صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( وهل يسن للفوائت ؟ فيه ثلاثة أقوال قال في الأم : يقيم لها ولا يؤذن والدليل عليه ما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال : { حبسنا يوم الخندق حتى ذهب هوي من الليل حتى كفينا وذلك قول الله عز وجل : { وكفى الله المؤمنين القتال } فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا فأمره فأقام الظهر فصلاها وأحسن ، كما تصلى في وقتها ثم أقام العصر فصلاها كذلك ثم أقام المغرب فصلاها كذلك ثم أقام العشاء فصلاها كذلك ، } ولأن الأذان للإعلام بالوقت وقد فات الوقت ، والإقامة [ تراد ] لاستفتاح الصلاة وذلك موجود ، وقال في القديم : يؤذن ويقيم للأولى وحدها ويقيم للتي بعدها والدليل عليه ما روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : { أن المشركين شغلوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أربع صلوات حتى ذهب من الليل ما شاء الله [ ص: 91 ] فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالا فأذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ثم أقام فصلى المغرب ثم أقام فصلى العشاء } ولأنهما صلاتان جمعهما وقت واحد فكانتا بأذان وإقامتين كالمغرب والعشاء بالمزدلفة فإن النبي صلى الله عليه وسلم صلاهما بأذان وإقامتين كالمغرب وقال في الإملاء : إن أمل اجتماع الناس أذن وأقام ، وإن لم يؤمل أقام ، والدليل عليه أن الأذان يراد لجمع الناس ، فإذا لم يؤمل الجمع لم يكن للأذان وجه وإذا أمل كان له وجه . قال أبو إسحاق وعلى هذا القول للصلاة الحاضرة أيضا إذا أمل الاجتماع لها أذن وأقام وإن لم يؤمل أقام ولم يؤذن ) .


( الشرح ) حديث أبي سعيد رضي الله عنه صحيح رواه الإمامان أبو عبد الله الشافعي وأحمد بن حنبل في مسنديهما بلفظه هنا بإسناد صحيح ، ورواه النسائي لكن لم يذكر المغرب والعشاء ، وإسناده صحيح أيضا ، وحديث ابن مسعود رضي الله عنه مرسل فإنه من رواية ابنه أبي عبيدة عنه وابنه لم يسمع منه لصغره وقد سبق بيان هذا في آخر باب مواقيت الصلاة . وحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع المغرب والعشاء بالمزدلفة بأذان وإقامتين صحيح رواه مسلم من رواية جابر ، ويوم الخندق : هو يوم الأحزاب وكان ذلك سنة أربع من الهجرة ، وقيل سنة خمس ، وحديث ابن مسعود كان يوم الخندق أيضا وهو مخالف لحديث أبي سعيد ، ويجاب عن اختلافهما بأنهما قضيتان جرتا في أيام الخندق ، فإن أيام الخندق كانت خمسة عشر يوما وكان فوات هذه الصلوات للاشتغال بالقتال وكان ذلك قبل نزول صلاة الخوف كذا صرح به في رواية الشافعي وأحمد وغيرهما .

وقوله : ذهب هوي من الليل هو بفتح الهاء وكسر الواو وتشديد الياء ، ويقال أيضا بضم الهاء حكاهما صاحب مطالع الأنوار وغيره ، لكن الفتح هو المشهور الأفصح ومعناه طائفة منه . ( أما حكم المسألة ) فإذا أراد قضاء فوائت دفعة واحدة أقام لكل واحدة بلا خلاف ، ولا خلاف أنه لا يؤذن لغير الأولى منهن ، وهل يؤذن للأولى ؟ فيه الأقوال الثلاثة التي ذكرها المصنف بدلائلها . أصحها عند جمهور الأصحاب يؤذن ، ممن صححه الشيخ أبو حامد في تعليقه والمحاملي في [ ص: 92 ] كتابيه المجموع والتجريد وقطع به في المقنع وصححه المصنف في التنبيه ، وصاحب الإبانة والشيخ نصر ، والروياني في الحلية وقطع به سليم الرازي في الكفاية وصححه في رءوس المسائل فهذا هو الصحيح الذي جاءت به الأحاديث الصحيحة ، ولا يغتر بتصحيح الرافعي وغيره منع الأذان ولو أراد قضاء فائتة وحدها أقام لها

وفي الأذان هذه الأقوال أصحها يؤذن قال أصحابنا : الأذان في الجديد حق الوقت وفي القديم حق الفريضة وفي الإملاء حق الجماعة ولو أراد قضاء الفوائت متفرقات كل واحدة في وقت ففي الأذان لكل واحدة الأقوال الثلاثة أصحها يؤذن ، ولو قضى فائتة في جماعة جاء القولان الجديد والقديم دون نص الإملاء ولو والى بين فريضة الوقت ومقضية فإن قدم فريضة الوقت أذن لها وأقام للمقضية ولم يؤذن وإن قدم المقضية أقام لها ، وفي الأذان لها الأقوال الثلاثة . وأما فريضة الوقت فقال الفوراني وإمام الحرمين إن قلنا يؤذن للمقضية لم يؤذن لها وإلا أذن وقطع السرخسي في الأمالي بأنه يؤذن لها وقطع المتولي والبغوي وصاحب العدة بأنه لا يؤذن لها ، والأصح أنه لا يؤذن لفريضة الوقت إلا أن يؤخرها عن المقضية بحيث يطول الفصل بينهما فإنه حينئذ يؤذن لفريضة الوقت بلا خلاف .

واعلم أنه لا يشرع توالي أذانين إلا في صورتين ( إحداهما ) : إذا أخروا المؤداة إلى آخر وقتها فأذنوا لها وصلوا ثم دخلت فريضة أخرى فيؤذن لها قطعا ( الثانية ) إذا صلى فائتة قبيل الزوال مثلا وأذن لها على قولنا يشرع الأذان لها فلما فرغ من الصلاة دخلت الظهر فيؤذن ولم يستثن إمام الحرمين غير هذه الصورة الثانية ولا بد من استثناء الأولى أيضا والله أعلم . ( فرع ) في مذاهب العلماء في الأذان للفائتة : قد ذكر أن الأصح عندنا أنه مشروع لها ، قال الشيخ أبو حامد وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد وأبي ثور وقال الأوزاعي وإسحاق : لا يؤذن قال أبو حامد وقال أبو حنيفة إذا أراد فوائت أذن لكل واحدة دليلنا أنه لا يشرع زيادة على أذان للأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم السابقة أنه لم يوال بين أذانين .

[ ص: 93 ] فرع ) المنفرد في صحراء أو بلد يؤذن على المذهب والمنصوص في الجديد والقديم لإطلاق الأحاديث وفيه قول مخرج أنه لا يؤذن ، ووجه خرجه أبو إسحاق المروزي من نصه في الإملاء إن رجا حضور جماعة أذن وإلا فلا . هذا كله إذا لم يبلغ المنفرد أذان غيره فإن بلغه فطريقان ( أحدهما ) أنه كما لو لم يبلغه فيكون فيه الخلاف وبهذا الطريق قطع الماوردي والبندنيجي قال البندنيجي القول الجديد يؤذن والقديم لا ( والطريق الثاني ) لا يؤذن ; لأن مقصود الأذان حصل بأذان غيره فإن قلنا : يؤذن أقام ، وإن قلنا لا يؤذن فهل يقيم ؟ فيه طريقان : الصحيح وبه قطع الجمهور : يقيم ( والثاني ) حكاه جماعة من الخراسانيين وفيه وجهان ، وهذا غلط . وإذا قلنا : يؤذن فهل يرفع صوته ؟ نظر إن صلى في مسجد قد صليت فيه جماعة لم يرفع لئلا يوهم دخول وقت صلاة أخرى ، نص عليه في الأم واتفقوا عليه ، وإن لم يكن كذلك فوجهان الأصح : يرفع لعموم الأحاديث في رفع الصوت بالأذان والثاني إن رجا جماعة رفع وإلا فلا . ولو أقيمت جماعة في مسجد فحضر قوم لم يصلوا ، فهل يسن لهم الأذان ؟ قولان الصحيح نعم وبه قطع البغوي وغيره ، ولا يرفع الصوت لخوف اللبس سواء كان المسجد مطروقا أو غير مطروق . قال إمام الحرمين حيث قلنا في الجماعة الثانية في المسجد الذي أذن فيه مؤذن وصليت فيه جماعة لا يرفع الصوت لا نعني به أنه يحرم الرفع ، بل نعني به أن الأولى أن لا يرفع . وإذا قلنا : المنفرد لا يرفع صوته فلا نعني به أن الأولى أن لا يرفع صوته ، فإن الرفع أولى في حقه ولكن نعني أنه يعتد بأذانه وإن لم يرفع ، هكذا قاله إمام الحرمين فعنده أن الخلاف في رفع المنفرد صوته هو في أنه هل يعتد بأذانه بلا رفع أم لا ؟ والذي قاله الجمهور أنه يعتد به بلا رفع بلا خلاف وإنما الخلاف في استحباب الرفع ، قالوا : فيكفي أن يسمع نفسه وشرط إمام الحرمين أن يسمع من هو عنده ، قال الشافعي في الأم : وأذان الرجل في بيته وإقامته كهما في غير بيته ، سواء سمع المؤذنين حوله أم لا . هذا نصه ، وتابعه الشيخ أبو حامد وغيره والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية