صفحة جزء
قال المصنف - رحمه الله - : ( وإن لم يتغير نظرت ، فإن كان الماء دون القلتين ; فهو نجس ، وإن كان قلتين فصاعدا فهو طاهر لقوله صلى الله عليه وسلم : { إذا كان الماء قلتين فإنه لا يحمل الخبث } ; ولأن القليل يمكن حفظه من النجاسة في الظروف ، والكثير لا يمكن حفظه من النجاسة فجعل القلتان حدا فاصلا بينهما ) .


[ ص: 162 ] ( الشرح ) هذا الحديث حديث حسن ثابت من رواية عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ، رواه أبو عبد الله الشافعي وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه في سننهم وأبو عبد الله الحاكم في المستدرك على الصحيحين قال الحاكم : هو حديث صحيح على شرط البخاري ومسلم ، وجاء في رواية لأبي داود وغيره : { إذا كان الماء قلتين لم ينجس } قال البيهقي وغيره : إسناد هذه الرواية إسناد صحيح ، والخبث بفتح الخاء والباء . ومعناه هنا : لم ينجس كما جاء في الرواية الأخرى ، وقوله : قلتين فصاعدا ، معناه فأكثر وهو منصوب على الحال . وأما حكم المسألة : وهي إذا وقع في الماء الراكد نجاسة ولم تغيره ، فحكى ابن المنذر وغيره فيها سبعة مذاهب للعلماء ( أحدها ) : إن كان قلتين فأكثر لم ينجس ، وإن كان دون قلتين نجس ، وهذا مذهبنا ومذهب ابن عمر وسعيد بن جبير ومجاهد وأحمد وأبي عبيد وإسحاق بن راهويه .

( الثاني ) : أنه إن بلغ أربعين قلة لم ينجسه شيء ، حكوه عن عبد الله بن عمرو بن العاص ومحمد بن المنكدر ( الثالث ) : إن كان كرا لم ينجسه شيء . وروي عن مسروق وابن سيرين ( والرابع ) : إذا بلغ ذنوبين لم ينجس ، روي عن ابن عباس في رواية ، وقال عكرمة : ذنوبا أو ذنوبين ( الخامس ) : إن كان أربعين دلوا لم ينجس روي عن أبي هريرة ( السادس ) : إذا كان بحيث لو حرك جانبه ، تحرك الجانب الآخر نجس ، وإلا فلا ، وهو مذهب أبي حنيفة .

( والسابع ) : [ ص: 163 ] لا ينجس كثير الماء ولا قليله إلا بالتغير ، حكوه عن ابن عباس وابن المسيب والحسن البصري وعكرمة وسعيد بن جبير وعطاء وعبد الرحمن بن أبي ليلى وجابر بن زيد ويحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي .

قال أصحابنا : وهو مذهب مالك والأوزاعي وسفيان الثوري وداود ونقلوه عن أبي هريرة والنخعي ، قال ابن المنذر : وبهذا المذهب أقول ، واختاره الغزالي في الإحياء واختاره الروياني في كتابيه البحر والحلية قال في البحر : " هو اختياري واختيار جماعة رأيتهم بخراسان والعراق " وهذا المذهب أصحها بعد مذهبنا .

واحتج لأبي حنيفة بأشياء ليس في شيء منها دلالة ، لكني أذكرها لبيان جوابها إن أوردت على ضعيف المرتبة ، منها قوله صلى الله عليه وسلم : { لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه } حديث صحيح متفق على صحته ، رواه البخاري ومسلم قالوا : وروي أن زنجيا مات في زمزم فأمر ابن عباس بنزحها ، ومعلوم أن ماء زمزم يزيد على قلتين ; ولأنه مائع ينجس بورود النجاسة عليه إذا قل ، فكذا إذا كثر كسائر المائعات ; ولأنه تيقن حصول نجاسة فيه فهو كالقليل .

واحتج أصحابنا على أبي حنيفة بحديث ابن عمر المذكور في الكتاب : { إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا } ، وفي رواية " لم ينجس " وهما صحيحان كما سبق ، وبحديث أبي سعيد الخدري في وضوء النبي صلى الله عليه وسلم من بئر بضاعة ، وكانت يلقى فيها لحوم الكلاب وخرق الحيض ، كما سبق بيانه في أول كتاب الطهارة وسبق : أنه حديث صحيح وهذه البئر كانت صغيرة كما سبق بيانها ، وهم لا يجيزون الوضوء من مثلها ، قال أصحاب أبي حنيفة : إنما توضأ منها ; لأنها كانت جارية ، قال الواقدي : كان يسقى منها الزرع والبساتين ، وكذا قاله الطحاوي ونقله عن الواقدي .

قال أصحابنا : هذا غلط ولم تكن بئر بضاعة جارية بل كانت واقفة ; لأن العلماء ضبطوا بئر بضاعة وعرفوها في كتب مكة والمدينة ، وأن الماء لم يكن يجري ، وقد قدمنا بيان هذا في أول الكتاب عند ذكر حديث بئر بضاعة ، وذكرنا ما رواه أبو داود عن قتيبة وما وصفه هو .

[ ص: 164 ] قال أصحابنا : ما نقلوه عن الواقدي مردود ; لأن الواقدي - رحمه الله - ضعيف عند أهل الحديث وغيرهم لا يحتج برواياته المتصلة ، فكيف بما يرسله أو يقوله عن نفسه ، قالوا : ولو صح أنه كان يسقى منها الزرع ، لكان معناه أنه يسقى منها بالدلو والناضح عملا بما نقله الأثبات في صفتها .

قال أصحابنا : وعمدتنا حديث القلتين ، فإن قالوا : هو مضطرب ; لأن الوليد بن كثير رواه تارة عن محمد بن عباد عن جعفر ، وتارة عن محمد بن جعفر بن الزبير ، وروي تارة عن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب عن أبيه ، وتارة عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه ، وهذا اضطراب ثان . فالجواب : أن هذا ليس اضطرابا ، بل رواه محمد بن عباد ومحمد بن جعفر وهما ثقتان معروفان ، ورواه أيضا عبد الله وعبيد الله ابنا عبد الله بن عمر عن أبيهما ، وهما أيضا ثقتان ، وليس هذا من الاضطراب ، وبهذا الجواب أجاب أصحابنا وجماعات من حفاظ الحديث ، وقد جمع البيهقي طرقه وبين رواية المحمدين وعبد الله وعبيد الله ، وذكر طرق ذلك كله وبينها أحسن بيان ، ثم قال : فالحديث محفوظ عن عبد الله وعبيد الله ، قال : وكذا كان شيخنا أبو عبد الله الحافظ الحاكم يقول : الحديث محفوظ عنهما وكلاهما رواه عن أبيه ، قال : وإلى هذا ذهب كثير من أهل الرواية ، وكان إسحاق بن راهويه يقول : غلط أبو أسامة في عبد الله بن عبد الله إنما هو عبيد الله بن عبد الله بالتصغير .

وأطنب البيهقي في تصحيح الحديث بدلائله فحصل أنه غير مضطرب ، قال الخطابي : ويكفي شاهدا على صحته أن نجوم أهل الحديث صححوه وقالوا به واعتمدوه في تحديد الماء ، وهم القدوة وعليهما المعول في هذا الباب .

فممن ذهب إليه الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد ومحمد بن إسحاق وابن خزيمة وغيرهم .

( قلت ) : وقد سلم أبو جعفر الطحاوي إمام أصحاب أبي حنيفة في الحديث والذاب عنهم بصحة هذا الحديث ، لكنه دفعه واعتذر عنه بما ليس بدافع ولا عذر فقال : هو حديث صحيح لكن تركناه ; لأنه روى قلتين أو ثلاثا ; ولأنا لا نعلم قدر القلتين فأجاب أصحابنا : بأن الرواية الصحيحة المعروفة المشهورة قلتين ، ورواية الشك شاذة غريبة فهي متروكة فوجودها كعدمها .

وأما قولهم : [ ص: 165 ] لا نعلم قدر القلتين فالمراد : قلال هجر كما رواه ابن جريج ، وقلال هجر كانت معروفة عندهم مشهورة يدل عليه حديث أبي ذر في الصحيحين : أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم عن ليلة الإسراء فقال : { رفعت إلى سدرة المنتهى ، فإذا ورقها مثل آذان الفيلة ، وإذا نبقها مثل قلال هجر } فعلم بهذا : أن القلال معلومة عندهم مشهورة ، وكيف يظن أنه صلى الله عليه وسلم يحدد لهم أو يمثل بما لا يعلمونه ولا يهتدون إليه ؟ فإن قالوا : روي أربعين قلة ، وروي أربعين غربا ، وهذا يخالف حديث القلتين فالجواب : أن هذا لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما نقل أربعين قلة عن عبد الله بن عمرو بن العاص وأربعين غربا أي دلوا عن أبي هريرة كما سبق ، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم مقدم على غيره ، فهذا ما نعتمده في الجواب .

وأجاب أصحابنا أيضا : بأنه ليس مخالفا ، بل يحمل ، على أن تلك الأربعين صغار تبلغ قلتين بقلال هجر فقط ، فإن قالوا : يحمل على الجاري فالجواب : أن الحديث عام يتناول الجاري والراكد ، فلا يصح تخصيصه بلا دليل ; ولأن توقيته بقلتين يمنع حمله على الجاري عندهم ، فإن قالوا : لا يصح التمسك به ; لأنه متروك بالإجماع في المتغير بنجاسة ، فالجواب : أنه عام خص في بعضه ، فبقي الباقي على عمومه كما هو المختار في الأصول ، فإن قالوا : قد روى ابن علية هذا الحديث موقوفا على ابن عمر ، فالجواب : أنه صح موصولا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من طرق الثقات ، فلا يضر تفرد واحد لم يحفظه توقفه ، وقد روى البيهقي وغيره بالإسناد الصحيح عن يحيى بن معين إمام هذا الشأن : أنه سئل عن هذا الحديث فقال : جيد الإسناد ، قيل له : فإن ابن علية لم يدفعه ، قال يحيى : وإن لم يحفظه ابن علية فالحديث جيد الإسناد .

فإن قالوا : إنما لم يحمل خبثا لضعفه عنه وهذا يدل على نجاسته ، فالجواب : ما قال أصحابنا وأهل الحديث وغيرهم إن هذا جهل بمعاني الكلام وبطرق الحديث ، أما جهل قائله بطرق الحديث ففي رواية صحيحة لأبي داود : { إذا بلغ الماء قلتين لم ينجس } وقد سبق بيانها ، فإذا ثبتت هذه الرواية تعين حمل الأخرى عليها وأن معنى : " لم يحمل خبثا " : لم [ ص: 166 ] ينجس ، وقد قال العلماء : أحسن تفسير غريب الحديث أن يفسر بما جاء في رواية أخرى لذلك الحديث ، وأما جهله بمعاني الكلام فبيانه من وجهين ( أحدهما ) : أنه صلى الله عليه وسلم جعل القلتين حدا ، فلو كان كما زعم هذا القائل لكان التقييد بذلك باطلا ، فإن ما دون القلتين يساوي القلتين في هذا ( والثاني ) : أن الحمل ضربان حمل جسم وحمل معنى ، فإذا قيل في حمل الجسم : فلان لا يحمل الخشبة مثلا فمعناه : لا يطيق ذلك لثقله ، وإذا قيل في حمل المعنى : فلان لا يحمل الضيم فمعناه : لا يقبله ولا يلتزمه ولا يصبر عليه ; قال الله تعالى : { مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها } معناه : لم يقبلوا أحكامها ولم يلتزموها ، والماء من هذا الضرب ، لا يتشكك في هذا من له أدنى فهم ومعرفة والله أعلم .

واحتج أصحابنا من جهة الاعتبار والاستدلال بأشياء ( أحدها ) وهو العمدة على ما قاله الشيخ أبو حامد : أن الأصول مبنية على أن النجاسة إذا صعبت إزالتها ، وشق الاحتراز منها عفي عنها كدم البراغيث ، وموضع النجو وسلس البول والاستحاضة ، وإذا لم يشق الاحتراز لم يعف كغير الدم من النجاسات ومعلوم : أن قليل الماء لا يشق حفظه ، وكثيره يشق ، فعفي عما شق دون غيره ، وضبط الشرع حد القلة بقلتين فتعين اعتماده ، ولا يجوز لمن بلغه الحديث العدول عنه .

قال أصحابنا : ولهذا ينجس المائع ، وإن كثر بملاقاة النجاسة ; لأنه لا مشقة في حفظه والعادة جارية به وذكروا دلائل كثيرة وفيما ذكرناه كفاية . والجواب عما احتجوا به من حديث : { لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه } من وجهين ( أحدهما ) : أنه عام مخصوص بحديث القلتين ( والثاني ) وهو الأظهر : أنه نهي تنزيه فيكره كراهة شديدة ولا يحرم . وسبب الكراهة : الاستقذار لا النجاسة ; ولأنه يؤدي إلى كثرة البول وتغير الماء به ، وأما قولهم : إن زنجيا مات في زمزم فنزحها ابن عباس فجوابه من ثلاثة [ ص: 167 ] أوجه أجاب بها الشافعي ثم الأصحاب أحسنها : أن هذا الذي زعموه باطل لا أصل له ، قال الشافعي : لقيت جماعة من شيوخ مكة فسألتهم عن هذا فقالوا : ما سمعنا هذا . وروى البيهقي وغيره عن سفيان بن عيينة إمام أهل مكة قال : إنا بمكة منذ سبعين سنة لم أر أحدا ، لا صغيرا ولا كبيرا يعرف حديث الزنجي الذي يقولونه ، وما سمعت أحدا يقول : نزحت زمزم ، فهذا سفيان كبير أهل مكة قد لقي خلائق من أصحاب ابن عباس وسمعهم ، فكيف يتوهم بعد هذا صحة هذه القضية التي من شأنها إذا وقعت أن تشيع في الناس لا سيما أهل مكة لا سيما أصحاب ابن عباس وحاضروها ؟ وكيف يصل هذا إلى أهل الكوفة ويجهله أهل مكة ؟ وقد روى البيهقي هذا عن ابن عباس من أوجه كلها ضعيفة لا يلتفت إليها .

( الثاني ) : لو صح لحمل على أن دمه غلب على الماء فغيره ( الثالث ) : فعله استحبابا وتنظفا ، فإن النفس تعافه والمشهور عن ابن عباس : أن الماء لا يتنجس إلا بالتغير كما نقله ابن المنذر وغيره ، وقد سبق بيانه ، وأما قياسهم على المائع فجوابه من أوجه ( أحدها ) : أنه قياس يخالف السنة فلا يلتفت إليه ( الثاني ) : أنه لا يشق حفظ المائع وإن كثر ، بل العادة حفظه وقد سبق بيان هذا ( الثالث ) : أن للماء قوة في دفع النجس بالإجماع وهو إذا كان بحيث لا يتحرك طرفه الآخر بخلاف المائع ( الرابع ) : للماء قوة رفع الحدث فكذا له دفع النجس بخلاف المائع ، وأما قياسهم على الماء القليل فجوابه ظاهر مما ذكرناه .

قال أصحابنا : اعتبروا حدا واعتبرنا حدا ، وحدنا ما حده رسول الله الذي أوجب الله تعالى طاعته وحرم مخالفته ، وحدهم مخالف حده صلى الله عليه وسلم مع أنه حد بما لا أصل له ، وهو أيضا حد لا ضبط فيه فإنه يختلف بضيق موضع الماء وسعته ، وقد يضيق موضع الماء الكثير لعمقه ويتسع موضع القليل لعدم عمقه ، فهذا ما يتعلق بالخلاف بيننا وبين أبي حنيفة - رحمه الله - .

وأما مالك وموافقوه فاحتج لهم بقوله : صلى الله عليه وسلم { الماء طهور لا ينجسه شيء } وهو حديث صحيح كما سبق وبالقياس على القلتين ، وعلى ما إذا ورد الماء على النجاسة . [ ص: 168 ] واحتج أصحابنا عليهم بحديث القلتين ، وقد وافقنا مالك - رحمه الله - على القول بدليل الخطاب وبحديث أبي هريرة : رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ، فإنه لا يدري أين باتت يده } رواه البخاري ومسلم فنهاه صلى الله عليه وسلم عن غمس يده وعلله بخشية النجاسة ، ويعلم بالضرورة : أن النجاسة التي قد تكون على يده وتخفى عليه لا تغير الماء ، فلولا تنجيسه بحلول نجاسة لم تغيره لم ينهه ، وبحديث أبي هريرة أيضا : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا } رواه البخاري ومسلم ، وفي رواية لمسلم : { فليرقه ثم ليغسله سبع مرات } فالأمر بالإراقة والغسل دليل النجاسة ، وبحديث أبي قتادة : رضي الله عنه { أنه كان يتوضأ فجاءت هرة فأصغى لها الإناء فشربت فتعجب منه فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات } حديث صحيح رواه مالك في الموطأ وأبو داود والترمذي وغيرهم قال الترمذي : حديث حسن صحيح ، وفيه دلالة ظاهرة : أن النجاسة إذا وردت على الماء نجسته ، واحتجوا بغير ذلك من الأحاديث . ومن حيث الاستدلال ما سبق مع أبي حنيفة : في أن النجاسة التي يشق الاحتراز منها يعفى عنها وما لا فلا ، وهذا يقتضي الفرق بين القليل والكثير وضبط الشرع بقلتين ، قال إمام الحرمين : ولأنه لا يشك منصف أن السلف لو رأوا رطل ماء أصابه قطرات بول أو خمر لم يجيزوا الوضوء به .

وأما الجواب عن الحديث الذي احتجوا به فهو : أنه محمول على قلتين فأكثر فإنه عام وخبرنا خاص ، فوجب تقديمه جمعا بين الحديثين ، والجواب عن قياسهم على ما إذا ورد الماء على النجاسة من وجهين ( أحدهما ) من حيث النص : وهو أنه صلى الله عليه وسلم فرق بينهما وذلك في حديثين أحدهما : حديث { إذا استيقظ أحدكم } فمنع صلى الله عليه وسلم من إيراد اليد على الماء ، وأمر بإيراده عليها ففرق بينهما ( والثاني ) : أنه صلى الله عليه وسلم أمر بإراقة ما ولغ فيه الكلب لورود النجاسة ، وأمر بإيراد الماء على الإناء . فإن قالوا : الكلب طاهر عندنا ، قلنا : سنوضح الدلائل على نجاسته [ ص: 169 ] في بابه إن شاء الله تعالى ، والجواب الثاني من حيث المعنى : وهو أنا إذا نجسنا دون القلتين بورود النجاسة لم يشق لإمكان الاحتراز منها ، ولو نجسنا دون القلتين بوروده نجاسة لشق وأدى إلى أن لا يطهر شيء حتى يغمس في قلتين ، وفي ذلك أشد الحرج فسقط والله أعلم .

واعلم أنه حصل في هذه المسألة جملة من الأحاديث ذكرناها وبجميعها يقول الشافعي رحمه الله على حسب ما سبق ، ولم يرد منها شيئا ، وهذه عادته رحمه الله في تمسكه بالسنة وجمعه بين أطرافها ورده بعضها إلى بعض على أحسن الوجوه ، وسترى إن شاء الله تعالى في هذا الكتاب في نظائر هذه من مسائل الخلاف وغيرها ، من ذلك ما تقر به عينك ، وتزداد اعتقادا في الشافعي ومذهبه ، فليس الخبر الجملي كالعيان التفصيلي ، وبالله التوفيق .

( فرع ) نقل أصحابنا عن داود بن علي الظاهري الأصبهاني رحمه الله مذهبا عجيبا فقالوا : انفرد داود بأن قال : لو بال رجل في ماء راكد لم يجز أن يتوضأ هو منه لقوله صلى الله عليه وسلم : { لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه } ، وهو حديث صحيح سبق بيانه قال : ويجوز لغيره ; لأنه ليس بنجس عنده ، ولو بال في إناء ، ثم صبه في ماء ، أو بال في شط نهر ، ثم جرى البول إلى النهر قال : يجوز أن يتوضأ هو منه ; لأنه ما بال فيه ، بل في غيره .

قال : ولو تغوط في ماء جاز أن يتوضأ منه ; لأنه تغوط ولم يبل ، وهذا مذهب عجيب وفي غاية الفساد ، فهو أشنع ما نقل عنه إن صح عنه رحمه الله ، وفساده مغن عن الاحتجاج عليه ، ولهذا أعرض جماعة من أصحابنا المعتنين بذكر الخلاف عن الرد عليه بعد حكايتهم مذهبه وقالوا : فساده مغن عن إفساده ، وقد خرق الإجماع في قوله في الغائط ، إذ لم يفرق أحد بينه وبين البول ، ثم فرقه بين البول في نفس الماء والبول في إناء ، ثم يصب في الماء من أعجب الأشياء .

ومن أخصر ما يرد به عليه : أن النبي صلى الله عليه وسلم نبه بالبول على ما في معناه من التغوط وبول غيره كما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال في الفأرة تموت في السمن : { إن كان جامدا فألقوها وما حولها ، } وأجمعوا : أن [ ص: 170 ] السنور كالفأرة في ذلك ، وغير السمن من الدهن كالسمن ، وفي الصحيح { إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله } فلو أمر غيره فغسله إن قال داود : لا يطهر لكونه ما غسله هو ، خرق الإجماع ، وإن قال : يطهر فقد نظر إلى المعنى وناقض قوله ، والله أعلم

التالي السابق


الخدمات العلمية