صفحة جزء
[ ص: 127 ] قال المصنف - رحمه الله تعالى - : ( وما نبع من الأرض ماء البحار وماء الأنهار وماء الآبار ، والأصل فيه : قوله صلى الله عليه وسلم في البحر { هو الطهور ماؤه الحل ميتته } وروي : { أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من بئر بضاعة } ) .


الشرح : هذان الحديثان صحيحان وهما بعضان من حديثين ، أما الأول فروى أبو هريرة قال { سأل سائل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إنا نركب البحر ، ونحمل معنا القليل من الماء ، فإن توضأنا به عطشنا ، أفنتوضأ بماء البحر ؟ فقال رسول الله : صلى الله عليه وسلم هو الطهور ماؤه الحل ميتته } حديث صحيح رواه مالك في الموطأ والشافعي وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم . قال البخاري في صحيحه : هو حديث صحيح وقال الترمذي : حديث حسن وروي { الحل ميتته } وروي " الحلال " وهما بمعنى ، والطهور بفتح الطاء ، وميتته بفتح الميم ، واسم السائل عن ماء البحر عبيد وقيل : عبد ، وأما قول السمعاني في الأنساب : اسمه العركي ففيه إيهام أن العركي اسم علم له ، وليس كذلك ثم العركي وصف له وهو ملاح السفينة .

وأما الثاني فروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال { قيل : يا رسول الله أتتوضأ من بئر بضاعة وهي بئر يلقى فيها الحيض ، ولحم الكلاب والنتن ، فقال رسول الله : صلى الله عليه وسلم إن الماء طهور لا ينجسه شيء } حديث صحيح رواه الأئمة الذين نقلنا عنهم رواية الأول ، قال الترمذي : حديث حسن صحيح . وقوله : " أتتوضأ " بتاءين مثناتين من فوق خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم معناه : تتوضأ أنت يا رسول الله من هذه البئر وتستعمل ماءها في وضوئك مع أن حالها ما ذكرناه ، وإنما ضبطت كونه بالتاء لئلا يصحف ، فيقال : أنتوضأ بالنون ، وقد رأيت من صحفه واستبعد كون النبي صلى الله عليه وسلم توضأ منها .

وهذا غلط فاحش ، وقد جاء التصريح بوضوء النبي صلى الله عليه وسلم منها في هذا الحديث من طرق كثيرة ، ذكرها البيهقي في السنن الكبير ورواها آخرون غيره . [ ص: 128 ] وفي رواية لأبي داود قال : { سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له : إنه يستقى لك من بئر بضاعة ، وهي بئر يلقى فيها لحوم الكلاب } ، وهذا في معنى روايات البيهقي وغيره المصرحة بأنه صلى الله عليه وسلم : توضأ منها ، ولهذا قال المصنف : وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم { توضأ من بئر بضاعة } .

وفي رواية الشافعي في مختصر المزني قيل : يا رسول الله إنك تتوضأ من بئر بضاعة ، وذكر تمام الحديث ، وروى النسائي عن أبي سعيد الخدري قال : { مررت بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ من بئر بضاعة ، فقلت : أتتوضأ منها وهي يطرح فيها ما يكره من النتن ، فقال : الماء لا ينجسه شيء } ، فهذه الرواية تقطع كل شك ونزاع . وبضاعة بضم الباء الموحدة ، ويقال بكسرها لغتان مشهورتان حكاهما ابن فارس والجوهري وآخرون ، والضم أشهر ، ولم يذكر جماعة غيره .

ثم قيل : هو اسم لصاحب البئر وقيل : اسم لموضعها وقوله : يلقى فيها الحيض بكسر الحاء وفتح الياء ، وفي رواية المحايض ومعناه : الخرق التي يمسح بها دم الحيض ، قاله الأزهري وغيره ، قال الإمام أبو سليمان أحمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب الخطابي : لم يكن إلقاء المحيض فيها تعمدا من آدمي ، بل كانت البئر في حدور ، والسيول تكسح الأقذار من الأفنية وتلقيها فيها ، ولا يؤثر في الماء لكثرته ، وكذا ذكر نحو هذا المعنى آخرون ، وقيل : كانت الريح تلقي الحيض فيها حكاه صاحب الحاوي وغيره ، ويجوز : أن يكون السيل والريح يلقيان ، قال صاحب الشامل : ويجوز أن المنافقين كانوا يلقون ذلك .

( فرع ) الحكم الذي ذكره ، وهو جواز الطهارة بما نبع من الأرض مجمع عليه إلا ما سأذكره إن شاء الله تعالى في البحر وماء زمزم .

( فرع ) ينكر على المصنف قوله في الحديث الثاني : وروي بصيغة تمريض مع أنه حديث صحيح كما سبق ، وقد سبق في الفصول في مقدمة الكتاب : أنه لا يقال في حديث صحيح روي " بل يقال : بصيغ الجزم [ ص: 129 ] فيقال هنا : { وتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم من بئر بضاعة } ، وأما قوله في الحديث الأول لقوله صلى الله عليه وسلم فعبارة صحيحة ; لأنها جزم في حديث صحيح . وهذان الحديثان بعضان ، وقد سبق في المقدمة بيان جواز اختصار الحديث .

( فرع في فوائد الحديث الأول إحداها ) : أنه أصل عظيم من أصول الطهارة ذكر صاحب الحاوي عن الحميدي شيخ البخاري وصاحب الشافعي قال : قال الشافعي : هذا الحديث نصف علم الطهارة ( الثانية ) : أن الطهور هو المطهر وسأفرد له فرعا إن شاء الله تعالى ( الثالثة ) : جواز الطهارة بماء البحر ( الرابعة ) : أن الماء المتغير بما يتعذر صونه عنه طهور ( الخامسة ) : جواز ركوب البحر ما لم يهج ، وسيأتي بسط المسألة في كتاب الحج - إن شاء الله تعالى - حيث ذكرها المصنف والأصحاب .

( السادسة ) : أن ميتات البحر كلها حلال ، إلا ما خص منها وهو الضفدع والسرطان ، وهذا هو الصحيح وفيه خلاف في باب الصيد والذبائح ( السابعة ) : أن الطافي من حيوان البحر حلال ، وهو ما مات حتف أنفه ، وهذا مذهبنا ( الثامنة ) : فيه أنه يستحب للعالم والمفتي إذا سئل عن شيء وعلم أن بالسائل حاجة إلى أمر آخر متعلق بالمسئول عنه لم يذكره السائل أن يذكره له ويعلمه إياه ; لأنه سأل عن ماء البحر فأجيب : بمائه وحكم ميتته ; لأنهم يحتاجون إلى الطعام كالماء .

قال الخطابي : وسبب هذا أن علم طهارة الماء مستفيض عند الخاصة والعامة ، وعلم حل ميتة البحر يخفى ، فلما رآهم جهلوا أظهر الأمرين ; كان أخفاهما أولى . ونظيره حديث المسيء صلاته ، فإنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمه الصلاة فابتدأ بتعليمه الطهارة ثم الصلاة ; لأن الصلاة تفعل ظاهرا والوضوء في خفاء غالبا ، فلما جهل الأظهر كان الأخفى أولى والله أعلم .

( فرع ) الطهور عندنا هو المطهر ، وبه قال أحمد بن حنبل ، وحكاه بعض أصحابنا عن مالك ، وحكوا عن الحسن البصري وسفيان وأبي بكر الأصم وابن داود وبعض أصحاب أبي حنيفة وبعض أهل اللغة : أن الطهور هو [ ص: 130 ] الطاهر واحتج لهم بقوله تعالى : { وسقاهم ربهم شرابا طهورا } ومعلوم : أن أهل الجنة لا يحتاجون إلى التطهير من حدث ولا نجس ، فعلم أن المراد بالطهور الطاهر ، وقال جرير في وصف النساء :

عذاب الثنايا ريقهن طهور

والريق لا يتطهر به وإنما أراد : طاهر ، واحتج أصحابنا : بأن لفظة طهور حيث جاءت في الشرع المراد بها التطهير ، من ذلك قوله تعالى : { وأنزلنا من السماء ماء طهورا } { وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به } ، فهذه مفسرة للمراد بالأولى .

وقال رسول الله في الحديث الصحيح المذكور في الفصل : { هو الطهور ماؤه } ومعلوم أنهم : سألوا عن تطهير ماء البحر لا عن طهارته ولولا أنهم يفهمون من الطهور المطهر لم يحصل الجواب ، وقوله صلى الله عليه وسلم : { طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبعا } رواه مسلم من رواية أبي هريرة أي مطهره ، وقوله صلى الله عليه وسلم : { جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا } رواه مسلم وغيره من رواية حذيفة ، والمراد مطهرة وبكونها مطهرة اختصت هذه الأمة لا بكونها طاهرة ، فإن قيل : يرد عليكم حديث : { الماء طهور } قلنا : لا نسلم كونه مخالفا ، وأجاب أصحابنا عن قوله تعالى : { شرابا طهورا } بأنه تعالى وصفه بأعلى الصفات وهي التطهير ، وكذا قول جرير حجة لنا ; لأنه قصد تفضيلهن على سائر النساء ، فوصف ريقهن بأنه مطهر يتطهر به لكمالهن وطيب ريقهن وامتيازه على غيره ، ولا يصح حمله على ظاهره ، فإنه لا مزية لهن في ذلك ، فإن كل النساء ريقهن طاهر ، بل البقر والغنم وكل حيوان - غير الكلب والخنزير ، وفرع أحدهما - ريقه طاهر والله أعلم .

( فرع ) قال أصحابنا : حديث بئر بضاعة لا يخالف حديث القلتين ; لأن ماءها كان كثيرا لا يغيره وقوع هذه الأشياء فيه ، قال أبو داود السجستاني في سننه [ ص: 131 ] سمعت قتيبة بن سعيد يقول : سألت قيم بئر بضاعة عن عمقها قال : أكثر ما يكون الماء فيها إلى العانة قلت : فإذا نقص ؟ قال : دون العورة قال أبو داود : قدرت بئر بضاعة بردائي مددته عليها ، ثم ذرعته ، فإذا عرضها ست أذرع ، وقال لي الذي فتح لي الباب يعني باب البستان الذي هي فيه لم يغير بناؤها عما كانت عليه ، قال : ورأيت فيها ماء متغير اللون . قوله : متغير اللون يعني بطول المكث وبأصل المنبع لا بشيء أجنبي ، وهذه صفتها في زمن أبي داود ، لا يلزم أن يكون كانت هكذا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم واعلم أن حديث بئر بضاعة عام مخصوص خص منه المتغير بنجاسة فإنه نجس للإجماع ، وخص منه أيضا ما دون قلتين إذا لاقته نجاسة كما سنوضحه في موضعه ، إن شاء الله تعالى ، فالمراد : الماء الكثير الذي لم تغيره نجاسة لا ينجسه شيء ، وهذه كانت صفة بئر بضاعة والله أعلم .

( فرع ) قوله : ماء الأبآر وهو بإسكان الباء وبعدها همزة ، ومن العرب من يقول : آبار بهمزة ممدودة في أوله وفتح الباء ولا همزة بعدها ، وهو جمع بئر جمع قلة ، ويجمع أيضا في القلة أبؤر بإسكان الباء وبعدها همزة مضمومة ، وفي الكثرة بئار بكسر الباء وبعدها همزة ، والبئر مؤنثة مهموزة يجوز تخفيفها بقلب الهمزة ياء .

( فرع ) قال المزني في المختصر : قال الشافعي : فكل ماء من بحر عذب أو مالح أو بئر أو سماء أو ثلج أو برد مسخن وغير مسخن فسواء والتطهر به جائز ، واعترض عليه وقالوا : مالح خطأ وصوابه : ملح قال الله تعالى { وهذا ملح أجاج } . والجواب : أن هذا الاعتراض جهالة من قائله ، بل فيه أربع لغات ماء ملح ومالح ومليح وملاح بضم الميم وتخفيف اللام ، حكاهن الخطابي وآخرون [ ص: 132 ] من الأئمة ، وقد جمعت ذلك بدلائله وأقوال الأئمة فيه وإنشاد العرب فيه في تهذيب الأسماء واللغات ، فمن الأبيات قول عمر بن أبي ربيعة

ولو تفلت في البحر والبحر مالح     لأصبح ماء البحر من ريقها عذبا
.



وقول محمد بن حازم :

تلونت ألوانا علي كثيرة     وخالط عذبا من إخائك مالح

فهذا هو الجواب الذي نختاره ونعتقده ، وذكر أصحابنا جوابين أحدهما : هذا والثاني : أن هذه العبارة ليست للشافعي ، بل للمزني ، وعبارة الشافعي في الأم : عذب أو أجاج ، وهذا الجواب : ضعيف جدا لوجهين أحدهما : أن المزني ثقة ، وقد نقله عن الشافعي ولا يلزم من كونه ذكر في الأم عبارة أن لا يذكر غيرها في موضع آخر ولا أن لا يسمعها المزني شفاها ، والثاني : أن هذا الجواب يتضمن تغليط المزني في النقل ، ونسبته إلى اللحن ، ولا ضرورة بنا إلى واحد منهما ، ثم وجدت في رسالة للبيهقي إلى الشيخ أبي محمد الجويني : أن أكثر أصحابنا ينسبون المزني في هذا إلى الغلط ، ويزعمون أن هذه اللفظة لم توجد للشافعي . قال البيهقي : وقد سمى الشافعي البحر مالحا في كتابين : أحدهما : في أمالي الحج في مسألة كون صيد البحر حلالا للمحرم والثاني : في المناسك الكبير وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية