صفحة جزء
قال المصنف : - رحمه الله تعالى ( وما سوى الماء المطلق من المائعات كالخل وماء الورد والنبيذ وما اعتصر من الثمر أو الشجر ، لا يجوز رفع الحدث ولا إزالة النجس به لقوله تعالى : { فلم تجدوا ماء فتيمموا } فأوجب التيمم على من لم يجد الماء ، فدل على أنه لا يجوز الوضوء بغيره ، { ولقوله صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها في دم الحيض يصيب الثوب : حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء } فأوجب الغسل بالماء ، فدل على أنه لا يجوز بغيره ) .


" الشرح " أما حديث أسماء فرواه البخاري ومسلم بمعناه ، لكن عن أسماء { أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : تحته ثم تقرصه بالماء } وفي رواية : { فلتقرصه ثم لتنضحه بماء } هذا لفظه في الصحيح ، وليس في الصحيح أن أسماء هي السائلة ولا في كتب الحديث المعتمدة ، لكن رواه الشافعي في الأم كذلك في رواية ضعيفة بعد أن رواه عن أسماء : أن امرأة سألت ، وقد أنكر جماعة على المصنف روايته أن أسماء هي السائلة وغلطوه فيه ، وليس هو بغلط ، بل رواه الشافعي كما [ ص: 139 ] ذكرنا ، والمراد : متن الحديث وهو صحيح ، ولو اعتنى المصنف بتحقيق الحديث وأتى برواية الصحيحين لكان أكمل له وأبرأ لدينه وعرضه ، ومعنى حتيه حكيه ، ومعنى اقرصيه قطعيه واقلعيه بظفرك ، والدم مخفف الميم على اللغة الفصيحة المشهورة ، وتشدد الميم في لغة ، والاستدلال من الآية والحديث ليس بالمفهوم ، بل أمر بالتيمم والغسل بالماء فمن غسل بمائع فقد ترك المأمور به ، وأما حكم المسألة : وهو أن رفع الحدث وإزالة النجس لا يصح إلا بالماء المطلق فهو مذهبنا لا خلاف فيه عندنا ، وبه قال جماهير السلف والخلف من الصحابة فمن بعدهم ، وحكى أصحابنا عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وأبي بكر الأصم : أنه يجوز رفع الحدث وإزالة النجس بكل مائع طاهر ، قال القاضي أبو الطيب : إلا الدمع فإن الأصم يوافق على منع الوضوء به ، وقال أبو حنيفة : يجوز الوضوء بالنبيذ على شرط سأذكره في فرع مستقل ، وأذكر إزالة النجاسة في فرع آخر - إن شاء الله تعالى - واحتج لابن أبي ليلى بأنه : مائع طاهر فأشبه الماء ، واحتج الأصحاب بالآية التي ذكرها المصنف ، وبأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يعدمون الماء في أسفارهم ومعهم الدهن وغيره من المائعات وما نقل عن أحد منهم الوضوء بغير ماء ، ولا يصح القياس على الماء ، فإن الماء جمع اللطافة وعدم التركيب من أجزاء وليس كذلك غيره .

وأما قول الغزالي في الوسيط : طهارة الحدث مخصوصة بالماء بالإجماع ، فمحمول على أنه لم يبلغه قول ابن أبي ليلى إن صح عنه ، وأما الأصم فلا يعتد بخلافه ، وقد أوضحت حال الأصم في تهذيب الأسماء واللغات ، وقد قال ابن المنذر في الأشراف وكتاب الإجماع : أجمع أهل العلم على أنه لا يجوز الوضوء بماء الورد والشجر والعصفر وغيره مما لا يقع عليه اسم ماء ، وهذا يوافق نقل الغزالي .

( فرع ) أما النبيذ فلا يجوز الطهارة به عندنا على أي صفة كان من عسل أو تمر أو زبيب أو غيرها مطبوخا كان أو غيره ، فإن نش وأسكر [ ص: 140 ] فهو نجس يحرم شربه ، وعلى شاربه الحد ، وإن لم ينش فطاهر لا يحرم شربه ولكن لا تجوز الطهارة به ، هذا تفصيل مذهبنا وبه قال مالك وأحمد وأبو يوسف والجمهور .

وعن أبي حنيفة أربع روايات ( إحداهن ) : يجوز الوضوء بنبيذ التمر المطبوخ إذا كان في سفر وعدم الماء ( والثانية ) : يجوز الجمع بينه وبين التيمم ، وبه قال صاحبه محمد بن الحسن ( والثالثة ) : يستحب الجمع بينهما ( الرابعة ) : أنه رجع عن جواز الوضوء به وقال يتيمم ، وهو الذي استقر عليه مذهبه ، كذا قاله العبدري ، قال : وروي أنه قال : الوضوء بنبيذ التمر منسوخ ، وحكي عن الأوزاعي الوضوء بكل نبيذ ، وحكى الترمذي عن سفيان الوضوء بالنبيذ .

واحتج لمن جوز برواية شريك عن أبي فزارة عن أبي زيد مولى عمرو بن حريث عن ابن مسعود : أن النبي صلى الله عليه وسلم { قال له ليلة الجن : هل في إداوتك ماء ؟ قال : لا إلا نبيذ تمر ، قال : ثمرة طيبة وماء طهور ، وتوضأ به } رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه في سننهم ، وعن ابن عباس رفعه : { النبيذ وضوء من لم يجد الماء } وعن علي وابن عباس وغيرهما موقوفات ، واحتج أصحابنا بالآية : { فلم تجدوا ماء فتيمموا } وقد سبق وجه التمسك بالآية ، فمن توضأ بالنبيذ فقد ترك المأمور به ، ولهم أسئلة ضعيفة على الآية ، لا يلتفت إليها وبحديث أبي ذر : رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم " قال : { الصعيد الطيب وضوء المسلم ، ولو لم يجد الماء عشر سنين ، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته } حديث صحيح رواه أبو داود والترمذي والنسائي في سننهم ، والحاكم أبو عبد الله محمد بن البيع في المستدرك على الصحيحين . قال الترمذي : حديث حسن صحيح ، وقال الحاكم : حديث صحيح ، والاستدلال منه كالاستدلال من الآية . ومن القياس كل شيء لا يجوز التطهر به حضرا لم يجز سفرا كماء الورد ; ولأنه مائع لا يجوز الوضوء به مع وجود الماء فلم يجز مع عدمه كماء الباقلا ; ولأنه شراب فيه شدة مطربة فأشبه الخمر ; ولأنه مائع لا يطلق [ ص: 141 ] عليه اسم ماء كالخل .

وأما الجواب عن شبههم فحديث ابن مسعود ضعيف بإجماع المحدثين . قال الترمذي وغيره : لم يروه غير أبي زيد مولى ابن حريث ، وهو مجهول لا يعرف ولا يعرف عنه غير هذا الحديث . وقد ثبت في صحيح مسلم عن علقمة قال : { سألت ابن مسعود هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ؟ قال : لا ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب فقلنا : استطير أو اغتيل ، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم ؟ فلما أصبحنا إذ هو جاء من قبل حراء فقلنا : يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشر ليلة بات بها قوم ، فقال : أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن ، قال : فانطلق بنا فأرانا آثارهم ، وآثار نيرانهم } وفي صحيح مسلم أيضا عن علقمة عن عبد الله قال : { لم أكن ليلة الجن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ووددت أني كنت معه } ، فثبت بهذين الحديثين مع ما ذكرناه من اتفاق الحفاظ على تضعيف حديث النبيذ بطلان احتجاجهم .

وأجاب أصحابنا مع هذا بأربعة أجوبة ( أحدها ) : أنه حديث مخالف الأصول فلا يحتج به عند أبي حنيفة ( والثاني ) : أنهم شرطوا لصحة الوضوء بالنبيذ السفر ، وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم في شعاب مكة كما ذكرناه ( الثالث ) : أن المراد بقوله : نبيذ أي ماء نبذت فيه تمرات ليعذب ، ولم يكن متغيرا ، وهذا تأويل سائغ ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { ثمرة طيبة وماء طهور } فوصف النبي صلى الله عليه وسلم شيئين ليس النبيذ واحدا منهما ، فإن قيل : فابن مسعود نفى أن يكون معه ماء . وأثبت النبيذ ، فالجواب : أنه إنما نفى أن يكون معه ماء معد للطهارة ، وأثبت أن معه ماء نبذ فيه تمرا معدا للشرب ، وحمل كلام النبي صلى الله عليه وسلم على الحقيقة وتأويل كلام ابن مسعود أولى من عكسه .

( الرابع ) : أن النبيذ الذي زعم أنه كان مع ابن مسعود لا يجوز الطهارة به عندهم ; لأنه نقيع [ ص: 142 ] لا مطبوخ ، فإن العرب لا تطبخه ، وإنما تلقي فيه حبات تمر حتى يحلو فتشربه ، وذكر الأصحاب أجوبة كثيرة غير ما ذكرنا وفيما ذكرنا كفاية ، وأما حديث ابن عباس والآثار عنه وعن علي وغيرهما فكلها ضعيفة واهية ، ولو صحت لكان عنها أجوبة كثيرة ، ولا حاجة إلى تضييع الوقت بذكرها بلا فائدة ، ولقد أحسن وأنصف الإمام أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي إمام الحنفية في الحديث والمنتصر لهم حيث قال في أول كتابه : إنما ذهب أبو حنيفة ومحمد إلى الوضوء بالنبيذ اعتمادا على حديث ابن مسعود ، ولا أصل له فلا معنى لتطويل كتابي بشيء فيه .

( فرع ) قد ذكرنا أن إزالة النجاسة لا تجوز عندنا وعند الجمهور إلا بالماء ، فلا تجوز بخل ولا بمائع آخر ، وممن نقل هذا عنه مالك ومحمد بن الحسن وزفر وإسحاق بن راهويه ، وهو أصح الروايتين عن أحمد .

وقال أبو حنيفة وأبو يوسف وداود : يجوز إزالة النجاسة من الثوب والبدن بكل مائع يسيل إذا غسل به ثم عصر كالخل وماء الورد ، ولا يجوز بدهن ومرق ، وعن أبي يوسف رواية : أنه لا يجوز في البدن بغير الماء ، واحتج لهم بحديث عائشة رضي الله عنها قالت : " ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه ، فإذا أصابه شيء من دم قالت : بريقها فمصعته بظفرها " رواه البخاري ، ومصعته بفتح الميم والصاد والعين المهملتين أي أذهبته ، وعن محمد بن إبراهيم عن أم ولد لإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أم سلمة رضي الله عنها قالت { قلت : يا رسول الله إني امرأة أطيل ذيلي فأجره على المكان القذر فقال صلى الله عليه وسلم : يطهره ما بعده } رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه

وموضع الدلالة أنها طهارة بغير الماء ، فدل على عدم اشتراطه ، وبحديث أبي سعيد الخدري : رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر ، فإن رأى في نعليه قذرا أو أذى فليمسحه ، وليصل فيهما } حديث حسن رواه أبو داود بإسناد صحيح ، وبحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى ، فإن التراب له طهور } رواه أبو داود ، والدلالة من هذين ، كهي مما قبلهما .

[ ص: 143 ] وذكروا أحاديث لا دلالة فيها كحديث { إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فاغسلوه } وبأي شيء غسله سمي غاسلا . قالوا : ولأنه مائع طاهر فأشبه الماء ; ولأنها عين تجب إزالتها للعبادة فجاز بغير الماء كالطيب عن ثوب المحرم وهذا يعتمدونه ; ولأن الحكم يتعلق بعين النجاسة فزال بزوالها ; ولأن المراد إزالة العين والخل أبلغ ; ولأن الخمر إذا انقلبت خلا طهرت وطهر الدن ، وما طهر إلا بالخل ; ولأنها نجاسة فلا يتعين لها الماء كنجاسة النجو ; ولأن الهرة لو أكلت فأرة ثم ولغت في إناء ، لم تنجسه ، فدل على أن ريقها طهر فمها .

واحتج أصحابنا بقول الله تعالى : { وأنزلنا من السماء ماء طهورا } { وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به } فذكره سبحانه وتعالى امتنانا ، فلو حصل بغيره لم يحصل الامتنان ، وبحديث أسماء المذكور ، وتقدم بيان وجه الدلالة ; ولأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم إزالة النجاسة بغير الماء ونقل إزالتها بالماء ، ولم يثبت دليل صريح في إزالتها بغيره ، فوجب اختصاصه إذ لو جاز بغيره لبينه مرة فأكثر ، ليعلم جوازه كما فعل في غيره ; ولأنها طهارة شرعية فلم تجز بالخل ، كالوضوء ; ولأن حكم النجاسة أغلظ من حكم الحدث بدليل : أنه يتيمم عن الحدث دونها ، ولو وجد من الماء ما يكفيه لأحدهما غسلها ، والمستعمل في النجاسة نجس عند أبي حنيفة ، وكذا عندنا إن انفصل ولم يطهر المحل على الأظهر .

والمستعمل في الحدث طاهر عندنا ، وكذا على الأصح عن أبي حنيفة ، فإذا لم يجز الوضوء بغير الماء فالنجاسة التي هي أغلظ أولى .

وأما الجواب عن أدلتهم فحديث عائشة ، أجاب عنه الشيخ أبو حامد وغيره : بأن مثل هذا الدم اليسير لا تجب إزالته ، بل تصح الصلاة معه ويكون عفوا ، ولم ترد عائشة غسله وتطهيره بالريق ، ولهذا لم تقل كنا نغسله بالريق ، وإنما أرادت إذهاب صورته لقبح منظره ، فيبقى المحل نجسا كما كان ولكنه معفو عنه لقلته . وهذا الجواب على مذهب من [ ص: 144 ] يقول : قول الصحابي : كنا نفعل كذا يكون مرفوعا ، وإن لم يضفه إلى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم أما من اشترط الإضافة فلا يكون عنده مرفوعا بل يكون موقوفا .

ويجيء فيه التفصيل في قول الصحابي هل انتشر أم لا ؟ وهل هو حجة في الحالين أم لا ؟ وفي كل هذا خلاف قدمناه واضحا في الفصول السابقة في مقدمة هذا الشرح .

وأما حديث أم سلمة فالجواب عنه من وجهين ( أحدهما ) : أنه ضعيف ; لأن أم ولد إبراهيم مجهولة ( والثاني ) : أن المراد بالقذر نجاسة يابسة ، ومعنى يطهره ما بعده أنه إذا انجر على ما بعده من الأرض ذهب ما علق به من اليابس ، هكذا أجاب أصحابنا وغيرهم ، قال الشيخ أبو حامد في تعليقه : ويدل على هذا التأويل الإجماع أنها لو جرت ثوبها على نجاسة رطبة فأصابته لم يطهر بالجر على مكان طاهر ، وكذا نقل الإجماع في هذا أبو سليمان الخطابي ، ونقل الخطابي هذا التأويل عن آباء عبد الله مالك والشافعي وأحمد - رحمهم الله - .

وأما حديث أبي سعيد فلنا في المسألة قولان : القديم : أن مسح أسفل الخف الذي لصقت به نجاسة كاف في جواز الصلاة فيه ، مع أنه نجس عفي عنه ، والجديد : أنه ليس بكاف ، فعلى هذا الجواب أن الأذى المذكور محمول على مستقذر طاهر كمخاط وغيره مما هو طاهر أو مشكوك فيه ، وأما حديث أبي هريرة فرواه أبو داود من طرق كلها ضعيفة ولو صح لأجيب عنه بنحو ما سبق . وأما حديث { إذا ولغ الكلب } فالغسل فيه وفي غيره من الأحاديث المطلقة محمول على الغسل بالماء ; لأنه المعروف المعهود السابق إلى الفهم عند الإطلاق .

قال أصحابنا : ولا يعرف الغسل في اللغة بغير الماء ، وأما قياسهم على الماء فباطل ; لأنه يرفع الحدث بخلاف المائع ; ولأنه ينتقض بالدهن والمرق . وقياسهم على الطيب مردود من وجهين ( أحدهما ) : أن إزالة الطيب وغسله ليس واجبا ، بل الواجب إذهاب رائحته وإهلاكها ، بدليل أنه لو طلى عليه [ ص: 145 ] طينا أو غسله بدهن كفاه ( والثاني ) : أن النجاسة بطهارة الحدث أشبه من إزالة الطيب ، فإلحاق طهارة بطهارة أولى ، وأما قولهم : الحكم يتعلق بعين النجاسة فزال بزوالها فليس بلازم ، وينتقض بلحم الميتة إذا وقع في ماء قليل فينجسه ، وإذا زال لا يزول التنجيس .

وقولهم : الخل أبلغ ، غير مسلم ; لأن في الماء لطافة ورقة ليست في الخل وغيره ، ولو صح ما قالوه لكان إزالة النجاسة بالخل أفضل وأجمعنا بخلافه وأما قولهم : الدن يطهر بالخل فغير صحيح ، بل يطهر تبعا للخل للضرورة ، ولو كان الخل هو الذي طهره لنجس الخل ; لأن المائع إذا أزيلت به النجاسة تنجس عندهم ; ولأنه لو كان مطهرا لوجب أن تتقدم طهارته في نفسه ، ولو كان كذلك لم يطهر الخل لحصوله في محل نجس .

وأما نجاسة النجو فإذا استنجى بالأحجار عفي عما بقي للضرورة ، وهي رخصة ورد الشرع بها ، ولا خلاف أن المحل يبقى نجسا ، ولهذا لو انغمس في ماء قليل نجسه فلم تحصل إزالة نجاسة بغير الماء .

وأما مسألة الهرة ففيها ثلاثة أوجه لأصحابنا مذكورة بعد هذا . فإن قلنا : بطهارة ما ولغت فيه ، فليس هو لطهارة فمها بريقها ، بل ; لأنه لا يمكن الاحتراز منها فعفي عنها كأثر الاستنجاء .

وينبغي للناظر في هذا الكتاب أن لا يسأم من طول بعض المسائل ، فإنها لا تطول إن شاء الله تعالى إلا بفوائد وتمهيد قواعد ، ويحصل في ضمن ذكر مذاهب العلماء ودلائلها وأجوبتها فوائد مهمة نفيسة ، وتتضح المشكلات ، وتظهر المذاهب المرجوحة من الراجحة ، ويتدرب الناظر فيها بالسؤال والجواب ، ويتنقح ذهنه ، ويتميز عند أولي البصائر والألباب ، ويتعرف الأحاديث الصحيحة من الضعيفة ، والدلائل الراجحة من المرجوحة ، ويقوى للجمع بين الأحاديث التي تظن متعارضات ، ولا يخفى عليه بعد ذلك إلا إفراد نادرات وبالله التوفيق .

( فرع ) قال الشافعي في أول مختصر المزني : وما عدا الماء من ماء ورد أو شجر أو عرق لا تجوز الطهارة به ، واختلف أصحابنا في ضبط قوله : " عرق " [ ص: 146 ] فقيل : هو بفتح العين والراء وهو عرق الحيوان ، وقيل : بفتح العين وإسكان الراء وهو المعتصر من كرش البعير ، وقد نص على هذا في الأم وقيل : بكسر العين وإسكان الراء وهو عرق الشجر أي المعتصر منه والأول أصح ، والثالث ضعيف ; لأنه عطفه على الشجر والثاني فيه بعد ; لأنه نجس لا يخفى امتناع الطهارة به فلا يحتاج إلى بيان .

( فرع ) إذا أغلى مائعا فارتفع من غليانه بخار ، تولد منه رشح فليس بطهور بلا خلاف كالعرق ، ولو أغلي ماء مطلقا فتولد منه الرشح ، قال صاحب البحر : قال بعض أصحابنا بخراسان : لفظ الشافعي يقتضي أنه لا تجوز الطهارة به ; لأنه عرق ، قال الروياني : وهذا غير صحيح عندي ; لأن رشح الماء ماء حقيقة . وينقص منه بقدره فهو ماء مطلق فيتطهر به .

( قلت ) : الأصح جواز الطهارة به والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية