صفحة جزء
قال المصنف : رحمه الله تعالى ( وإن كان الماء جاريا وفيه نجاسة جارية كالميتة والجرية المتغيرة فالماء الذي قبلها طاهر ; لأنه لم يصل إلى النجاسة ، فهو كالماء الذي يصب على النجاسة من إبريق ، والذي بعدها طاهر أيضا ; لأنه لم يصل إليه النجاسة ، وأما ما يحيط ( بالنجاسة ) من فوقها وتحتها ويمينها وشمالها ، فإن كان قلتين ولم يتغير ، فهو طاهر ، وإن كان دونهما فنجس كالراكد ، وقال أبو العباس بن القاص : فيه قول آخر قاله في القديم : أنه لا ينجس الماء الجاري إلا بالتغير ; لأنه ماء ورد على النجاسة ، فلم ينجس من غير تغير كالماء المزال به النجاسة ، وإن كانت النجاسة واقفة والماء يجري عليها ، فإن ما قبلها وما بعدها طاهر ، وما يجري عليها إن كان قلتين فهو طاهر ، وإن كان دونهما فهو نجس ، وكذا كل ما يجري عليها بعدها فهو نجس ، ولا يطهر شيء من ذلك حتى يركد في موضع ويبلغ قلتين .

وقال أبو إسحاق وأبو العباس بن القاص والقاضي أبو حامد : ما لم يصل إلى الجيفة فهو طاهر ، ( والماء الذي بعد الجيفة ) يجوز أن يتوضأ منه إذا كان بينه وبين الجيفة قلتان ، والأول أصح ; لأن لكل جرية حكم نفسها فلا يعتبر فيه القلتان ) .


( الشرح ) هذا الفصل كله ذكره أصحابنا كما ذكره المصنف ورجحوا ما رجحه ، إلا أن إمام الحرمين والغزالي والبغوي اختاروا فيما إذا كانت النجاسة مائعة مستهلكة لا ينجس الماء ، وإن كان كل جرية دون قلتين ، وهذا غير القول القديم الذي حكاه ابن القاص ، فإن ذاك لا فرق فيه بين النجاسة الجامدة والمائعة ، واحتج الإمام والغزالي لهذا : بأن الأولين لم يزالوا يتوضئون [ ص: 196 ] من الأنهار الصغيرة أسفل من المستنجين ، وهذا الذي اختاره قوي ، وأجاب الإمام عن حديث القلتين : بأن مجموع الماء الذي في هذا النهر يزيد على القلتين ، والمشهور في المذهب والذي عليه الجمهور : أنه لا فرق بين الجاري والراكد ، وكذا نقله الرافعي عن الجمهور ، وأما ما ذكره من وضوء الأولين فلم يثبت أنهم كانوا يتوضئون تحت المستنجين ولا أنهم كانوا يستنجون في نفس الماء ، وقوله : الجرية هي بكسر الجيم وهي الدفعة التي بين حافتي النهر في العرض ، هكذا فسرها أصحابنا ، وأما قوله : فإن كان الذي يحيط بها قلتين فهو طاهر ، فكذا صرح به الأصحاب ، وله أن يتطهر من أي موضع أراد ، ولو من نفس النجاسة ولا يجتنب شيئا ، هذا هو المذهب ، وقيل : يجيء الخلاف في التباعد حكاه إمام الحرمين عن بعض الأصحاب ، وحكاه الغزالي والبغوي وغيرهم ، قال الإمام وقال الأكثرون : لا يجيء ذلك الخلاف ; لأن جريان الماء يمنع انتشار النجاسة .

ثم اختار الإمام والغزالي في البسيط والوسيط : أنه يجب اجتناب حريم النجاسة في الجاري وهو ما ينسب إليها ، وقد سبق أن الغزالي في الوسيط أوجب اجتناب حريم الراكد أيضا ففرق في البسيط بين الحريمين فأوجب اجتنابه في الجاري دون الراكد أو ، كذا فرق شيخه ، قال : لأن الراكد لا حركة له حتى ينفصل البعض عن البعض في الحكم ، والمذهب المشهور الذي قطع به الجمهور : أنه لا يجب اجتناب الحريم لا في الجاري ولا في الراكد ، وكذا نقله الرافعي عن الجمهور وجعله المذهب والله أعلم .

وإذا كانت الجرية التي فيها النجاسة دون القلتين وقلنا : إنها نجسة ، فقال البغوي : محل النجاسة من الماء والنهر نجس ، والجرية التي تعقبها تغسل المحل فهي في حكم غسالة النجاسة ، حتى لو كانت نجاسة كلب ، فلا بد من سبع جريات عليها ، وقوله في النجاسة الواقفة : إن كان ما يجري عليها قلتين فطاهر ، يعني إن كانت الجرية قلتين ، وكذا كل جرية هي قلتان لا تغير فيها فهي طاهرة ، وقوله : إن كانت دونه فنجس يعني على الصحيح الجديد ، وأما على القديم : أن الجاري لا ينجس إلا بالتغير فهو طاهر .

وقوله : ولا يطهر شيء من ذلك حتى يركد في موضع ، فيبلغ قلتين ، وقال أبو إسحاق وابن القاص [ ص: 197 ] إلى قوله : والأول أصح .

هذا الذي صححه هو الذي صححه أصحابنا المصنفون ، وهو قول أكثر المتقدمين ، وعلى هذا لا يزال نجسا ، وإن امتد فراسخ وبلغ مجموعه ألف قلة ، وقد يقال : ماء بلغ ألف قلة لا تغير فيه ، وهو محكوم بنجاسته وهذه صورته ويقال : ماء بلغ ألف قلة ، ولا تغير فيه وهو محكوم بطهارته لا يصح الوضوء ببعضه ، وذلك يتصور في مسألة البئر التي تمعط فيها شعر الفأرة كما سنوضحها في مسائل الفرع إن شاء الله تعالى ، والله أعلم

( فرع ) لو كانت جرية نجسة لمرورها على نجاسة واقفة أو لوقوع نجاسة مائعة فيها أو غير ذلك فاتصلت بماء راكد تبلغ به قلتين إلا أنها لم تختلط به ; لكون أحدهما صافيا ، والآخر كدرا ، حكم بطهارة الجميع بلا خلاف بمجرد الاتصال ، كذا قاله أصحابنا لحديث القلتين ، قالوا : ولأن الاعتبار باجتماع الماء الكثير في مكان واحد ، وقد وجد ذلك ، وكذا لو كان قلتان صافية وكدرة إحداهما نجسة غير متغيرة بالنجاسة فجمعهما وبقي الكدر متميزا غير ممتزج حكم بطهارة الجميع بلا خلاف .

( فرع ) ذكر المصنف هنا القاضي أبا حامد وهو المروذي بالذال المعجمة وبالتشديد واسمه أحمد بن عامر بن بشر ، وهو صاحب أبي إسحاق المروزي ، قال المصنف في طبقاته : كان إماما لا يشق غباره ، نزل البصرة ودرس بها وعنه أخذ فقهاؤها ، وصنف الجامع في المذهب وشرح مختصر المزني وصنف في أصول الفقه ، توفي سنة اثنتين وستين وثلثمائة رحمه الله

( فرع ) ذكر المصنف : أن الماء الذي يصب على نجاسة من إبريق لا ينجس ، ومراده : الذي يتصل طرفه بالنجاسة بحيث يكون الماء متصلا من الإبريق إلى النجاسة ، وإنما لا ينجس ; لأن النجاسة لا تنعطف ، وهذا الذي قاله متفق عليه ، قال إمام الحرمين في كتاب الصيد والذبائح في مسألة عض الكلب : الماء المتصعد من فوارة إذا وقعت نجاسة على أعلاه لا ينجس ما تحته ، ونحو هذا ما ذكره القاضي حسين في الفتاوى ، قال : لو كان كوز يبز الماء [ ص: 198 ] من أسفله فوضع أسفله على نجاسة لا ينجس الماء ; لأن خروج الماء يمنع النجاسة والله أعلم

التالي السابق


الخدمات العلمية