صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى : ( وأما مني الآدمي فطاهر ; لما روي عن عائشة رضي الله عنها : { أنها كانت تحت المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي } ولو كان نجسا لما انعقدت معه الصلاة ولأنه مبتدأ خلق بشر فكان طاهرا كالطين ) .


( الشرح ) حديث عائشة صحيح رواه مسلم لكن لفظه : { لقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فركا فيصلي فيه } هذا لفظه في صحيح مسلم وسنن أبي داود وغيره من كتب السنن ، وأما اللفظ الذي ذكره المصنف فغريب . وقوله تحت المني أي تفركه وتحته وقوله : لأنه مبتدأ خلق بشر احتراز من مني الكلب .

( وأما حكم المسألة ) فمني الآدمي طاهر عندنا ، هذا هو الصواب المنصوص للشافعي رحمه الله في كتبه وبه قطع جماهير الأصحاب وحكى صاحب البيان وبعض الخراسانيين في نجاسته قولين ، ومنهم من قال : القولان في مني المرأة فقط ، والصواب الجزم بطهارة منيه ومنيها وسواء المسلم والكافر ، لكن إن قلنا : رطوبة فرج المرأة نجسة تنجس منيها بملاقاتها كما لو بال الرجل ولم يغسل ذكره بالماء ثم أمنى فإن منيه ينجس بملاقاة المحل النجس وإذا حكمنا بطهارة المني استحب غسله من البدن والثوب للأحاديث الصحيحة في البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها : { أنها كانت تغسل [ ص: 573 ] المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم } ولأن فيه خروجا من خلاف العلماء في نجاسته .

( فرع ) قد ذكرنا أن المني طاهر عندنا ، وبه قال سعيد بن المسيب وعطاء وإسحاق بن راهويه وأبو ثور وداود وابن المنذر ، وهو أصح الروايتين عن أحمد . وحكاه العبدري وغيره عن سعد بن أبي وقاص وابن عمر وعائشة رضي الله عنهم وقال الثوري والأوزاعي ومالك وأبو حنيفة وأصحابه : نجس ، لكن عند أبي حنيفة يجزي فركه يابسا ، وأوجب الأوزاعي ومالك غسله يابسا ورطبا ، واحتج لمن قال بنجاسته بحديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : { كان يغسل المني } رواه مسلم .

وفي رواية : { كنت أغسله من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم } رواه البخاري ومسلم .

وفي رواية لمسلم أنها قالت لرجل أصاب ثوبه مني فغسله كله : { إنما كان يجزيك إن رأيته أن تغسل مكانه ، فإن لم تره نضحت حوله ، لقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فركا فيصلي فيه } وذكروا أحاديث كثيرة ضعيفة ، منها حديث عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم { كان يأمر بحت المني }

قالوا : وقياسا على البول والحيض ; لأنه يخرج من مخرج البول ، ولأن المذي جزء من المني ; لأن الشهوة تحلل كل واحد منهما فاشتركا في النجاسة .

واحتج أصحابنا بحديث فركه ، ولو كان نجسا لم يكف فركه كالدم والمذي وغيرهما ، وهذا القدر كاف ، وهو الذي اعتمدته أنا في طهارته ، وقد أكثر أصحابنا من الاستدلال بأحاديث ضعيفة ولا حاجة إليها .

وعلى هذا إنما فركه تنزها واستحبابا وكذا غسله كان للتنزه والاستحباب وهذا الذي ذكرناه متعين أو كالمتعين للجمع بين الأحاديث .

وأما قول عائشة : " إنما كان يجزيك " فهو وإن كان ظاهره الوجوب فجوابه من وجهين : ( أحدهما ) : حمله على الاستحباب ; لأنها احتجت بالفرك ، فلو وجب الغسل لكان كلامها حجة عليها لا لها ، وإنما أرادت الإنكار عليه في غسل كل الثوب ، فقالت : ( غسل كل الثوب بدعة منكرة ، وإنما يجزيك في تحصيل الأفضل والأكمل كذا وكذا ) وذكر أصحابنا أقيسة ومناسبات كثيرة غير طائلة ولا نرتضيها ولا نستحل الاستدلال بها ولا نسمح بتضييع [ ص: 574 ] الوقت في كتابتها ، وفيما ذكرناه كفاية ، وأجاب أصحابنا عن القياس على البول والدم بأن المني أصل الآدمي المكرم ، فهو بالطين أشبه بخلافهما ، وعن قولهم : يخرج من مخرج البول بالمنع . قالوا : بل ممرهما مختلف . قال القاضي أبو الطيب : وقد شق ذكر الرجل بالروم فوجد كذلك فلا ننجسه بالشك .

قال الشيخ أبو حامد : ولو ثبت أنه يخرج من مخرج البول لم يلزم منه النجاسة ; لأن ملاقاة النجاسة في الباطن لا تؤثر ، وإنما تؤثر ملاقاتها في الظاهر ، وعن قولهم المذي جزء من المني بالمنع أيضا . قالوا : بل هو مخالف له في الاسم والخلقة وكيفية الخروج ; لأن النفس والذكر يفتران بخروج المني ، وأما المذي فعكسه ، ولهذا من به سلس المذي لا يخرج معه شيء من المني ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية