صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( ثم يتعوذ فيقول : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك " قال في الأم : كان ابن عمر رضي الله عنه يتعوذ في نفسه ، وأبو هريرة رضي الله عنه يجهر به ، وأيهما فعل جاز ، قال أبو علي الطبري استحب أن يسر به ; لأنه ليس بقراءة ولا علم على الاتباع ، ويستحب ذلك في الركعة الأولى ، قال في الأم : يقول في أول الركعة ، وقد قيل : إن قاله في كل ركعة فحسن ، ولا آمر به أمري في أول ركعة ، فمن أصحابنا من قال : فيما سوى الأولى قولان :

( أحدهما ) يستحب ; لأنه يستفتح القراءة فيها فهي كالأولى .

( الثانية ) لا يستحب ; لأن استفتاح القراءة في الأولى ، ومن أصحابنا من قال : يستحب في الجميع قولا واحدا ، وإنما في الركعة الأولى أشد استحبابا ، وعليه يدل قول الشافعي رضي الله عنه ) .


( الشرح ) حديث أبي سعيد هذا غريب بهذا اللفظ ، رواه أبو داود في سننه فقال فيه : { إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ونفخه ونفثه } رواه الترمذي ، والمعتمد في الاستدلال على قول الله تعالى { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } وإنما ابتدأ المصنف بالحديث دون الآية ; لأن ظاهر الآية [ ص: 280 ] أن الاستعاذة بعد القراءة وليس فيها كيفية الاستعاذة فاستدل بالحديث ; لأن فيه بيان المحل ، ولكن الحديث ضعيف ، فالجواب الاحتجاج بالآية .

ومعنى : أعوذ بالله ألوذ وأعتصم به ، وألجأ إليه ، والشيطان اسم لكل متمرد عات سمي شيطانا لشطونه عن الخير ، أي تباعده ، وقيل لشيطه ، أي هلاكه واحتراقه ، فعلى الأول النون أصلية وعلى الثاني زائدة ، والرجيم المطرود والمبعد وقيل المرجوم بالشهب ، وقوله : ليس بقراءة ولا علم على الاتباع ، العلم بفتح العين واللام العلامة والدليل واحترز به عن التكبير .

( أما حكم الفصل ) فهو أن التعوذ مشروع في أول ركعة فيقول بعد دعاء الاستفتاح : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هذا هو المشهور الذي نص عليه الشافعي وقطع به الجمهور ، وفيه وجه أنه يستحب أن يقول : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، وبه جزم البندنيجي وحكاه الرافعي وهو غريب . قال الشافعي في الأم وأصحابنا : يحصل التعوذ بكل ما اشتمل على الاستعاذة بالله من الشيطان ، لكن أفضله أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، قال صاحب الحاوي : وبعده في الفضيلة أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، وبعد هذا أعوذ بالله العلي من الشيطان الغوي .

قال البندنيجي : لو قال : أعوذ بالرحمن من الشيطان أو أعوذ بكلمات الله من الشيطان الرجيم أجزأه إن كانت الصلاة سرية بلا خلاف ، وإن كانت جهرية ففيه طريقان :

( أحدهما ) وبه قال أبو علي الطبري وصاحب الحاوي يستحب الإسرار به قولا واحدا ، كدعاء الافتتاح :

( والثاني ) وهو الصحيح المشهور فيه ثلاثة أقوال ( أصحها ) يستحب الإسرار :

( والثاني ) يستحب الجهر ; لأنه تابع للقراءة فأشبه التأمين كما لو قرأ خارج الصلاة فإنه يجهر بالتعوذ قطعا :

( والثالث ) يخير بين الجهر والإسرار ولا ترجيح وهذا ظاهر نصه في الأم كما نقله المصنف واختلفوا من حيث الجملة فصحح الشيخ أبو حامد والمحاملي ونقلا التعوذ في كل ركعة عن ابن سيرين وغلطا ، فهذه طرق الأصحاب والمذهب استحباب التعوذ في كل ركعة ، وصححه القاضي أبو الطيب وإمام الحرمين [ ص: 281 ] والغزالي في البسيط والروياني والشاشي والرافعي وآخرون ، ولو تركه في الأولى عمدا أو سهوا استحب في الثانية بلا خلاف . سواء قلنا : يختص ، بالأولى أم لا بخلاف ما لو ترك دعاء الاستفتاح في الأولى لا يأتي به فيما بعدها بلا خلاف ، قال أصحابنا : والفرق أن الاستفتاح مشروع في أول الصلاة ، وقد فات فصار كالفراغ من الصلاة ، وأما التعوذ فمشروع في أول القراءة والركعة الثانية وما بعدها فيها قراءة .

( فرع ) في مسائل متعلقة بالتعوذ ( إحداها ) قال الشافعي في الأم لو ترك التعوذ عمدا فإن تركه عمدا أو سهوا فليس عليه شيء ( الثانية ) في استحباب التعوذ في القيام الثاني من صلاة الكسوف في الركعة الأولى ، والثانية وجهان حكاهما صاحب الحاوي في باب صلاة الكسوف وهما كالخلاف في الركعة الثانية من سائر الصلوات ( الثالثة ) قال الشافعي والأصحاب : يستحب التعوذ في كل صلاة فريضة أو نافلة أو منذورة لكل مصل من إمام ومأموم ومنفرد ومضطجع ورجل وامرأة وصبي وحاضر ومسافر وقائم وقاعد ومحارب إلا المسبوق الذي يخاف فوت بعض الفاتحة لو اشتغل به فيتركه ويشرع في الفاتحة ويتعوذ في الركعة الأخرى . وفي صلاة الجنازة وجهان ذكرهما المصنف والأصحاب ، الصحيح أنه يستحب فيها التعوذ كالتأمين :

( والثاني ) لا يستحب ; لأنها مبنية على التخفيف ( الرابعة ) التعوذ يستحب لكل من يريد الشروع في قراءة في صلاة أو غيرها ويجهر القارئ خارج الصلاة باتفاق القراء ، ويكفيه التعوذ الواحد ما لم يقطع قراءته بكلام أو سكوت طويل ، فإن قطعها بواحد منهما استأنف التعوذ وإن سجد لتلاوة ثم عاد إلى القراءة لم يتعوذ ; لأنه ليس بفصل أو هو فصل يسير . ذكره المتولي .

( فرع ) في مذاهب العلماء في التعوذ ومحله وصفته والجهر به وتكراره في الركعات واستحبابه للمأموم وأنه سنة أم واجب . أما أصله فاستحبه للمصلي جمهور العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم ، ومنهم ابن عمر وأبو هريرة وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري وابن سيرين [ ص: 282 ] والنخعي والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة وسائر أصحاب الرأي وأحمد وإسحاق وداود وغيرهم وقال مالك لا يتعوذ أصلا لحديث " المسيء صلاته " ودليل الجمهور الآية ، واستدلوا بأحاديث ليست بثابتة فالآية أولى . وأما محله فقال الجمهور : هو قبل القراءة ، وقال أبو هريرة وابن سيرين والنخعي يتعوذ بعد القراءة وكان أبو هريرة يتعوذ بعد فراغ الفاتحة لظاهر الآية . وقال الجمهور : معناها إذا أردت القراءة فاستعذ ، وهو اللائق السابق إلى الفهم . وأما صفته فمذهبنا أنه يستحب أن يقول " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " وبه قال الأكثرون . قال القاضي أبو الطيب وقال الثوري يستحب أن يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم " وقال الحسن بن صالح يقول " أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم " ونقل الشاشي عن الحسن بن صالح " أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، إن الله هو السميع العليم " وحكى صاحب الشامل هذا عن أحمد بن حنبل واحتج بقول الله { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم } وحديث أبي سعيد ، واحتج أصحابنا بقول الله تعالى { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } فقد امتثل الأمر .

وأما الجواب عن الآية التي احتج بها فليست بيانا لصفة الاستعاذة ، بل أمر الله تعالى بالاستعاذة ، وأخبر أنه سميع الدعاء عليم ، فهو حث على الاستعاذة ، والآية التي أخذنا بها أقرب إلى صفة الاستعاذة وكانت أولى ، وأما حديث أبي سعيد رضي الله عنه فسبق أنه ضعيف ، وأما الجهر بالتعوذ في الجهرية فقد ذكرنا أن الراجح في مذهبنا أنه لا يجهر ، وبه قال ابن عمر وأبو حنيفة وقال أبو هريرة يجهر ، وقال ابن أبي ليلى الإسرار والجهر سواء وهما حسنان .

وأما استحبابه في كل ركعة فقد ذكرنا أن الأصح في مذهبنا استحبابه في كل ركعة . وبه قال ابن سيرين وقال عطاء والحسن والنخعي والثوري وأبو حنيفة [ ص: 283 ] يختص التعوذ بالركعة الأولى وأما استحبابه للمأموم فمذهبنا أنه يستحب له كما يستحب للإمام والمنفرد . وقال الثوري وأبو حنيفة لا يتعوذ المأموم ; لأنه لا قراءة عليه عندهما وأما حكمه فمستحب ليس بواجب ، هذا مذهبنا ومذهب الجمهور ، ونقل العبدري عن عطاء والثوري أنهما أوجباه ، قال : وعن داود روايتان ( إحداهما ) وجوبه قبل القراءة ، ودليله ظاهر الآية ودليلنا حديث المسيء صلاته والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية