونسوة نفاس بكسر النون . قالوا : وليس في كلام العرب فعلاء يجمع على فعال إلا نفساء وعشراء للحامل جمعها عشار ، ويجمع النفساء أيضا على نفساوات بضم النون ، قال صاحب المطالع : وبالفتح أيضا قال : ويجمع على نفس أيضا بضم النون والفاء قال : ويقال في الواحدة : نفسى مثل كبرى ونفسي بفتح النون ، ويقال : امرأتان نفساوان والولد منفوس وقوله : ( لأجل الحيض ) [ ص: 536 ] هو بفتح الهمزة وحكى الجوهري وغيره كسرها أيضا والمشهور في اللغة تعديته بمن ، فيقال : من أجل الحيض ومن أجل كذا ، قال تعالى ( { من أجل ذلك كتبنا } ) . وقوله : ( للزوج رجعتها ) هي بفتح الراء وكسرها لغتان مشهورتان وسبق في أول الباب بيان اللغتين في الحامل والحاملة ، وسبق بيان حال أبي إسحاق وأبي العباس في أبواب المياه . وقوله : أبو العباس بن أبي أحمد بن القاص كذا وقع هنا وهو صحيح ، وقوله ابن القاص يكتب بالألف وهو مرفوع هنا صفة لأبي العباس ولا يجوز جره على أنه صفة لأبي أحمد لأنه يفسد المعنى فإن القاص هو أبو أحمد ، وعادتهم أن يصفوا أبا العباس بأحد أوصاف ثلاثة فتارة يقال : أبو العباس بن أبي أحمد ، وتارة أبو العباس صاحب التلخيص ، أو صاحب التلخيص بلا كنية كما يفعله الغزالي وغيره ، وتارة يجمعون بين الوصفين الأولين كما فعله المصنف هنا والله أعلم .

المسألة الثانية : إذا نفست المرأة فلها حكم الحائض في الأحكام كلها إلا أربعة أشياء مختلفا في بعضها .

( أحدها ) أن النفاس لا يكون بلوغا ، فإن البلوغ يحصل بالحمل قبله والحيض قد يكون بلوغا ( والثاني ) لا يكون النفاس استبراء ، ( الثالث ) لا يحسب النفاس من عدة الإيلاء على أحد الوجهين ، وإذا طرأ عليها قطعها بخلاف الحيض فإنه يحسب ولا يقطع ، ( الرابع ) لا ينقطع تتابع صوم الكفارة بالحيض ، وفي انقطاعه بالنفاس وجهان ، وما سوى هذه الأربعة يستوي فيه الحائض والنفساء ، فيحرم عليها ما حرم على الحائض كالصلاة والصوم والوطء وغيرها مما سبق ، ويسقط عنها ما يسقط عن الحائض من الصلاة وتمكين الزوج وطواف الوداع وغيرها مما سبق ، ويحرم على الزوج وطؤها وطلاقها ، ويكره عبورها في المسجد والاستمتاع بما بين سرتها وركبتها إذا لم نحرمهما ، ويلزمها الغسل وقضاء الصوم وتمنع صحة الصلاة والصوم والطواف والاعتكاف والغسل . وأما قول المصنف : ( النفاس يحرم ما يحرم الحيض ، ويسقط ما يسقطه الحيض ) فكلام صحيح ولكنه ناقص لأن باقي الأحكام التي ذكرتها لم يتعرض لها ، [ ص: 537 ] وكان ينبغي أن يعبر بالعبارة التي ذكرتها أولا لسهولتها ، وكأنه اقتصر على ما ذكره تنبيها به على الباقي ، ولهذا قال : ( فكان حكمه حكم الحيض ) وهذا الذي ذكرناه من أن النفساء لها حكم الحائض لا خلاف فيه ونقل ابن جرير إجماع المسلمين عليه ، ونقل المحاملي اتفاق أصحابنا على أن حكمها حكم الحائض في كل شيء ، ولا بد من استثناء ما ذكرته أولا ، والله أعلم .

( فرع ) ذكرنا أن النفساء يسقط عنها فرض الصلاة وهذا جار في كل نفساء وحكى البغوي والمتولي وغيرهما وجها أنها لو شربت دواء ليسقط الجنين ميتا فأسقطته ميتا وجب عليها قضاء صلوات أيام النفاس لأنها عاصية ، والأصح الأشهر أنه لا يجب . وسنوضح المسألة في أول كتاب الصلاة إن شاء الله تعالى . المسألة الثالثة : في حقيقة النفاس وحكم الدم قبل الولادة وبعدها ، فأما الدم الخارج بعد الولادة فنفاس بلا خلاف ، وفي الخارج مع الولد ثلاثة أوجه : ( الصحيح ) عند جمهور المصنفين وبه قطع جمهور أصحابنا المتقدمين أنه ليس بنفاس ، بل له حكم الدم الخارج قبل الولادة وسنذكر حكمه إن شاء الله تعالى ، واحتج له الأصحاب بما ذكره المصنف ، قال الروياني : ولأنه لا خلاف أن ابتداء الستين يكون عقب انفصال الولد فلو جعلناه نفاسا لزادت مدة النفاس على ستين يوما .

( والوجه الثاني ) : أنه نفاس وصححه ابن الصباغ .

( والثالث ) : له حكم الدم الخارج بين التوأمين . حكاه البغوي وهو شاذ ضعيف وإذا قلنا : هو نفاس فله فوائد منها وجوب الغسل إذا لم تر دما بعده وقلنا : لا يجب الغسل بخروج الولد ومنها بطلان الصوم إذا لم تر دما بعده أصلا أو ولدت مع آخر جزء من النهار وكان الدم المتعقب للولد بعد غروب الشمس ، ومنها منع وجوب الصلاة إذا كانت الولادة مستوعبة لجميع الوقت أو كانت الحامل مجنونة وأفاقت في آخر الوقت واتصلت الولادة بالجنون بحيث لو لم توجد الولادة لوجبت الصلاة والله أعلم .

[ ص: 538 ] وأما الدم الخارج قبل الولادة فقد أطلق المصنف وجمهور الأصحاب في الطرق كلها أنه ليس بنفاس بل له حكم دم الحامل . وقال صاحب الحاوي : إن انفصل عما بعد الولادة فليس بنفاس بلا خلاف ، وإن اتصل به فوجهان : ( أحدهما ) أنه نفاس وهو قول أبي الطيب بن سلمة وقال : وأول نفاسها من حين بدأ بها الدم المتصل بالولادة .

( والثاني ) : ليس بنفاس ومراده بما قبل الولادة ما قاربها ، وقد أوضح الرافعي المسألة فقال : لو رأت الحامل الدم على عادتها واتصلت الولادة بآخره ولم يتخلل طهر أصلا فوجهان أصحهما : أنه حيض ، والثاني : أنه دم فساد . قال : ولا خلاف أنه ليس بنفاس لأن النفاس لا يسبق الولادة ولهذا قطع الجمهور بأن ما يبدو عند الطلق ليس بنفاس وقالوا : ابتداء النفاس من انفصال الولد . وحكى صاحب الإفصاح وجها أن ما يبدو عند الطلق نفاسا ، لأنه من آثار الولادة ثم عند الجمهور كما لا يجعل نفاسا لا يجعل حيضا ، كذا حكاه القاضي أبو المكارم في العدة وكذا حكاه الحناطي ، وحكى معه وجها أنه حيض على قولنا : الحامل تحيض . وإذا كان الأصح في هذه الصورة أنه ليس بحيض وجب أن تستثنى هذه الصورة من قولنا : الحامل تحيض على أصح القولين ; لأنها حامل بعد في هذه الصورة قال الرافعي : فحصل في وقت ابتداء النفاس أوجه ( أحدها ) : يحسب من الدم البادئ عند الطلق ، ( والثاني ) : من الدم الخارج مع ظهور الولد ، ( والثالث ) وهو الأصح : من وقت انفصال الولد وحكى إمام الحرمين وجها أنها لو ولدت ولم تر دما أياما ثم رأت الدم فابتداء النفاس يحسب من خروج الولد ، لا من رؤية الدم وهذا وجه رابع ، وموضعه إذا كانت الأيام المتخللة دون أقل الطهر ، والله أعلم .

المسألة الرابعة : إذا رأت الحامل دما يمكن أن يكون حيضا وانقطع ، ثم ولدت قبل مضي خمسة عشر يوما من انقطاعه فوجهان أصحهما عند الأصحاب : أنه حيض إن قلنا : الحامل تحيض وإلا فهو دم فساد . والثاني : أنه دم فساد سواء قلنا : الحامل تحيض أم لا ، ودليلهما مذكور في الكتاب هكذا حكى الأصحاب هذا الخلاف وجهين ، وهو في المعنى طريقان : ( أحدهما ) أنه دم فساد ، ( والثاني ) على القولين في دم الحامل ، ثم لا فرق في جريان هذا الخلاف بين أن ترى الدم في زمن عادتها أو غيره ولا فرق [ ص: 539 ] بين أن تتصل بالولادة أم لا على الصحيح ، كما سبق في المسألة الثالثة ، وقد تقدم في هذه المسألة زيادة في أول الباب .

وأما قول المصنف : من أصحابنا من قال : هو استحاضة ، فهو تصريح بأن دم الاستحاضة يطلق على الجاري في غير أوانه وإن لم يتصل بحيض ، وقد أوضحت الخلاف فيه في أول الباب والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية