صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( وأول وقت العصر إذا صار ظل كل شيء مثله وزاد أدنى زيادة وآخره إذا صار ظل كل شيء مثليه ، لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { وصلى بي جبريل العصر حين صار ظل كل شيء مثل ظله ثم صلى بي المرة الأخيرة حين صار ظل كل شيء مثليه } ثم يذهب وقت الاختيار ويبقى وقت الجواز والأداء إلى غروب الشمس . [ ص: 30 ] وقال أبو سعيد الإصطخري إذا صار ظل كل شيء مثليه فأتت الصلاة ويكون ما بعده وقت القضاء ، والمذهب الأول لما روى أبو قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { ليس التفريط في النوم ، إنما التفريط في اليقظة أن تؤخر صلاة حتى يدخل وقت صلاة أخرى } )


( الشرح ) حديث ابن عباس صحيح سبق بيانه ، وحديث أبي قتادة صحيح أيضا رواه أبو داود بهذا اللفظ بإسناد صحيح على شرط مسلم ، وروى مسلم في صحيحه بمعناه قال : { ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الأخرى } واليقظة بفتح الياء والقاف ، وأبو قتادة اسمه الحارث بن ربعي وقيل النعمان بن ربعي ، وقيل عمرو بن ربعي والصحيح الأول ، وهو أنصاري سلمي بفتح السين واللام مدني ، يقال له : فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد أحدا والخندق وما بعدهما من المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم واختلف في شهوده بدرا . توفي بالمدينة سنة أربع وخمسين وهو ابن سبعين سنة رضي الله عنه .

( أما حكم المسألة ) فمذهبنا أنه يدخل وقت العصر إذا صار ظل كل شيء مثله غير الظل الذي يكون له عند الزوال ، وهو إذا انقضى وقت الظهر ولا اشتراك بينهما ولا فاصل بينهما هذا مذهبنا وسبق بيان مذاهب العلماء في ذلك . وأما قول المصنف " وزاد أدنى زيادة " فكذا نص عليه الشافعي في مختصر المزني ، وكذا ذكره الشيخ أبو حامد والماوردي والقاضي أبو الطيب والمحاملي وجماهير العراقيين والمتولي وآخرون من الخراسانيين . وقال صاحب الذخائر : اختلف أصحابنا في هذه الزيادة على ثلاثة أوجه ( أحدها ) أنها لبيان انتهاء الظل إلى المثل وإلا فالوقت قد دخل قبل حصول الزيادة بمجرد حصول المثل ، فعلى هذا تكون الزيادة من وقت العصر ( والثاني ) أنها من وقت الظهر وإنما تدخل العصر عقبها ، قال : وهذا ظاهر كلام الشافعي والعراقيين ، وعليه كثير من الأصحاب ، ( والثالث ) أنها ليست من وقت الظهر ولا من وقت العصر بل هي فاصل بين الوقت فهذا ما حكاه [ ص: 31 ] في الذخائر وهذا الثالث ليس بشيء لقوله صلى الله عليه وسلم " وقت العصر ما لم تحضر العصر فدل على أنه لا فاصل بينهما والأصح أنها من وقت العصر " وبه قطع القاضي حسين وآخرون ونقل الرافعي الاتفاق عليه .

وأما آخر وقت العصر فهو غروب الشمس ، هذا هو الصحيح الذي نص عليه الشافعي وقطع به جمهور الأصحاب ، وقال أبو سعيد الإصطخري آخره إذا صار ظل الشيء مثليه ، فإن أخر عن ذلك أثم وكانت قضاء ، قال الشيخ أبو حامد هذا الذي قاله الإصطخري لم يخرجه على أصل الشافعي ; لأن الشافعي نص في القديم والجديد أن وقتها يمتد حتى تغرب الشمس ، إنما هو اختيار لنفسه وهو خلاف نص الشافعي والأصحاب ، واستدل بحديث جبريل ، ودليل المذهب حديث أبي قتادة السابق وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر } رواه البخاري ومسلم وحديث أبي موسى الذي ذكرته في أول الباب عن صحيح مسلم { أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر العصر حتى انصرف منها والقائل يقول : قد احمرت الشمس } ، وأما حديث جبريل فإنما ذكر في وقت الاختيار لا وقت الجواز . بدليل الأحاديث الصحيحة التي ذكرتها . وهذا التأويل متعين للجمع بين الأحاديث ، ولأن هذه الأحاديث متأخرة عن حديث جبريل ، فيكون العمل عليها ، ولأنها أصح منه بلا خلاف بين أهل الحديث ، وإن كان هو أيضا صحيحا ، ولأن الحائض وغيرها من أهل الأعذار إذا زال عذرهم قبل غروب الشمس بركعة لزمتهم العصر بلا خلاف ، ولو كان الوقت قد خرج لم يلزم وهذا الإلزام حسن ذكره إمام الحرمين وغيره . وقد قال الغزالي في درسه : إن الإصطخري يحمل حديث من أدرك ركعة من العصر على أصحاب الأعذار .

( فرع ) قال القاضي حسين والصيدلاني وإمام الحرمين والروياني وغيرهم : للعصر خمسة أوقات : وقت فضيلة ، ووقت اختيار ، ووقت جواز بلا كراهة ، ووقت جواز وكراهة ، ووقت عذر . فالفضيلة من أول الوقت إلى أن يصير ظل الشخص مثله ونصف مثله ، ووقت الاختيار إلى أن يصير [ ص: 32 ] مثلين ، والجواز بلا كراهة إلى اصفرار الشمس ، والجواز مع الكراهة حال الاصفرار حتى تغرب ، والعذر وقت الظهر لمن جمع بسفر أو مطر . وقد نقل أبو عيسى الترمذي عن الشافعي وغيره من العلماء كراهة تأخير العصر ، ودليل الكراهة حديث أنس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { : تلك صلاة المنافقين ، يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقرها أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا } فرواه مسلم والله أعلم .

( فرع ) قد ذكرنا أن مذهبنا أن وقت الاختيار للعصر يمتد إلى مصير ظل كل شيء مثليه . وبه قال جماهير العلماء . وقال أبو حنيفة يمتد إلى اصفرار الشمس .

التالي السابق


الخدمات العلمية