صفحة جزء
[ ص: 610 ] قال المصنف رحمه الله تعالى ( وما سوى ذلك من النجاسات ينظر فيه فإن كانت جامدة كالعذرة أزيلت ثم غسل موضعها على ما نبينه إن شاء الله - تعالى - وإن كانت ذائبة كالبول والدم والخمر فإنه يستحب [ أن يغسل ] منه ثلاثا ; لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده } فندب صلى الله عليه وسلم إلى الثلاث للشك في النجاسة ، فدل على أن ذلك يستحب إذا تيقن ، ويجوز الاقتصار على [ غسل ] مرة ; لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال : { كانت الصلاة خمسين ، والغسل من الجنابة سبع مرات ، وغسل الثوب من البول سبع مرات ، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل حتى جعلت الصلاة خمسا ، والغسل من الجنابة مرة ، وغسل الثوب من البول مرة } والغسل الواجب من ذلك أن تكاثر النجاسة بالماء حتى تستهلك فيه ، فإن كانت النجاسة على الأرض أجزأته المكاثرة ; لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم { أمر في بول الأعرابي بذنوب من ماء } وإنما أمر بالذنوب ; لأن ذلك يغمر النجاسة وتستهلك فيه .

وقال أبو سعيد الإصطخري وأبو القاسم الأنماطي : الذنوب تقدير فيجب في بول واحد ذنوب ، وفي بول اثنين ذنوبان ، والمذهب : أن ذلك ليس بتقدير ; لأن ذلك يؤدي إلى أن يطهر البول الكثير من رجل بذنوب ، وما دون ذلك من رجلين لا يطهر إلا بذنوبين وإن كانت النجاسة على الثوب ففيه وجهان : ( أحدهما ) يجزئه المكاثرة كالأرض ( والثاني ) : لا يجزئه حتى يعصر ; لأنه يمكن عصره بخلاف الأرض ، والأول أصح .

وإن كانت النجاسة في إناء فيه شيء ، فوجهان : ( أحدهما ) : يجزئ فيه المكاثرة كالأرض ( والثاني ) : لا يجزئ حتى يراق ما فيه ثم يغسل لقوله صلى الله عليه وسلم في الكلب يلغ في الإناء : { فليهرقه ثم ليغسله سبع مرات } ) .


( الشرح ) : هذه القطعة فيها أحاديث ومسائل .

أما الأحاديث فالأول حديث : " إذا استيقظ أحدكم " رواه مسلم بلفظه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأصله في الصحيحين وقد سبق بيانه وما يتعلق به من الفوائد في أول صفة الوضوء ، وينكر على المصنف قوله فيه : روي بصيغة تمريض ، وأما حديث ابن عمر رضي الله عنهما فرواه أبو داود ولم يضعفه ، لكن في إسناده أيوب بن جابر وقد اختلفوا في تضعيفه .

وأما حديث : { أمر النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 611 ] أن يصبوا على بول الأعرابي ذنوبا } فرواه البخاري ومسلم من طرق من رواية أنس رضي الله عنه ورواه البخاري أيضا بمعناه من رواية أبي هريرة ، وأما حديث : { فليهرقه ثم ليغسله سبع مرات } فصحيح رواه مسلم ، وقد قدمناه في مواضع من هذا الباب ، وقوله : يلغ هو بفتح اللام كما سبق بيانه .

أما المسائل ( فإحداها ) : الأعيان النجسة كالميتة والروث وغيرهما لا يطهر بالغسل بل إذا وقعت على طاهر ونجس لا يمكن تطهيره حتى تزول عين النجاسة ، وهكذا إذا اختلطت هذه النجاسات بتراب وغيره فصب عليه الماء لم يطهر ، قال أصحابنا : ولا طريق إلى طهارة هذه الأرض إلا بأن يحفر ترابها ويرمى ، فلو ألقى عليها ترابا طاهرا أو طينها صحت الصلاة عليها .

