صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى : ( وإذا أراد الطهارة بالماء الذي وقعت فيه نجاسة وحكم بطهارته نظرت ، فإن كان دون قلتين وحكم بطهارته بالمكاثرة ، لم يجز الوضوء به ; لأنه وإن كان طاهرا ، فهو غير مطهر ; لأن الغلبة للماء الذي غمره ، وهو ماء أزيل به النجاسة ، فلم يصلح للطهارة ، وإن كان أكثر من قلتين نظرت ، فإن كانت النجاسة جامدة ، فالمذهب : أنه تجوز الطهارة منه ; لأنه لا حكم للنجاسة القائمة فكان وجودها كعدمها ، وقال أبو إسحاق وأبو العباس بن القاص : لا يجوز حتى يكون بينه وبين النجاسة قلتان ، فإن كان بينه وبين النجاسة أقل من قلتين لم يجز ; لأنه لا حاجة به إلى استعمال ماء فيه نجاسة قائمة ، وإن كان الماء قلتين وفيه نجاسة قائمة ففيه وجهان ، قال أبو إسحاق : لا تجوز الطهارة به ; لأنه ماء واحد .

فإذا كان ما يبقى بعد ما غرف نجسا ، وجب أن يكون الذي غرفه نجسا ، والمذهب : أنه [ ص: 191 ] يجوز ; لأن ما يغرف منه ينفصل منه قبل أن يحكم بنجاسته ، فبقي على الطهارة ، وإن كانت النجاسة دائبة جازت الطهارة به ، ومن أصحابنا من قال : لا يتطهر بالجميع ، بل يبقى منه قدر النجاسة كما قال الشافعي رحمه الله : فيمن حلف لا يأكل تمرة فاختلطت بتمر كثير أنه يأكل الجميع إلا تمرة ، وهذا لا يصح ; لأن النجاسة لا تتميز ، بل تختلط بالجميع فلو وجب ترك بعضه لوجب ترك جميعه بخلاف التمر ) .


( الشرح ) أما المسألة الأولى ، وهي إذا حكمنا بطهارة الماء النجس بالمكاثرة من غير أن يبلغ قلتين فقد قطع المصنف بأنه ليس بطهور ، وهكذا قطع به الجمهور وهو تفريع على المذهب : أن المستعمل في إزالة النجاسة لا تجوز الطهارة به ، فأما إذا قلنا بقول الأنماطي : إن المستعمل في النجس يستعمل في الحدث فيجوز الوضوء به هنا ، فإنها هي المسألة بعينها ، وقد نبه على هذا صاحب الحاوي وآخرون ، وصرحوا به .

وأما المسألة الثانية وهي إذا كان الماء أكثر من قلتين وفيه نجاسة جامدة ، فقد ذكر وجهين ( الصحيح منهما ) : أنه لا يجب التباعد ، بل تجوز الطهارة منه من حيث شاء .

( والثاني ) : يجب التباعد عن النجاسة بقدر قلتين ، وهذا الخلاف مشهور في الطريقتين ، لكن العراقيون والبغوي حكوه وجهين كما حكاه المصنف ، وحكاه جمهور الخراسانيين قولين ، الجديد : يجب التباعد ، والقديم : لا يجب ، واتفقوا على أن الصحيح أنه لا يجب التباعد ، قال القاضي أبو الطيب والماوردي والمحاملي : وهو قول ابن سريج وأبي سعيد الإصطخري وعامة أصحابنا ، قال الخراسانيون وهذه من المسائل التي يفتى فيها على القديم ، وقد قدمت في مقدمة الكتاب بيانها وحكمها وما يتعلق بها ، وقد حكى الشيخ أبو علي السنجي بكسر السين المهملة وإسكان النون وبالجيم : أن الشافعي نص في كتابه اختلاف الحديث ، وهو من كتبه على موافقة القديم ، وحينئذ لا يسلم كون الإفتاء هنا بالقديم .

قال أصحابنا : فإذا شرطنا التباعد لا بد من رعاية التناسب في الأبعاد ، فلو كانت النجاسة على وجه البحر فتباعد شبرا ليحسب عمق البحر وحينئذ يزيد على قلتين لم يكفه ذلك ، بل يشترط أن يتباعد قدرا لو حسب مثله في العمق [ ص: 192 ] وسائر الجوانب لبلغ قلتين ; لأن المقصود أن يكون ماء القلتين حائلا بينه وبين النجاسة ، والعمق الزائد لا يصلح لذلك ، وإن كان الماء منبسطا في عمق شبر فليتباعد زيادة على ذلك بنسبته على ما ذكرنا ، هكذا قاله إمام الحرمين والأكثرون ، وحكى المتولي فيه وجهين أحدهما : هذا ، والثاني : يعتبر ذلك من جميع جهات النجاسة ( سواء ) الجهة التي يغترف منها وغيرها ، والصحيح الأول ; لأنه لا تعلق للمستقي بباقي الجهات .

وإذا أوجبنا التباعد هل يكون الماء المجتنب نجسا أم طاهرا منع من استعماله ؟ فيه وجهان أصحهما : طاهر منع استعماله لقوله صلى الله عليه وسلم : { إذا بلغ الماء قلتين لم ينجس } وبهذا قطع كثيرون ، واقتضاه كلام آخرين . ممن صرح به القاضي أبو الطيب في تعليقه ، والمحاملي في كتابيه المجموع والتجريد ، وأصحاب الحاوي والشامل والبيان وغيرهم من العراقيين وجماعة من الخراسانيين ، ونقل الاتفاق عليه الشيخان أبو حامد الإسفراييني وأبو محمد الجويني ( والوجه الثاني ) وبه قطع القاضي حسين وإمام الحرمين والبغوي : بأنه نجس حتى قال هؤلاء الثلاثة : لو كان الماء قلتين فقط كان نجسا على هذا القول ، وهذا ضعيف أو غلط منابذ لقوله : صلى الله عليه وسلم { إذا بلغ الماء قلتين لم ينجس } ، وأما إذا قلنا لا يشترط التباعد فله أن يتطهر من أي موضع شاء منه ، هكذا صرح به الأصحاب واتفقوا عليه .

قال الماوردي : له أن يستعمل منه أقربه إلى النجاسة وألصقه بها ، وخالفهم الغزالي ، فقال في الوسيط : يجب التباعد عن حريم النجاسة وهو ما تغير شكله بسبب النجاسة ، وهذا الذي قاله شاذ متروك مخالف لما اتفق عليه الأصحاب ، وقد صرح هو في البسيط بموافقة الأصحاب ، فقطع بأن الراكد لا حريم له يجتنب ، وكذا صرح به شيخه إمام الحرمين في مواضع من النهاية في هذا الباب ، وقال : له أن يستعمل من قرب النجاسة قال : ووجه ذلك أن تراد الماء يوجب تساوي أجزائه في النجاسة ، فالقريب والبعيد سواء والله أعلم

( وأما المسألة الثالثة ) وهي إذا كان الماء قلتين فقط وفيه نجاسة جامدة ، ففي جواز استعماله الوجهان اللذان ذكرهما المصنف ، واتفق المصنفون : على [ ص: 193 ] أن الأصح الجواز كما ذكره المصنف . ودليله : ما ذكره .

والثاني : لا يجوز . حكاه المصنف والأصحاب عن أبي إسحاق ، وحكاه البندنيجي عنه وعن ابن سريج . ثم إن استعمال هذا الماء يحتاج إلى فقه ، وهو أنه إن أراد استعمال ما يغرفه بدلو مثلا ، فينبغي أن يغمس الدلو في إناء غمسة واحدة . ولا يغترف في النجاسة ، ثم يرفعه فيكون باطن الدلو وما فيه من الماء طاهرا ، ويكون ظاهر الدلو والباقي بعد المغروف نجسا ، أما نجاسة الباقي فلأن فيه نجاسة وقد نقص عن قلتين ، وأما نجاسة ظاهر الدلو فلملاصقة الماء النجس ، وهو الباقي بعد المغروف . وإنما حكمنا بطهارة ما في الدلو ; لأنه انفصل عن الباقي قبل أن ينقص عن قلتين ، وإنما نقص بعد انفصال المأخوذ ، فلو خالف وأدخل الماء في الدلو شيئا فشيئا ، فالجميع نجس بلا خلاف ; لأنه حين دخل أول الشيء في الدلو نقص الباقي عن قلتين فصار نجسا ، فإذا نزلت الدفعة الثانية في الدلو وهي نجسة تنجس ما في الدلو فصار الجميع نجسا ، فطريقه بعد هذا إلى طهارته : أن يصبه في الباقي أو يغمسه غمسة واحدة حتى يغمره الماء ويمكث لحظة ، وهو واسع الرأس فيطهر الجميع ، فإذا فصل الدلو كان باطنه وما فيه طاهرا ويكون الباقي وظاهر الدلو نجسا لما سبق .

أما إذا أراد استعمال ما يبقى بعد الغرف ، فينظر إن أخذها وحدها في الدلو فالباقي قلتان ، فهو طاهر بلا خلاف ، ، وأبو إسحاق يوافق على هذا ; لأنه قلتان وليس فيه نجاسة ، وإن أخذ النجاسة مع شيء من الماء ، فإن أخذه دفعة واحدة ، فباطن الدلو وما فيه نجس وظاهره وما بقي طاهر .

أما نجاسة باطن الدلو وما فيه فلكونه ماء يسيرا فيه نجاسة ، وأما طهارة الباقي فلانفصال النجاسة عنه قبل نقصه عن قلتين فبقي على طهارته ، قال أصحابنا : فإن قطر من الدلو إلى الماء الباقي قطرة نظر ، إن كانت من ظاهر الدلو ، فالباقي على طهارته ; لأن ظاهر الدلو طاهر ، وإن كانت من باطنه صار الباقي نجسا ، وإن شك فالباقي على طهارته ، ذكره الماوردي وغيره ، وهو واضح ، فإن تنجس الباقي وأراد تطهيره فطريقه : أن يصبه فيه أو [ ص: 194 ] يرد الدلو ويغمسه فيه على ما سبق ، قال أصحابنا : ويستحب له أن يخرج النجاسة أولا ثم يغمس الدلو ليكون طهورا بلا خلاف ، ويخرج من خلاف أبي إسحاق ومن مراعاة هذه الدقائق .

وكذلك يستحب له في مسألة التباعد أيضا . ولو اختطف النجاسة أولا ثم نزل عليها من الماء شيء ، فباطن الدلو وما فيه من الماء نجس ، وظاهره طاهر ، وكذا الباقي من الماء ، وهذه الصورة في النقص عن قلتين محمولة على نقص يؤثر ، سواء قلنا : القلتان خمسمائة تحديدا أو تقريبا . وفي الدلو لغتان التأنيث والتذكير ، والتأنيث أفصح . وإنما ذكرت هذا هنا لئلا ينكر استعمالنا لها من لا معرفة له والله أعلم

( وأما المسألة الرابعة ) وهي : إذا وقع في قلتين أو أكثر نجاسة ذائبة ففيها الوجهان اللذان ذكرهما المصنف ، الصحيح منهما باتفاق الأصحاب : جواز استعمال جميعه . والثاني : يجب تبقية قدر النجاسة ولم يسم الجمهور قائل هذا الوجه ، وسماه الدارمي فقال : حكاه ابن القطان عن ابن ميمون ، قال أصحابنا : هذا الوجه غلط وأبطلوه بما أبطله به المصنف ، قالوا : لأنا نقطع بأن الباقي ليس عين النجاسة ، فلا فائدة في تركه ، بل إن وجب ترك شيء وجب ترك الجميع ، فلما اتفقوا على أنه لا يجب ترك الجميع وجب أن يقال : يستعمل الجميع ; لأن النجاسة استهلكت وصورة المسألة : أن تكون النجاسة الذائبة قليلة لم تغير الماء مع مخالفتها له في صفاته ، أو كانت موافقة له في صفاته وكانت بحيث لو قدرت مخالفة له لم تغيره ، وقد تقدم بيان هذا في آخر الباب الأول والله أعلم .

( فرع ) إن قيل : ما الفائدة في حكاية المصنف مذهب أبي إسحاق فيما إذا كان الماء قلتين فقط ، ونحن قد عرفنا مذهبه من المسألة الأولى ، فإنه اشترط التباعد عن النجاسة بقلتين ، فيعلم بهذا أنه إذا كان قلتين لا يجوز استعماله بفقد الشرط وهو التباعد ؟ فالجواب : أنأبا إسحاق يقول هنا : لا يجوز استعماله وإن جوزناه هناك لمعنى هنا وهو ما علل به .

( فرع ) ذكر المصنف أبا إسحاق وابن القاص ، فأما أبو إسحاق فهو المروزي واسمه إبراهيم بن أحمد وهو صاحب أبي العباس بن سريج انتهت [ ص: 195 ] إليه رياسة بغداد في العلم ، وشرح المختصر وصنف في الأصول والفروع . وعنه وعن أصحابه انتشر فقه الشافعي في الأقطار ، وهو جدنا في التفقه ، فإنه أحد أركان سلسلة تفقه الشافعية . توفي بمصر سنة أربعين وثلثمائة ، وأما أبو العباس بن القاص بتشديد الصاد المهملة فاسمه أحمد بن أبي أحمد ، إمام جليل ، وهو صاحب ابن سريج أيضا ، وعنه أخذ الفقه أهل طبرستان ، صنف كتبا كثيرة كالتلخيص والمفتاح وأدب القاضي والمواقيت والقبلة وغيرها ، توفي بطرسوس سنة خمس وثلاثين وثلثمائة رحمه الله

التالي السابق


الخدمات العلمية