صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى : ( فإن دخل البيت وصلى فيه جاز ; لأنه متوجه إلى جزء من البيت ، والأفضل أن يصلي النفل في البيت لقوله صلى الله عليه وسلم { : صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام } والأفضل أن يصلي الفرض خارج البيت ; لأنه يكثر [ فيه ] الجمع فكان أعظم للأجر ) .


( الشرح ) حديث { صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام } رواه البخاري ومسلم من رواية أبي هريرة فيجوز عندنا أن يصلي في الكعبة الفرض والنفل وبه قال أبو حنيفة والثوري وجمهور العلماء ، وقال محمد بن جرير : لا يجوز الفرض ولا النفل ، وبه قال أصبغ بن الفرج المالكي وجماعة من الظاهرية وحكي عن ابن عباس وقال مالك وأحمد : يجوز النفل المطلق دون الفرض والوتر ، دليلنا حديث بلال { أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة } رواه البخاري ومسلم ، وسبق قريبا الجواب عن حديث أسامة وقال أصحابنا : وإذا صلى في الكعبة فله أن يستقبل أي جدار شاء ، وله أن يستقبل الباب إن كان مردودا أو مفتوحا وله عتبة قدر ثلثي ذراع تقريبا ، هذا هو الصحيح المشهور ، ولنا وجه أنه يشترط في العتبة كونها بقدر ذراع ، وقيل : يشترط قدر قامة المصلي طولا وعرضا ، ووجه ثالث أنه يكفي شخوصها بأي قدر كان ، والمذهب الأول .

قال أصحابنا : والنفل في الكعبة أفضل منه خارجها ، وكذا الفرض إن لم يرج جماعة أو أمكن الجماعة الحاضرين الصلاة فيها ، فإن لم يمكن فخارجها أفضل ، وكلام المصنف - وإن كان مطلقا - فهو محمول على هذا التفصيل : قال الشافعي في الأم : قضاء الفريضة الفائتة في الكعبة أحب إلي من قضائها [ ص: 197 ] خارجها قال : وكل ما قرب منهما كان أحب إلي مما بعد ، قال الشافعي والأصحاب : وكذا المنذورة في الكعبة أفضل من خارجها ، قال الشافعي : لا موضع أفضل ولا أطهر للصلاة من الكعبة وأما استدلال المصنف بالحديث على فضل الصلاة في الكعبة فمما أنكر عليه ; لأنه خص المسجد الحرام في هذا الحديث بالكعبة ، وليس هو في هذا الحديث مختصا بها ، بل يتناولها هي والمسجد حولها كما سبق بيانه ، ويمكن أن يجاب عن المصنف ويحمل كلامه على أنه لم يرد اختصاص الحديث بالكعبة ، بل أراد بيان فضيلة الصلاة في المسجد الحرام ، وقد علم أن الكعبة أفضله فكانت الصلاة فيها أفضله ، فإن قيل : كيف جزمتم بأن الكعبة أفضل من خارجها ؟ مع أنه مختلف بين العلماء في صحتها ، والخروج من الخلاف مستحب ؟ فالجواب أنا إنما نستحب الخروج من خلاف محترم ، وهو الخلاف في مسألة اجتهادية ، أما إذا كان الخلاف مخالفا سنة صحيحة كما في هذه المسألة فلا حرمة له ولا يستحب الخروج منه ; لأن صاحبه لم تبلغه هذه السنة ، وإن بلغته وخالفها فهو محجوج بها والله أعلم .

قال الشيخ أبو حامد في آخر كتاب الحج من تعليقه ، قال الشافعي ليس في الأرض موضع أحب إلي أن أقضي فيه الصلاة الفائتة من الكعبة ; لأن الفضيلة في القرب منها للمصلي فكانت الفضيلة في بطنها أولى .

( فرع ) في قاعدة مهمة صرح بها جماعة من أصحابنا ، وهي مفهومة من كلام الباقين وهي أن المحافظة على فضيلة تتعلق بنفس العبادة أولى من المحافظة على فضيلة تتعلق بمكان العبادة ، وتتخرج على هذه القاعدة مسائل مشهورة في المذهب منها هذه المسألة التي ذكرها المصنف وقد ذكرها الشافعي في الأم والأصحاب وهي أن المحافظة على تحصيل الجماعة خارج الكعبة أفضل من المحافظة على الصلاة في الكعبة ; لأن الجماعة فضيلة تتعلق بنفس الصلاة والكعبة فضيلة تتعلق بالموضع ومنها أن صلاة الفرض في كل المساجد أفضل من غير المسجد ، فلو كان هناك مسجد ليس فيه جماعة ، وهناك جماعة في غير مسجد فصلاته مع الجماعة في غير المسجد أفضل من صلاته منفردا في المسجد . [ ص: 198 ]

ومنها أن صلاة النفل في بيت الإنسان أفضل منها في المسجد مع شرف المسجد ; لأن فعلها في البيت فضيلة تتعلق بها ، فإنه سبب لتمام الخشوع والإخلاص وأبعد من الرياء والإعجاب وشبههما ، حتى أن صلاته النفل في بيته أفضل منها في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكرناه ودليله الحديث الصحيح { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابة رضي الله عنهم حين صلوا في مسجده النافلة أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة } رواه البخاري ومسلم . وفي رواية أبي داود : { أفضل من صلاته في مسجدي هذا } .

ومنها أن القرب من الكعبة في الطواف مستحب ، والرمل مستحب فيه ، فلو منعته الزحمة من الجمع بينهما لم يمكنه الرمل مع القرب وأمكنه مع البعد ، فالمحافظة على الرمل مع البعد أولى من المحافظة على القرب بلا رمل لما ذكرناه ، ونظائر هذه المسائل مشهورة وسنوضحها في مواضعها إن شاء الله تعالى وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية