صفحة جزء
قال المصنف - رحمه الله تعالى ( ثم يكبر والتكبير للإحرام فرض من فروض الصلاة لما روي عن علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { مفتاح الصلاة الوضوء وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم } )


( الشرح ) هذا الحديث رواه أبو داود والترمذي وغيرهما بإسناد صحيح ، إلا أن فيه عبد الله بن محمد بن عقيل . قال الترمذي : هذا الحديث أصح شيء في هذا الباب وأحسنه ، قال : وعبد الله بن محمد بن عقيل صدوق ، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه ، قال : وسمعت البخاري يقول : كان أحمد وإسحاق والحميدي يحتجون بحديثه ، وإنما سمي الوضوء مفتاحا ; لأن الحدث مانع من الصلاة كالغلق على الباب يمنع من دخوله إلا بمفتاح ، وقوله صلى الله عليه وسلم ( وتحريمها التكبير ) . قال الأزهري أصل التحريم من قولك : حرمت فلانا كذا أي منعته ، وكل ممنوع فهو حرام وحرم ، فسمى التكبير تحريما ; لأنه يمنع المصلي من الكلام والأكل وغيرهما ( أما حكم المسألة ) فتكبيرة الإحرام ركن من أركان الصلاة لا تصح إلا بها . هذا مذهبنا ومذهب مالك وأحمد وجمهور السلف والخلف . وحكى ابن المنذر وأصحابنا عن الزهري أنه قال : تنعقد الصلاة بمجرد [ ص: 251 ] النية بلا تكبير ، قال ابن المنذر ولم يقل به غير الزهري وحكى أبو الحسن الكرخي عن ابن علية والأصم كقول الزهري وقال الكرخي من أصحاب أبي حنيفة : تكبيرة الإحرام شرط لا تصح الصلاة إلا بها ، ولكن ليست من الصلاة بل هي كستر العورة . ومنهم من حكاه عن أبي حنيفة ويظهر فائدة الخلاف بيننا وبينه فيما لو كبر وفي يده نجاسة ثم ألقاها في أثناء التكبيرة ، أو شرع في التكبيرة قبل ظهور زوال الشمس ثم ظهر الزوال قبل فراغها فلا تصح صلاته عندنا في الصورتين ، وتصح عنده كستر العورة . واحتج للزهري بالقياس على الصوم والحج ، وللكرخي بقوله تعالى : { وذكر اسم ربه فصلى } فعقب الذكر بالصلاة ، فدل على أنه ليس منها ، وبقوله صلى الله عليه وسلم وتحريمها التكبير ، والإضافة تقتضي أن المضاف غير المضاف إليه ، كدار زيد .

ودليلنا على الزهري حديث تحريمها التكبير ، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه في المسيء صلاته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : { إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر ، وذكر الحديث } رواه البخاري ومسلم ، وهذا أحسن الأدلة ; لأنه صلى الله عليه وسلم لم يذكر له في هذا الحديث إلا الفروض خاصة ، وثبت في الصحيحين عن جماعات من الصحابة رضي الله عنهم { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر للإحرام } .

وثبت في صحيح البخاري عن مالك بن الحويرث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { صلوا كما رأيتموني أصلي } وهذا مقتضى وجوب كل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما خرج وجوبه بدليل كرفع اليدين ونحوه . فإن قيل : المراد ما يرى وهي الأفعال دون الأقوال ، فأجاب القاضي أبو الطيب وغيره بجوابين :

( أحدهما ) أن المراد رؤية شخصه صلى الله عليه وسلم وكل شيء فعله صلى الله عليه وسلم أو قاله وجب علينا مثله .

( الثاني ) أن المراد بالرؤية العلم ، أي صلوا كما علمتموني أصلي . [ ص: 252 ] والجواب عن قياسه على الصوم والحج أنهما ليسا مبنيين على النطق بخلاف الصلاة ، ودليلنا على الكرخي حديث معاوية بن الحكم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ، وإنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن } رواه مسلم ، فإن قالوا : المراد به تكبيرات الانتقالات ، فجوابه من وجهين :

( أحدهما ) أنه عام ولا يقبل تخصيصه إلا بدليل :

( والثاني ) أن حمله على تكبيرة لا بد منها بالاتفاق أولى من تكبيرة لا تجب ، والجواب عن قوله تعالى : { وذكر اسم ربه فصلى } أنه ليس المراد بالذكر هنا تكبيرة الإحرام بالإجماع قبل خلاف المخالف . والجواب عن قولهم : الإضافة تقتضي المغايرة أن الإضافة ضربان :

( أحدهما ) تقتضي المغايرة كثوب زيد ، ( والثاني ) تقتضي الجزئية كقوله : رأس زيد ، وصحن الدار ، فوجب حمله على الثاني لما ذكرناه .

( فرع ) قد ذكرنا أن تكبيرة الإحرام لا تصح الصلاة إلا بها ، فلو تركها الإمام أو المأموم سهوا أو عمدا لم تنعقد صلاته ولا تجزئ عنها تكبيرة الركوع ولا غيرها ، هذا مذهبنا ، وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد وداود والجمهور . وقالت طائفة : إذا نسيها فيها أجزأته عنها تكبيرة الركوع ، حكاه ابن المنذر عن سعيد بن المسيب والحسن البصري والزهري وقتادة والحكم والأوزاعي ، ورواية عن حماد بن أبي سليمان . قال العبدري وروي عن مالك في المأموم مثله ، لكنه قال يستأنف الصلاة بعد سلام الإمام .

التالي السابق


الخدمات العلمية