صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى : ( وإن كانت النجاسة ميتة لا نفس لها سائلة كالذباب والزنبور وما أشبههما ففيه قولان ( أحدهما ) : أنها كغيرها من الميتات ; لأنه حيوان لا يؤكل بعد موته لا لحرمته ، فهو كالحيوان الذي له نفس سائلة .

( والثاني ) : أنه لا يفسد الماء لما روي : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فامقلوه ، فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء } ، وقد يكون الطعام حارا فيموت بالمقل فيه ، فلو كان يفسده لما أمر بمقله ليكون شفاء لنا إذا أكلناه ، فإن كثر من ذلك ما غير الماء ففيه وجهان .

( أحدهما ) : أنه ينجس ; لأنه ماء تغير بالنجاسة ، ( والثاني ) : لا ينجس ; لأن ما لا ينجس الماء إذا وقع فيه وهو دون القلتين لم ينجسه ، وإن تغير به كالسمك والجراد ) .


( الشرح ) : هذا الحديث صحيح رواه البخاري بمعناه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وفيه : { فليغمسه كله ثم لينزعه } ورواه أبو داود في سننه وزاد : { وإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء فليغمسه كله } ورواه [ ص: 179 ] البيهقي عن أبي سعيد الخدري أيضا ومعنى ، امقلوه اغمسوه كما في رواية البخاري .

قال الخطابي : فيه من الفقه أن أجسام الحيوان طاهرة إلا ما دلت عليه السنة من الكلب وما ألحق به ، قال : وقد تكلم على هذا الحديث بعض من لا خلاق له ، وقال : كيف يجتمع الداء والشفاء في جناحي الذبابة ؟ وكيف نعلم ذلك حتى نقدم جناح الداء ؟ قال الخطابي : وهذا سؤال جاهل أو متجاهل . وأن الذي يجد نفسه ونفوس عامة الحيوان قد جمع فيه الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ، وهي أشياء متضادة إذا تلاقت تفاسدت ، ثم يرى الله عز وجل قد ألف بينها وجعلها سببا لبقاء الحيوان وصلاحه لجدير أن لا ينكر اجتماع الداء والدواء في جزأين من حيوان واحد ، وأن الذي ألهم النحل اتخاذ ثقب عجيب الصنعة وتعسل فيه ، وألهم النملة كسب قوتها وادخاره لأوان حاجتها إليه ، هو الذي خلق الذبابة وجعل لها الهداية إلى أن تقدم جناحا وتؤخر آخر لما أراد من الابتلاء الذي هو مدرجة التعبد ، والامتحان الذي هو مضمار التكليف ، وفي كل شيء حكمة وعلم { وما يذكر إلا أولوا الألباب } والله أعلم .

[ ص: 180 ] وقوله : " ما لا نفس لها سائلة " يعني ما ليس لها دم يسيل ، والنفس الدم ويجوز في إعراب سائلة ثلاثة أوجه . الفتح : بلا تنوين ، والنصب والرفع : مع التنوين فيهما ، والزنبور بضم الزاي ، وقوله : لأنه حيوان لا يؤكل بعد موته ، فيه احتراز من السمك والجراد ، وقوله : لا لحرمته احتراز من الآدمي ، فإنه لا ينجس الماء بميتته على الصحيح وهو تفريع على القول بطهارة ميتته ، وسنوضحه إن شاء الله تعالى .

قال أصحابنا : والميتة التي لا نفس لها سائلة هي كالذباب والزنبور والنحل والنمل والخنفساء والبق والبعوض والصراصير والعقارب ، وبنات وردان والقمل ، والبراغيث وأشباهها ، وممن صرح بالقمل والبراغيث الإمام الشافعي في الأم ، والشيخ أبو حامد وآخرون .

وأما الحية فحكى الماوردي فيها وجهين : أحدهما وهو قول أبي القاسم الداركي وصاحبه الشيخ أبي حامد الإسفراييني : لها نفس سائلة والثاني : وهو قول أبي الفياض البصري وصاحبه أبي القاسم الصيمري : ليس لها نفس سائلة ، والأول أصح .

وأما الوزغ فقطع الجمهور بأنه لا نفس له سائلة ، ممن صرح بذلك الشيخ أبو حامد في تعليقه والبندنيجي والقاضي حسين وصاحب الشامل وغيرهم . ونقل الماوردي فيه وجهين كالحية ، وقطع الشيخ نصر المقدسي بأن له نفسا سائلة قال : وقد ذكره أبو عبيد في كتاب الطهور ، وأنه قتل فوجد في رأسه دم ، وكذا رأيت أنا في كتاب الطهور لأبي عبيد : أن الوزغ والحية لهما نفس سائلة ، ودم في رءوسهما ، ( إذا ثبت ما ذكرناه ) ، فإذا مات ما لا نفس لها سائلة في دون القلتين من الماء فهل ينجس ؟ فيه قولان مشهوران في كتب المذهب ، ونص عليهما الشافعي في الأم والمختصر ، وهذه أول مسألة ذكر في الأم فيها قولين قال إمام الحرمين ، وذكر صاحب التقريب قولا ثالثا مخرجا ، وهو أن ما يعم لا ينجسه كالذباب والبعوض ونحوهما ، وما لا يعم كالخنافس والعقارب والجعلان ينجسه ; نظرا إلى تعذر الاحتراز وعدمه ، وهذا القول غريب ، والمشهور : إطلاق قولين ، والصحيح منهما : أنه لا ينجس الماء ، هكذا صححه الجمهور .

وقطع به أبو الفتح سليم بن أيوب الرازي في كتابه الكفاية وصاحبه أبو الفتح نصر المقدسي في كتابه الكافي وغيرهما ، وشذ المحاملي في المقنع والروياني في [ ص: 181 ] البحر ورجحا النجاسة ، وهذا ليس بشيء ، والصواب : الطهارة ، وهو قول جمهور العلماء ، بل نسب جماعة الشافعي إلى خرق الإجماع في قوله الآخر بالنجاسة .

قال ابن المنذر في الأشراف : قال عوام أهل العلم لا يفسد الماء بموت الذباب والخنفساء ونحوهما ، قال : ولا أعلم فيه خلافا إلا أحد قولي الشافعي ، وكذا قال ابن المنذر أيضا في كتاب الإجماع : أجمعوا أن الماء لا ينجس بذلك ، إلا أحد قولي الشافعي ، وقد نقل الخطابي وغيره عن يحيى بن أبي كثير أنه قال : ينجس الماء بموت العقرب فيه ، ونقله بعض أصحابنا عن محمد بن المنكدر ، وهذان إمامان من التابعين ، فلم يخرق الشافعي ، الإجماع ، فإذا قلنا بالصحيح إنه لا ينجس الماء ، فلو كثر هذا الحيوان فغير الماء فهل ينجسه ؟ فيه الوجهان اللذان ذكرهما المصنف .

قال الشيخ أبو حامد والبندنيجي والمحاملي في المجموع وصاحب العدة وغيرهم : هذان الوجهان حكاهما أبو حفص عمر بن أبي العباس بن سريج عن أبيه ، والأصح منهما : أنه ينجسه وصححه الشاشي والرافعي وآخرون ، وقطع به الدارمي في الاستذكار وابن كج في التجريد ; لأنه ماء تغير بالنجاسة ، والوجهان جاريان سواء كان الماء المتغير به قليلا أو كثيرا ، وممن صرح بجريانهما فيما دون القلتين القاضي أبو الطيب في تعليقه ، وأشار إلى جريانهما أيضا الشيخ أبو حامد ، ويجريان في الطعام المتغير بهذا الحيوان ، ذكره الشيخ أبو حامد .

قال صاحب البيان : فإن قلنا : لا ينجس الماء المتغير به كان طاهرا غير طهور ، قال : وكذا ما تغير بسمك أو جراد يكون طاهرا غير مطهر .

وحكاه أيضا عن الصيدلاني ، وقال إمام الحرمين : يكون على هذا الوجه كالمتغير بورق الشجر يعني : فيكون فيه الخلاف السابق في الورق ، والصواب : ما ذكره الصيدلاني وصاحب البيان ; لأنه ليس بأقل من المتغير بزعفران ونحوه والله أعلم .

( فرع ) هذان القولان السابقان إنما هما في نجاسة الماء بموت هذا الحيوان ، وأما الحيوان نفسه ففيه طريقان . أحدهما : أن في نجاسته القولين إن قلنا : نجس نجس الماء وإلا فلا ، وهذا قول القفال ( والثاني ) : القطع بنجاسة [ ص: 182 ] الحيوان ، وبهذا قطع العراقيون وغيرهم ، وهو الصحيح ; لأنه من جملة الميتات ، ومذهب مالك وأبي حنيفة أنه لا ينجس بالموت ، دليلنا : أنه ميتة وإنما لا ينجس الماء ; لتعذر الاحتراز منه .

( فرع ) القولان بنجاسة الماء بموته يجريان في جميع المائعات والأطعمة ، صرح به أصحابنا واتفقوا عليه ، والصحيح في الجميع : الطهارة للحديث وعموم البلوى وعسر الاحتراز .

( فرع ) هذا الخلاف السابق إنما هو في نجاسة الماء وسائر المائعات وغيرها بموت حيوان أجنبي عنه ، أما الدود المتولد في الأطعمة والماء كدود التين ، والتفاح ، والباقلاء والجبن ، والخل ، وغيرها فلا ينجس ما مات فيه بلا خلاف ، هكذا صرح به الأصحاب في كل الطرق ، قال الرافعي وغيره : وينجس هذا الحيوان على المذهب ولا ينجس على قول عند القفال ، وأما ما شذ به الدارمي في الاستذكار فقال : قال بعض الأصحاب : في نجاسة المائع بهذا الحيوان خلاف ، فغلط لا يعد من المذهب ، وإنما نبهت عليه لئلا يغتر به ، فالصواب : ما اتفق عليه الأصحاب وهو الجزم بطهارته .

قال إمام الحرمين : فإن انعصر هذا الحيوان فيما يجري من تصرف وعصر ، أو اختلط من غير قصد ، فلا مبالاة به ، وإن جمع جامع منه شيئا وتعمد أكله منفردا فوجهان أصحهما : تحريمه ; لأنه ميتة ( والثاني ) : يحل ; لأن دود الخل والجبن كجزء منه طبعا وطعما ، قال الإمام : فإن حرمناه عاد الخلاف في نجاسته يعني خلاف القفال والجمهور ، وذكر غير الإمام في جواز أكل هذا الحيوان مع ما مات فيه وجهين ، قال الغزالي في الوجيز : لا يحرم أكله مع الطعام على الأصح ، وجمع الرافعي هذا الخلاف فقال : في جواز أكله ثلاثة أوجه أصحها : يجوز أكله مع ما تولد منه لا منفردا .

( والثاني ) : يجوز مطلقا .

( والثالث ) : يحرم مطلقا ، وأما الذباب وسائر ما لا نفس لها سائلة وليس متولدا مما مات فيه فلا يحل أكله بالاتفاق ، وإن قلنا إنه طاهر عند القفال ; لأنه ميتة ومستقذر ، قال أصحابنا : فإن أخرج هذا الحيوان مما مات فيه وألقي في مائع غيره أورد إليه فهل ينجسه ؟ فيه القولان في الحيوان الأجنبي ، وهذا متفق عليه في الطريقتين .

[ ص: 183 ] فرع ) ما يعيش في البحر مما له نفس سائلة إن كان مأكولا فميتته طاهرة ولا شك أنه لا ينجس الماء ، وما لا يؤكل كالضفدع وكذا غيره إذا قلنا لا يؤكل ، فإذا مات في ماء قليل أو مائع قليل أو كثير نجسه ، صرح به أصحابنا في طرقهم وقالوا : لا خلاف فيه ، إلا صاحب الحاوي فإنه قال : في نجاسته به قولان ، ولعله أراد أن في نجاسته به خلافا مبنيا على حل أكله ، وإن أراد مع تحريم أكله فشاذ مردود .

وذكر الروياني في الضفدع وجهين ( أحدهما ) : لا نفس لها سائلة فيكون في نجاسة الماء بها قولان ( والثاني ) : لها نفس سائلة فتنجسه قطعا ، وهذا الثاني هو المشهور في كتب الأصحاب ، وجعلوا المسألة خلافية ، فحكوا هم وابن المنذر عن مالك وأبي حنيفة ومحمد بن الحسن وأبي عبيد : أن الضفدع لا ينجس ما مات فيه ، وكذلك السرطان ، ومذهبنا : أنه ينجسه والله أعلم .

( فرع ) الآدمي الذي لا نجاسة عليه مسلما كان أو كافرا إذا مات في ماء دون قلتين أو في مائع قليل أو كثير ، فهل ينجس ما مات فيه ؟ فيه قولان بناء على نجاسته بالموت والصحيح : أنه لا ينجس ، فلا ينجسه .

( فرع ) إذا قلنا بالقول الضعيف ، وهو أن ما ليس له نفس سائلة ينجس ما مات فيه ، فالجواب عن الحديث ما أجاب به الشافعي والأصحاب أنه لا يلزم من المقل الموت فإن قيل : لا يؤمن الموت لا سيما إن كان الطعام حارا ، قلنا : لا يمتنع أن يقصد مصلحة الشيء ، وإن احتمل تلفه ، كما يقصد بالقصد وشرب الدواء المصلحة ، وقد يفضي إلى التلف ، فإن قيل : لم ينه النبي صلى الله عليه وسلم عن أكله على تقدير موته ، قلنا : قد تقرر نجاسة الميتة وما ماتت فيه ، فلا حاجة إلى ذكره في كل حديث ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية