صفحة جزء
قال المصنف - رحمه الله تعالى - ( وإن تغير أحد أوصافه من طعم أو لون أو رائحة نظرت ، فإن كان مما لا يمكن حفظ الماء منه كالطحلب وما يجري عليه الماء من الملح والنورة وغيرهما ; جاز الوضوء به ; لأنه لا يمكن صون الماء منه فعفي عنه كما عفي عن النجاسة اليسيرة والعمل القليل في الصلاة ، وإن كان مما يمكن حفظه منه نظرت ، فإن كان ملحا انعقد من الماء لم يمنع الطهارة به ; لأنه كان ماء في الأصل ، فهو كالثلج إذا ذاب فيه ، وإن كان ترابا طرح فيه لم يؤثر ; لأنه يوافق الماء في التطهير ، فهو كما لو طرح فيه ماء آخر فتغير به .

وإن كان شيئا سوى ذلك كالزعفران والتمر والدقيق والملح الجبلي والطحلب إذا أخذ ودق وطرح فيه وغير ذلك مما يستغني عنه الماء لم يجز الوضوء به ; لأنه زال عنه إطلاق اسم الماء بمخالطة ما ليس بمطهر ، والماء مستغن عنه فلم يجز الوضوء به كماء اللحم والباقلاء ) .


( الشرح ) أما قوله - أولا - : إذا تغير بما لا يمكن حفظه منه جاز الوضوء به ، فمجمع عليه ، ووجهه ما ذكره من تعذر الاحتراز ، ولو قال : جازت [ ص: 151 ] الطهارة لكان أعم وأحسن ، ولكن قد علم أنه لا فرق بين الوضوء وغيره من أنواع الطهارة في هذا . وأن ما لا يمنع الوضوء من هذا لا يمنع غيره منها ، وأما قوله : إن كان ملحا انعقد من الماء لم يمنع الطهارة ، ثم ذكر بعده في الملح الجبلي أنه يسلب الطهورية ، فهذا أحد أوجه ثلاثة لأصحابنا الخراسانيين ، وهو أصحها عند جمهورهم ، وبه قطع جمهور العراقيين .

( والثاني ) : يسلبان ( والثالث ) : لا يسلبان ، وممن ذكر الخلاف في المائي من العراقيين الماوردي والدارمي ، وممن ذكره في الجبلي الفوراني والغزالي والروياني ، ونقل الفوراني : أن اختيار القفال لا يسلبان ، وإنما ذكرت هذا : لأني رأيت بعض الكبار ينكر الخلاف في الجبلي ، وينسب الغزالي إلى التفرد به وكأنه اغتر بقول إمام الحرمين : الجبلي يقطع بأن يسلب ، ومن ظن فيه خلافا فهو غالط .

وأما قوله : وإن كان ترابا طرح فيه قصدا لم يؤثر ، فهذا هو المذهب الصحيح وبه قطع جماهير العراقيين وصححه الخراسانيون ، وذكروا وجها أنه يسلب وحكاه الماوردي من العراقيين قولا .

وأما قوله في التراب : لأنه يوافق الماء في التطهير ، فكذا قاله الجمهور وأنكره عليهم إمام الحرمين ، وقال : هذا من ركيك الكلام وإن ذكره طوائف ، فإن التراب غير مطهر ، وإنما علقت به إباحة بسبب ضرورة ، وهذا الإنكار باطل ، بل الصواب تسميته طهورا ، قال الله تعالى : { ولكن يريد ليطهركم } وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { وجعلت لنا الأرض مسجدا وطهورا } وفي رواية " وتربتها طهورا " ، وقد سبق بيان هذا الحديث ، ومذهبنا أن الطهور هو المطهر فثبت : أن التراب مطهر وإن لم يرفع الحدث ، وإطلاق اسم التطهير والطهور على التراب في السنة وكلام الشافعي والأصحاب أكثر من أن يحصر . وأما قوله : والطحلب إذا أخذ ودق وطرح فيه ، فإنما قال ( ودق ) ; لأنه إذا لم يدق فهو مجاور لا مخالط ، وهذا الذي ذكره من أنه إذا دق يسلب ، هو المذهب ، وبه قطع الجمهور .

وحكى الماوردي والروياني عن الشيخ أبي حامد أنه لا يسلب قالا : وهو غلط ، وقال صاحب البيان أبو الخير يحيى بن سالم [ ص: 152 ] وغيره في الطحلب المدقوق وورق الأشجار المدقوق وجهان ، حكاهما أبو علي في الإفصاح والشيخ أبو حامد .

وقال البغوي : الزرنيخ والنورة والحجر المسحوق والطحلب والعشب المدقوق إذا طرح في الماء هل يسلب ؟ فيه وجهان ، الصحيح : نعم لإمكان الاحتراز عنه ، ( والثاني ) : لا ; لأنه معفو عن أصله ، نص عليه الشافعي في رواية حرملة وهذا النص غريب ، والمشهور من النص ما سبق .

وأما قوله : زال عنه إطلاق اسم الماء . فاحتراز مما إذا لم يتغير به لقلته ، وقوله : بمخالطة . احتراز من المجاورة وقوله : ما ليس بمطهر احتراز من التراب ، وقوله : والماء مستغن عنه ، احتراز مما يجري عليه كالنورة ونحوها ، وقوله : كماء اللحم والباقلاء يعني مرقهما ، وإنما قاس عليهما ; لأن أبا حنيفة - رحمه الله تعالى - يخالفنا في المسألة ويوافق عليهما ، وأما قوله : تغير أحد أوصاف الماء من طعم أو رائحة أو لون ، وجعله أحد الأوصاف سالبا ، فهو المذهب الصحيح المشهور ، الذي قطع به الجمهور في الطرق ، ونص عليه الشافعي - رحمه الله - في البويطي والأم ، كذلك رأيته فيهما .

وحكى المتولي والروياني عن الشافعي أنه قال : لا يسلب إلا تغير الأوصاف الثلاثة وهو نص غريب ، وحكى الرافعي أن صاحب جمع الجوامع حكى قولين ( أحدهما ) وهو المشهور واختيار ابن سريج : أن أحد الأوصاف يسلب ( والثاني ) وهو رواية الربيع : أن اللون وحده يسلب والطعم مع الرائحة يسلب ، فإن انفرد أحدهما فلا ، وهذا أيضا غريب ضعيف ، وأما صفة التغير ، فإن كان تغيرا كثيرا ، سلب قطعا ، وإن كان يسيرا بأن وقع فيه قليل زعفران فاصفر قليلا أو صابون أو دقيق فابيض قليلا بحيث لا يضاف إليه فوجهان ، الصحيح منهما : أنه طهور ، صححه الخراسانيون ، وهو المختار ( والثاني ) : ليس بطهور ، نقله إمام الحرمين وغيره عن العراقيين والقفال ، ووجهه القياس على النجاسة ، فلا فرق فيها بين التغير الكثير واليسير ، ويجاب عن هذا المذهب المختار : بأن باب النجاسة أغلظ ، ( وأما ألفاظ الفصل ) فالطحلب بضم الطاء وضم اللام وفتحها لغتان مشهورتان ، والنورة بضم النون حجارة رخوة فيها خطوط بيض يجري عليها [ ص: 153 ] الماء فتنحل ، وفي الباقلاء لغتان إحداهما : تشديد اللام مع القصر ويكتب بالياء ، والثانية : تخفيف اللام مع المد ويكتب بألف ، والله أعلم .

( فرع ) هذا الذي ذكرناه من منع الطهارة بالمتغير ( بمخالطة ما ليس بمطهر ، والماء يستغني عنه ) هو مذهبنا ، ومذهب مالك وداود ، وكذا أحمد في أصح الروايتين .

وقال أبو حنيفة : يجوز بالمتغير بالزعفران وكل طاهر ، سواء قل التغير أو كثر بشرط كونه يجري لا ثخينا إلا مرقة اللحم ومرقة الباقلاء ، ولهذا رد المصنف عليهم بقوله كماء اللحم والباقلاء ، وهذه عادة المصنف يشير إلى إلزام المخالف بما يوافق عليه فتفطن لذلك .

وحكى القاضي حسين في تعليقه قولا للشافعي كمذهب أبي حنيفة ، وهذا غريب جدا وضعيف ، واحتج لأبي حنيفة بالقياس على الطحلب وشبهه ، واحتج أصحابنا بالقياس الذي ذكره المصنف واعتمدوه ، فإن قالوا : إنما لم تجز الطهارة بماء الباقلاء ; لأنه صار أدما ، فالجواب من وجهين ( أحدهما ) : لا تأثير لكونه أدما ; لأن الماء لو طبخ فيه حنظل وغيره لم يجز التطهر به بالاتفاق وإن لم يصر أدما ، فدل أنه لا أثر للأدمية ، وإنما الاعتبار بزوال إطلاق اسم الماء ( والثاني ) : أن هذا المعنى موجود في ماء الزعفران ، فإنه صار صبغا وطيبا ويحرم على المحرم مسه ، ويلزمه به الفدية .

وأما قياسهم على الطحلب فضعيف ; لأن الطحلب تدعو الحاجة إليه ولا يمكن الاحتراز عنه بخلاف ما نحن فيه والله أعلم .

( فرع ) قال أصحابنا - صاحب الحاوي وغيره - : سواء في مخالطة الطاهر للماء كان الماء قلتين أو أكثر ، والحكم في كل ذاك واحد على ما سبق .

( فرع ) قال إمام الحرمين : إن اعترض متكلف من أهل الكلام على الفقهاء في فرقهم بين المجاورة والمخالطة فزعم : أن الزعفران ملاقاته أيضا مجاورة ، فإن تداخل الأجرام محال قلنا له : مدارك الأحكام التكليفية لا تؤخذ من هذه المآخذ ، بل تؤخذ مما يتناوله أفهام الناس ، لا سيما فيما بني الأمر فيه على معنى ، ولا شك أن أرباب اللسان لغة وشرعا قسموا التغير إلى [ ص: 154 ] مجاورة ومخالطة ، وإن كان ما يسمى مخالطة عند الإطلاق مجاورة في الحقيقة ، فالنظر إلى تصرف اللسان .

( فرع ) حلف لا يشرب ماء فشرب ماء متغيرا بزعفران ونحوه لم يحنث ، وإن وكل من يشتري له ماء فاشتراه لم يقع الشراء للموكل ; لأن الاسم لا يقع عليه عند الإطلاق ، ذكره صاحب البيان

التالي السابق


الخدمات العلمية