( الثانية ) : إذا كانت النجاسة ذائبة كأثر البول والدم والخمر وغيرها استحب غسلها ثلاث مرات ، والواجب مرة واحدة ، ودليلهما ما ذكره المصنف ، وعن أحمد بن حنبل رواية أنه يجب غسل النجاسة كلها سبع مرات كالكلب ; ودليلنا حديث ابن عمر وهو صريح في المرة وإطلاق الأحاديث الصحيحة المشهورة كحديث غسل دم الحيض : { وصبوا عليه ذنوبا من ماء } وغير ذلك ، وبمذهبنا قال الجمهور ، قال أصحابنا : فإن لم يزل عين الدم أو طعمه أو طعم سائر النجاسات إلا بغسلات كفاه زوال العين ، ويستحب بعد ذلك غسله ثانية وثالثة لحديث : " إذا استيقظ أحدكم " ( الثالثة ) : الواجب في إزالة النجاسة الذائبة من الأرض المكاثرة بالماء ، بحيث تستهلك فيه وتطهر الأرض بمجرد ذلك وإن لم ينصب الماء ، سواء كانت الأرض صلبة أم رخوة ، هذا هو الصحيح وفيه وجه أنها لا تطهر حتى ينصب ، حكاه الخراسانيون بناء على اشتراط العصر في الثوب ، ووجه حكاه الخراسانيون وجماعة من العراقيين أنه يشترط كون الماء المصبوب سبعة أمثال البول ، ووجه أنه يشترط في بول كل رجل ذنوب من ماء ، فلو كان مائة ، وجب مائة ذنوب وهذا الوجه هو الذي حكاه المصنف عن الأنماطي والإصطخري .

وهذه الأوجه كلها ضعيفة والمذهب الأول .

وأما نص [ ص: 612 ] الشافعي رحمه الله أنه يصب على البول سبعة أضعافه ، وقوله : وإن بال اثنان لم يطهر إلا بذنوبين محمول على ما إذا لم تحصل المكاثرة إلا بذلك أو على الاستحباب والاحتياط ، ولا يشترط جفاف الأرض بلا خلاف كما لا يشترط جفاف الثوب بلا خلاف ، وإن شرطنا العصر قال أصحابنا : ولو وقع على الأرض والثوب وغيرهما ماء المطر حصلت الطهارة بلا خلاف قال أصحابنا : ثم الخمر والبول والدم وسائر النجاسات الذائبة حكمها ما ذكرنا ، هذا مذهبنا ، وبه قال مالك وأحمد وداود والجمهور .

وقال أبو حنيفة - رحمه الله : إن كانت الأرض رخوة ينزل الماء فيها أجزأه صبه عليها ، وإن كانت صلبة لم يجزئه إلا حفرها ونقل ترابها ، دليلنا حديث بول الأعرابي في المسجد وصب الذنوب عليه ، وأما الحديث الوارد في الأمر بحفره فضعيف .

( الرابعة ) : إذا كانت النجاسة على ثوب ونحوه فالواجب المكاثرة بالماء ، وفيه وجه سبعة الأمثال الذي سبق وليس بشيء ، وفي اشتراط العصر وجهان أصحهما : لا يشترط بل يطهر في الحال ، وهما مبنيان على الخلاف في طهارة غسالة النجاسة .

والأصح طهارتها إذا انفصلت غير متغيرة وقد طهر المحل ; ولهذا كان الأصح أنه لا يشترط العصر .

فإن شرطناه لم يحكم بطهارة الثوب ما دام الماء فيه ، فإن عصره طهر حينئذ ، وإن لم يعصره حتى جف فهل يطهر ؟ وجهان حكاهما الخراسانيون الصحيح يطهر ; لأنه أبلغ في زوال الماء .

والثاني : لا يطهر ; لأن الماء الذي وجبت إزالته باق ، ولأن وجوب العصر مفرع على نجاسة الغسالة ، وهي باقية في الثوب حكما ، وهذا ضعيف ، والمعتمد الجزم بالطهارة ولو عصره وبقيت رطوبة فهو طاهر بلا خلاف .

( الخامسة ) : إذا كانت النجاسة مائعا في إناء فصب عليه ماء غمره ولم يرقه فهل يطهر الإناء وما فيه ؟ فيه وجهان ذكرهما المصنف بدليلهما وهما مشهوران ، الصحيح منهما : لا يطهر .

ولو غمس الثوب النجس في إناء دون قلتين من الماء فوجهان : الصحيح ، وبه قطع الجمهور : ينجس الماء ولا يطهر الثوب ، وقال ابن سريج : يطهر الثوب ولا ينجس الماء ، ولو ألقت الريح الثوب في الماء وهو دون القلتين نجس الماء ، ولم يطهر الثوب بلا خلاف ، [ ص: 613 ] ووافق ابن سريج على النجاسة هنا ، واستدلوا بهذا على اشتراطه النية في إزالة النجاسة ، وأنكر إمام الحرمين والغزالي وغيرهما هذا الاستدلال .

( السادسة ) : إذا كان داخل الإناء متنجسا فصب فيه ماء غمر النجاسة ، فهل يطهر في الحال قبل إراقة الغسالة ؟ وجهان بناء على اشتراط العصر أصحهما الطهارة كالأرض ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية