صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( والقيام فرض في الصلاة المفروضة لما روى عمران بن حصين ( رضي الله عنه ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا ، فإن لم تستطع فعلى جنب } وأما في النافلة فليس بفرض ; لأن { النبي صلى الله عليه وسلم كان ينتفل على الراحلة وهو قاعد } ولأن النوافل تكثر ، فلو وجب فيها القيام شق وانقطعت النوافل ) .


[ ص: 236 ] الشرح ) حديث عمران رضي الله عنه رواه البخاري بلفظه وحصين صحابي على المشهور ، وقيل : لم يسلم ، كنية عمران أبو نجيد بضم النون أسلم عام خيبر وهو خزاعي نزل البصرة وولي قضاءها ، ثم استقال فأقيل ، وتوفي بها سنة اثنتين وخمسين ، وأما حديث تنفل النبي صلى الله عليه وسلم على الراحلة فثابت رواه البخاري ومسلم من رواية ابن عمر وجابر وأنس وعامر بن ربيعة رضي الله عنهم .

( أما حكم المسألة ) فالقيام في الفرائض فرض بالإجماع لا تصح الصلاة من القادر عليه إلا به حتى قال أصحابنا : لو قال مسلم : أنا أستحل القعود في الفريضة بلا عذر أو قال : القيام في الفريضة ليس بفرض كفر إلا أن يكون قريب عهد بإسلام .

( فرع ) في مسائل تتعلق بالقيام ( إحداها ) قال أصحابنا : يشترط في القيام الانتصاب ، وهل يشترط الاستقلال بحيث لا يستند ؟ فيه أوجه أصحها ، وبه قطع أبو علي الطبري في الإفصاح والبغوي وآخرون وصححه القاضي أبو الطيب في تعليقه والرافعي لا يشترط ، فلو استند إلى جدار أو إنسان أو اعتمد على عصا بحيث لو رفع السناد لسقط صحت صلاته مع الكراهة ; لأنه يسمى قائما ، والثاني : يشترط ولا تصح مع الاستناد في حال القدرة بحال حكاه القاضي أبو الطيب عن ابن القطان وبه قطع إمام الحرمين والغزالي . والثالث : يجوز الاستناد إن كان بحيث لو رفع السناد لم يسقط وإلا فلا . هذا في استناد لا يسلب اسم القيام ، فإن استند متكئا بحيث لو رفع عن الأرض قدميه لأمكنه البقاء لم تصح صلاته بلا خلاف ; لأنه ليس بقائم . بل معلق نفسه بشيء فلو لم يقدر على الاستقلال فوجهان ، الصحيح : [ ص: 237 ] أنه يجب أن ينتصب متكئا لأنه قادر على الانتصاب ، والثاني : لا يلزمه الانتصاب ، بل له الصلاة قاعدا .

أما الانتصاب المشروط فالمعتبر فيه نصب فقار الظهر ، وليس للقادر أن يقف مائلا إلى أحد جانبيه زائلا عن سنن القيام ولا أن يقف منحنيا في حد الراكعين فإن لم يبلغ انحناؤه حد الراكعين ، لكن كان إليه أقرب فوجهان أصحهما لا تصح صلاته ; لأنه غير منتصب ، والثاني : تصح ; لأنه في معناه ، ولو أطرق رأسه بغير انحناء صحت صلاته بلا خلاف ; لأنه منتصب ولو لم يقدر على النهوض إلا بمعين ، ثم إذا نهض لا يتأذى بالقيام لزمه الاستعانة إما بمتبرع وإما بأجرة المثل إن وجدها هذا كله في القادر على الانتصاب . فأما العاجز كمن تقوس ظهره لزمانة أو كبر ، وصار في حد الراكعين فيلزمه القيام فإذا أراد الركوع زاد في الانحناء إن قدر عليه هذا هو الصحيح ، وبه قطع العراقيون والمتولي والبغوي ونص عليه الشافعي قال الرافعي هو المذهب ، ونقله ابن كج عن نص الشافعي وقال إمام الحرمين والغزالي : يلزمه أن يصلي قاعدا قالا : فإن قدر عند الركوع على الارتفاع إلى حد الراكعين لزمه ، والمذهب الأول ; لأنه قادر على القيام ، ولو عجز عن الركوع والسجود دون القيام لعلة بظهره تمنع الانحناء لزمه القيام ، ويأتي بالركوع والسجود بحسب الطاقة ، فيحني صلبه قدر الإمكان ، فإن لم يطق حنى رقبته ورأسه ، فإن احتاج فيه إلى شيء يعتمد عليه أو ليميل إلى جنبه لزمه ذلك فإن لم يطق الانحناء أصلا أومأ إليهما ولو أمكنه القيام والاضطجاع دون القعود ، قال البغوي يأتي بالقعود قائما ; لأنه قعود وزيادة . وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان مسائل العجز عن القيام وفروعها في باب صلاة المريض حيث ذكرها المصنف - رحمه الله .

( فرع ) في مذاهب العلماء في الاعتماد على شيء في حال القيام : قد ذكرنا تفصيل مذهبنا ، قال القاضي عياض في مسائل قيام الليل في شرح مسلم : اختلف السلف في جواز التعلق بالحبال ونحوها في صلاة النفل لطولها فنهى عنه أبو بكر الصديق وحذيفة رضي الله عنهما ، ورخص فيه آخرون قال : وأما الاتكاء على العصا فجائز في النوافل باتفاقهم إلا ما حكي عن ابن سيرين من [ ص: 238 ] كراهته ، وقال مجاهد ينقص من أجره بقدره ، قال : وأما في الفرائض فمنعه مالك والجمهور ، وقالوا من اعتمد على عصا أو حائط ونحوه بحيث يسقط لو زال لم تصح صلاته قال : وأجاز ذلك أبو ذر وأبو سعيد الخدري وجماعة من الصحابة والسلف قال : وهذا إذا لم يكن ضرورة فإن كانت جاز وكان أفضل من الصلاة جالسا والله أعلم .

( المسألة الثانية ) لو قام على إحدى رجليه صحت صلاته مع الكراهة ، فإن كان معذورا فلا كراهة ويكره أن يلصق القدمين ، بل يستحب التفريق بينهما ، ويكره أن يقدم إحداهما على الأخرى ويستحب أن يوجه أصابعهما إلى القبلة .

( فرع ) في الترويح بين القدمين في القيام ، قال ابن المنذر : قال مالك وأحمد وإسحاق : لا بأس به ، قال : وبه أقول وهذا أيضا مقتضى مذهبنا

( الثالثة ) تطويل القيام أفضل من تطويل الركوع والسجود لحديث جابر { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي الصلاة أفضل ؟ قال طول القنوت } رواه مسلم ، والمراد من القنوت القيام ، وتطويل السجود أفضل من تطويل باقي الأركان غير القيام لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد } رواه مسلم .

وقال جماعة من العلماء : تطويل السجود وتكثير الركوع والسجود أفضل من تطويل القيام ، حكاه الترمذي والبغوي في شرح السنة لقوله صلى الله عليه وسلم : { أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد } وقوله صلى الله عليه وسلم : { عليك بكثرة السجود } رواه مسلم . وقال بعض أصحابنا به ، وتوقف أحمد بن حنبل في المسألة ، ولم يقض فيها بشيء وقال إسحاق بن راهويه : أما في النهار فتكثير الركوع والسجود أفضل ، وأما بالليل فتطويل القيام أفضل إلا أن يكون للرجل جزء بالليل يأتي عليه فتكثير الركوع والسجود أفضل لأنه يقرأ جزأه ويربح كثرة الركوع والسجود قال الترمذي إنما قال إسحاق هذا ; لأنهم وصفوا صلاة النبي [ ص: 239 ] صلى الله عليه وسلم بالليل بطول القيام ولم يوصف من تطويله بالنهار ما وصف بالليل . دليلنا على تفضيل إطالة القيام حديث { أفضل الصلاة طول القنوت } ولأن المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه { كان يطول القيام أكثر من الركوع والسجود } ولأن ذكر القيام القراءة وهي أفضل من ذكر الركوع والسجود .

( الرابعة ) والواجب من القيام قدر قراءة الفاتحة ولا يجب ما زاد ، والواجب من الركوع والسجود قدر أدنى طمأنينة ولا يجب ما زاد ، فلو زاد في القيام والركوع والسجود على ما يجزئه فهل يقع الجميع واجبا أم الواجب ما يجزئه والباقي تطوع ؟ فيه وجهان مشهوران للخراسانيين ، والأصح أن الجميع يقع واجبا وبه قطع الشيخ أبو محمد في كتابه التبصرة ، وهما مثل الوجهين في مسح كل الرأس وفي البعير المخرج في الزكاة عن خمس ، وفي البدنة المضحى بها بدلا عن شاة منذورة قال صاحب التتمة : والوجهان مبنيان على أن الوقص في الزكاة عفو أم يتعلق به الفرض ؟ وفيه قولان وتظهر فائدة الخلاف في القيام والركوع والسجود ومسح الرأس في تكثير الثواب فإن ثواب الفرض أكثر من ثواب التطوع ، وفي الزكاة في الرجوع عند التعجيل وفي البدنة في الأكل منها . وقد سبق بيان هذه المسائل في مسألة مسح الرأس .

( الخامسة ) لو جلس للغزاة رقيب يرقب العدو فأدركته الصلاة ، ولو قام لرآه العدو ، أو جلس الغزاة في مكمن ولو قاموا رآهم العدو وفسد التدبير ، فلهم الصلاة قعودا وتجب الإعادة لندوره . وقال المتولي في غير الرقيب : إن خاف لو قام أن يقصده العدو صلى قاعدا أجزأته على الصحيح . قال : ولو صلى الكمين في وهدة قعودا ففي صحتها قولان ، قلت أصحهما وجوب الإعادة .

( السادسة ) يجوز فعل النافلة قاعدا مع القدرة على القيام بالإجماع ، ودليله الأحاديث الصحيحة التي ذكرناها وغيرها مما هو مشهور في الصحيح ، لكن ثوابها يكون نصف ثواب القائم ، لحديث عمران بن حصين رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من صلى قائما فهو أفضل ، [ ص: 240 ] ومن صلى قاعدا فله نصف أجر القائم ومن صلى نائما فله نصف أجر القاعد } رواه البخاري ، والمراد بالنائم المضطجع ولو تنفل مضطجعا بالإيماء بالرأس مع قدرته على القيام والقعود فوجهان :

( أحدهما ) لا تصح صلاته ; لأنه يذهب صورتها بغير عذر ، وهذا أرجحهما عند إمام الحرمين .

( والثاني ) وهو الصحيح : صحتها لحديث عمران ، ولو صلى النافلة قاعدا أو مضطجعا للعجز عن القيام والقعود فثوابه ثواب القيام بلا خلاف كما في صلاة الفرض قاعدا أو مضطجعا للعجز ، فإن ثوابها ثواب القائم بلا خلاف ، والحديث ورد فيمن يصلي النفل قاعدا أو مضطجعا مع قدرته على القيام ، يستوي فيما ذكرناه جميع النوافل المطلقة والراتبة وصلاة العيد والكسوف والاستسقاء وحكى الخراسانيون وجها أنه لا يجوز العيد والكسوف والاستسقاء قاعدا مع القدرة كالفرائض ، وبه قطع ابن كج وهذا شاذ ضعيف .

وأما الجنازة فسبق في باب التيمم بيان نصوص الشافعي وطرق الأصحاب فيها والمذهب أنها لا تصح قاعدا مع القدرة ; لأن القيام معظم أركانها . والثاني : يجوز والثالث : إن تعينت لم يجز وإلا جاز . قال الرافعي إذا جوزنا الاضطجاع في النفل مع قدرته فهل يجزئ الاقتصار على الإيماء بالركوع والسجود ؟ أم يشترط أن يركع ويسجد كالقاعد ؟ فيه وجهان أصحهما الثاني . قال إمام الحرمين : عندنا أن من جوز الاضطجاع لا يجوز الاقتصار في الأركان الذكرية كالتشهد والتكبير وغيرهما على ذكر القلب ، وهذا الذي قاله إمام الحرمين لا بد منه فلا يجزئ ذكر القلب قطعا ; لأنه حينئذ لا يبقى للصلاة صورة أصلا ، وإنما ورد الحديث بالترخيص في القيام والقعود ، فيبقى ما عداهما على مقتضاه والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية