صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى : ( وإن لم يكن شيء من ذلك نظرت فإن كان ممن كان يعرف الدلائل فإن كان غائبا من مكة اجتهد في طلب القبلة ; لأن له طريقا إلى معرفتها بالشمس والقمر والجبال والرياح ، ولهذا قال الله تعالى { : وعلامات وبالنجم هم يهتدون } فكان له أن يجتهد كالعالم في الحادثة ، وفي فرضه قولان : قال في الأم : فرضه إصابة العين ; لأن من لزمه فرض القبلة لزمه إصابة العين كالمكي ، وظاهر ما نقله المزني أن الفرض هو الجهة ; لأنه لو كان الفرض هو العين لما صحت صلاة الصف الطويل ; لأن فيهم من يخرج عن العين ) .


( الشرح ) إذا لم يعرف الغائب عن أرض مكة القبلة ولم يجد محرابا ولا من يخبره على ما سبق لزمه الاجتهاد في القبلة ويستقبل ما أدى إليه اجتهاده ، قال أصحابنا : ولا يصح إلا بأدلة القبلة وهي كثيرة وفيها كتب مصنفة وأضعفها الرياح لاختلافها ، وأقواها القطب وهو نجم صغير في بنات نعش الصغرى ، بين الفرقدين والجدي وإذا اجتهد وظن القبلة في جهة بعلامة صلى إليها ، ولا يكفي الظن بلا علامة بلا خلاف ، بخلاف الأواني فإن فيها وجها ضعيفا أنه يكفي الظن فيها بغير علامة وذلك الوجه لا يجيء هنا بالاتفاق وقد سبق هناك الفرق ، ولو ترك القادر على الاجتهاد الاجتهاد وقلد مجتهدا لم تصح صلاته وإن صادف القبلة ; لأنه ترك وظيفته في [ ص: 203 ] الاستقبال فلم تصح صلاته ، كما لو صلى بغير تقليد ولا اجتهاد وصادف ، فإنه لا يصح بالاتفاق ، وسواء ضاق الوقت أم لم يضق . هذا هو المذهب ، وبه قطع الجمهور ، وفيه وجه لابن سريج أنه يقلد عند ضيق الوقت وخوف الفوات وهو ضعيف . وفي فرض المجتهد ومطلوبه قولان ( أحدهما ) جهة الكعبة بدليل صحة صلاة الصف الطويل ، ونقل القاضي أبو الطيب وغيره الإجماع على صحة صلاتهم ، وأصحهما عينها اتفق العراقيون والقفال والمتولي والبغوي على تصحيحه ، ودليلهما في الكتاب . وأجاب الأصحاب عن صلاة الصف الطويل بأن مع طول المسافة تظهر المسامتة والاستقبال كالنار على جبل ونحوها قال البندنيجي : القول بأن فرضه الجهة نقله المزني وليس هو بمعروف للشافعي وكذا أنكره الشيخ أبو حامد وآخرون ، وسلك إمام الحرمين والغزالي طريقة أخرى شاذة ضعيفة اخترعها الإمام تركتها لشذوذها ، واحتج الأصحاب للقول بالعين بحديث ابن عباس رضي الله عنهما { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة خرج فصلى إليها وقال : هذه القبلة } رواه البخاري ومسلم ، وهو حديث أسامة بن زيد الذي ذكره المصنف في أول الباب ، واحتجوا للجهة بحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { ما بين المشرق والمغرب قبلة } رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح ، وصح ذلك عن عمر رضي الله عنه موقوفا عليه . .

( فرع ) في مذاهب العلماء في ذلك .

قد ذكرنا أن الصحيح عندنا أن الواجب إصابة عين الكعبة ، وبه قال بعض المالكية ورواية عن أحمد وقال أبو حنيفة الواجب الجهة ، وحكاه الترمذي عن عمر بن الخطاب وعن علي بن أبي طالب وابن عباس وابن المبارك وسبق دليلهما .

( فرع ) في تعلم أدلة القبلة ثلاثة أوجه ( أحدها ) أنه فرض كفاية ( والثاني ) فرض عين ، وصححه البغوي والرافعي كتعلم الوضوء وغيره من شروط الصلاة وأركانها ( والثالث ) وهو الأصح أنه فرض كفاية إلا أن يريد سفرا فيتعين ، لعموم حاجة المسافر وكثرة الاشتباه عليه ، ولا يصح قول من [ ص: 204 ] أطلق أنه فرض عين إذ لم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم ثم السلف ألزموا آحاد الناس تعلم أدلة القبلة ، بخلاف أركان الصلاة وشروطها ; لأن الوقوف على القبلة سهل غالبا ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية