صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( ويجب أن يبتدئها ب ( بسم الله الرحمن الرحيم ) فإنها آية منها ، والدليل عليه ما روته أم سلمة رضي الله عنها { أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم فعدها آية } ولأن الصحابة رضي الله عنهم أثبتوها فيما جمعوا من القرآن فدل على أنها آية منها ، فإن كان في صلاة يجهر فيها جهر بها كما يجهر بسائر الفاتحة لما روى ابن عباس رضي الله عنهما { أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر ببسم الله الرحمن الرحيم } ولأنها تقرأ على أنها آية من القرآن بدليل أنها تقرأ بعد التعوذ فكان سنتها الجهر كسائر الفاتحة ) .


( الشرح ) حديث أم سلمة رضي الله عنها صحيح رواه ابن خزيمة في صحيحه بمعناه ، وحديث ابن عباس رواه الترمذي وقال : ليس إسناده بذاك ، وسنذكر ما يغني عنه في فرع مذاهب العلماء إن شاء الله تعالى . [ ص: 289 ]

( أما حكم المسألة ) فمذهبنا أن ( بسم الله الرحمن الرحيم ) آية كاملة من أول الفاتحة بلا خلاف ، وليست في أول براءة بإجماع المسلمين ، وأما باقي السور غير الفاتحة وبراءة ففي البسملة في أول كل سورة منها ثلاثة أقوال حكاها الخراسانيون أصحها وأشهرها وهو الصواب أو الأصوب أنها آية كاملة :

( والثاني ) أنها بعض آية :

( والثالث ) أنها ليست بقرآن في أوائل السور غير الفاتحة ، والمذهب أنها قرآن في أوائل السور غير براءة ، ثم هل هي في الفاتحة وغيرها قرآن على سبيل القطع كسائر القرآن ؟ أم على سبيل الحكم لاختلاف العلماء فيها ؟ فيه وجهان مشهوران لأصحابنا حكاهما المحاملي وصاحب الحاوي والبندنيجي :

( أحدهما ) على سبيل الحكم بمعنى أنه لا تصح الصلاة إلا بقراءتها في أول الفاتحة ، ولا يكون قارئا لسورة غيرها بكمالها إلا إذا ابتدأها بالبسملة

( والصحيح ) أنها ليست على سبيل القطع إذ لا خلاف بين المسلمين أن نافيها لا يكفر ، ولو كانت قرآنا قطعا لكفر ، كمن نفى غيرها ، فعلى هذا يقبل في إثباتها خبر الواحد كسائر الأحكام ، وإذا قال : هي قرآن على سبيل القطع لم يقبل في إثباتها خبر الواحد كسائر القرآن وإنما ثبت بالنقل المتواتر عن الصحابة في إثباتها في المصحف كما سيأتي تحريره في فرع مذاهب العلماء إن شاء الله تعالى . وضعف إمام الحرمين وغيره قول من قال : إنها قرآن على سبيل القطع ، قال الإمام هذه غباوة عظيمة من قائل هذا ; لأن ادعاء العلم حيث لا قاطع محال . وقال صاحب الحاوي : قال جمهور أصحابنا : هي آية حكما لا قطعا ، وقال أبو علي بن أبي هريرة هي آية من أول كل سورة غير براءة قطعا ، ولا خلاف عندنا أنها تجب قراءته في أول الفاتحة ولا تصح الصلاة إلا بها ; لأنها كباقي الفاتحة ، قال الشافعي والأصحاب : ويسن الجهر بالبسملة في الصلاة الجهرية في الفاتحة وفي السورة وهذا لا خلاف فيه عندنا .

( فرع ) في مذاهب العلماء في إثبات البسملة وعدمها

اعلم أن مسألة البسملة عظيمة مهمة ينبني عليها صحة الصلاة التي هي [ ص: 290 ] أعظم الأركان بعد التوحيد ، ولهذا المحل الأعلى الذي ذكرته من وصفها اعتنى العلماء من المتقدمين والمتأخرين بشأنها ، وأكثروا التصانيف فيها مفردة ، وقد جمع الشيخ أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي الدمشقي ذلك في كتابه المشهور ، وحوى فيه معظم المصنفات في ذلك مجلدا كبيرا وأنا إن شاء الله تعالى أذكر هنا جميع مقاصده مختصرة وأضم إليها تتمات لا بد منها فأقول : قد ذكرنا أن مذهبنا أن البسملة آية من أول الفاتحة بلا خلاف ، فكذلك هي آية كاملة من أول كل سورة غير براءة على الصحيح من مذهبنا كما سبق ، وبهذا قال خلائق لا يحصون من السلف . قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر : هذا قول ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وطاوس وعطاء ومكحول وابن المنذر وطائفة ، وقال : ووافق الشافعي في كونها من الفاتحة أحمد وإسحاق وأبو عبيد وجماعة من أهل الكوفة ومكة وأكثر أهل العراق وحكاه الخطابي أيضا عن أبي هريرة وسعيد بن جبير ورواه البيهقي في كتابه الخلافيات بإسناده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه والزهري وسفيان الثوري وفي السنن الكبير له عن علي وابن عباس وأبي هريرة ومحمد بن كعب رضي الله عنهم .

وقال مالك والأوزاعي وأبو حنيفة وداود ليست البسملة في أوائل السور كلها قرآنا لا في الفاتحة ولا في غيرها ، وقال أحمد هي آية في أول الفاتحة وليست بقرآن في أوائل السور . وعنه رواية أنها ليست من الفاتحة أيضا . وقال أبو بكر الرازي من الحنفية وغيره منهم : هي آية بين كل سورتين غير الأنفال وبراءة ، وليست من السور ، بل هي قرآن كسور قصيرة ، وحكي هذا عن داود وأصحابه أيضا ، ورواية عن أحمد وقال محمد بن الحسن ما بين دفتي المصحف قرآن ، وأجمعت الأمة على أنه لا يكفر من أثبتها ولا من نفاها لاختلاف العلماء فيها ، بخلاف ما لو نفى حرفا مجمعا عليه أو أثبت ما لم يقل به أحد ، فإنه يكفر بالإجماع ، وهذا في البسملة التي في أوائل السور غير براءة ، وأما البسملة في أثناء سورة النمل { إنه من سليمان وإنه : بسم الله الرحمن الرحيم } فقرآن بالإجماع فمن جحد منها حرفا كفر بالإجماع . [ ص: 291 ]

واحتج من نفاها في أول الفاتحة وغيرها من السور بأن القرآن لا يثبت بالظن ولا يثبت إلا بالتواتر . وبحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم { قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد . الحمد لله رب العالمين } إلى آخر الحديث ، ولم يذكر البسملة ، رواه مسلم ، وقد سبق قريبا بطوله ، وبحديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { إن من القرآن سورة ثلاثين آية شفعت لرجل حتى غفر له وهي { تبارك الذي بيده الملك } } رواه أبو داود والترمذي ، وقال : حديث حسن ، وفي رواية أبي داود " تشفع " قالوا : وقد أجمع القراء على أنها ثلاثون آية سوى البسملة وبحديث عائشة في مبدأ الوحي { أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : { اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم } ولم يذكر البسملة في أولها } رواه البخاري ومسلم وبحديث أنس رضي الله عنه قال { صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فلم أسمع أحدا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم } رواه مسلم وفي رواية له { فكانوا يفتتحون ب { الحمد لله رب العالمين } لا يذكرون : بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا آخرها } ( قالوا ) ولأنها لو كانت من القرآن لكفر جاحدها وأجمعنا أنه لا يكفر ( قالوا ) ولأن أهل العدد مجمعون على ترك عدها آية من غير الفاتحة ، واختلفوا في عدها في الفاتحة ، قالوا : ونقل أهل المدينة بأسرهم عن آبائهم التابعين عن الصحابة رضي الله عنه افتتاح الصلاة ب { الحمد لله رب العالمين } ( قالوا : وقد { قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب تقرأ أم القرآن فقال : { الحمد لله رب العالمين } } ) .

واحتج أصحابنا بأن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على إثباتها في المصحف في أوائل السور جميعا سوى براءة بخط المصحف ، بخلاف الأعشار وتراجم السور ، فإن العادة كتابتها بحمرة ونحوها ، فلو لم تكن قرآنا لما استجازوا إثباتها بخط المصحف من غير تمييز ; لأن ذلك يحمل على اعتقاد أنها قرآن فيكونون مغررين بالمسلمين ، حاملين لهم على اعتقاد ما ليس [ ص: 292 ] بقرآن قرآنا فهذا مما لا يجوز اعتقاده في الصحابة رضي الله عنهم ، قال أصحابنا : هذا أقوى أدلتنا في إثباتها .

قال الحافظ أبو بكر البيهقي أحسن ما يحتج به أصحابنا كتابتها في المصاحف التي قصدوا بكتابتها نفي الخلاف عن القرآن ، فكيف يتوهم عليهم أنهم أثبتوا مائة وثلاث عشرة آية ليست من القرآن ، قال الغزالي في المستصفى : أظهر الأدلة كتابتها بخط القرآن قال : ونحن نقنع في هذه المسألة بالظن ولا شك في حصوله ( فإن قيل ) لعلها أثبتت للفصل بين السور ( فجوابه ) من أوجه :

( أحدها ) أن هذا فيه تغرير لا يجوز ارتكابه لمجرد الفصل :

( والثاني ) أنه لو كان للفصل لكتبت بين براءة والأنفال ، ولما حسن كتابتها في أول الفاتحة ( الثالث ) أن الفصل كان ممكنا بتراجم السور كما حصل بين براءة والأنفال .

فإن قيل : لعلها كتبت للتبرك بذكر الله ، فجوابه من هذه الأوجه الثلاثة ، ومن وجه رابع أنه لو كانت للتبرك لاكتفى بها في أول المصحف ، أو لكتبت في أول براءة ، ولما كتبت في أوائل السور التي فيها ذكر الله كالفاتحة والأنعام وسبحان والكهف والفرقان والحديد ونحوها فلم يكن حاجة إلى البسملة ، ولأنهم قصدوا تجريد المصحف مما ليس بقرآن . ولهذا لم يكتبوا التعوذ والتأمين مع أنه صح الأمر بهما ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما تلا الآيات النازلة في براءة عائشة رضي الله عنها لم يبسمل ، ولما تلا سورة الكوثر حين نزولها بسمل ، فلو كانت للتبرك لكانت الآيات في براءة عائشة أولى مما يتبرك فيه لما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وأهله وأصحابه من السرور بذلك .

وعن أم سلمة رضي الله عنها { أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم في أول الفاتحة في الصلاة وعدها آية } وعن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى { ولقد آتيناك سبعا من المثاني } قال : هي فاتحة الكتاب ، قال فأين السابعة ؟ قال ( بسم الله الرحمن الرحيم ) رواهما ابن خزيمة في صحيحه ، ورواهما البيهقي وغيره . وعن أنس رضي الله عنه [ ص: 293 ] قال { بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاء ثم رفع رأسه متبسما فقلنا : ما أضحكك يا رسول الله ؟ قال أنزلت علي سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم : { إنا أعطيناك الكوثر ، فصل لربك وانحر ، إن شانئك هو الأبتر } } رواه مسلم . وعن أنس رضي الله عنه { أنه سئل عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فقال كانت مدا ثم قرأ : بسم الله الرحمن الرحيم يمد بسم الله ويمد الرحمن ويمد الرحيم } رواه البخاري .

وعن ابن عباس قال { كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم } رواه الحاكم في المستدرك ، وقال حديث صحيح على شرط البخاري ومسلم ، ورواه أبو داود وغيره . وأخرج الحاكم في المستدرك أيضا ثلاثة أحاديث كلها عن عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما ( الأول ) { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا جاءه جبريل عليه السلام فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم علم أنها سورة } ( الثاني ) { كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم ختم السورة حتى ينزل بسم الله الرحمن الرحيم } ( الثالث ) كان المسلمون لا يعلمون انقضاء السورة حتى ينزل بسم الله الرحمن الرحيم وفي سنن البيهقي عن علي وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم رضي الله عنهم " أن الفاتحة هي السبع من المثاني وهي السبع آيات وأن البسملة هي الآية السابعة " وفي سنن الدارقطني عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا قرأتم الحمد فاقرءوا : بسم الله الرحمن الرحيم إنها أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها } قال الدارقطني : رجال إسناده كلهم ثقات وروي موقوفا .

فهذه الأحاديث متعاضدة محصلة للظن القوي بكونها قرآنا حيث كتبت ، والمطلوب هنا هو الظن لا القطع ، خلاف ما ظنه القاضي أبو بكر الباقلاني حيث شنع على مذهبنا وقال : لا يثبت القرآن بالظن ، وأنكر عليه الغزالي وأقام الدليل على أن الظن يكفي فيما نحن فيه ( مما ) ذكره حديث [ ص: 294 ] كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف ختم السورة حتى ينزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم فقال : والقاضي معترف بهذا لكنه تأوله على أنها كانت تنزل ولم تكن قرآنا . قال : وليس كل منزل قرآنا . قال الغزالي وما من مصنف إلا ويرد هذا التأويل ويضعفه . واعترف أيضا بأن البسملة كتبت بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوائل السور مع إخباره صلى الله عليه وسلم أنها منزلة ، وهذا موهم كل أحد أنها قرآن ودليل قاطع أو كالقاطع أنها قرآن فلا وجه لترك بيانها لو لم تكن قرآنا .

فإن قيل : لو كانت قرآنا لبينها ، فالجواب أنه صلى الله عليه وسلم اكتفى بقوله إنها منزلة ، وبإملائها على كتابه وبأنها تكتب بخط القرآن ، كما لم يبين عند إملاء كل آية أنها قرآن اكتفاء بعلم ذلك من قرينة الحال ومن التصريح بالإنزال .

فإن قيل : قوله لا يعرف فصل السور ، دليل على أنها للفصل ، قلنا موضع الدلالة قوله : حتى ينزل فأخبر بنزولها ، وهذا صفة كل القرآن ، وتقدير الله لا يعرف بالشروع في سورة أخرى إلا بالبسملة فإنها لا تنزل إلا في أوائل السور قال الغزالي في آخر كلامه : الغرض بيان أن المسألة ليست قطعية بل ظنية وأن الأدلة وإن كانت متعارضة فجواب الشافعي فيها أرجح وأغلب . وأما الجواب عن قولهم لا يثبت القرآن إلا بالتواتر فمن وجهين :

( أحدهما ) أن إثباتها في المصحف في معنى التواتر :

( والثاني ) أن التواتر إنما يشترط فيما يثبت قرآنا على سبيل القطع ، أما ما يثبت قرآنا على سبيل الحكم فيكفي فيه الظن كما سبق بيانه ، والبسملة قرآن على سبيل الحكم على الصحيح ، وقول جمهور أصحابنا كما سبق .

وأما الجواب عن حديث " قسمت الصلاة " فمن أوجه ذكرها أصحابنا :

( أحدها ) أن البسملة إنما لم تذكر لاندراجها في الآيتين بعدها ( الثاني ) أن يقال معناه فإذا انتهى العبد في قراءته إلى { الحمد لله رب العالمين } وحينئذ تكون البسملة داخلة ( الثالث ) أن يقال المقسوم ما يختص بالفاتحة من الآيات [ ص: 295 ] الكاملة واحترزنا بالكاملة عن قوله تعالى { وقيل الحمد لله رب العالمين } وعن قوله تعالى : { وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين } وأما البسملة فغير مختصة ( الرابع ) لعله قاله قبل نزول البسملة فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينزل عليه الآية فيقول : ( ضعوها في سورة كذا ) .

( الخامس ) أنه جاء ذكر البسملة في رواية الدارقطني والبيهقي قال { فإذا قال العبد بسم الله الرحمن الرحيم يقول الله ذكرني عبدي } ولكن إسنادها ضعيف .

فإن قيل : قد أجمعت الأمة على أن الفاتحة سبع آيات . واختلف في السابعة فمن جعل البسملة آية قال السابعة { صراط الذين } إلى آخر السورة ، ومن نفاها قال { صراط الذين أنعمت عليهم } سادسة " و { غير المغضوب عليهم } إلى آخرها هي السابعة ، قالوا : ويترجح هذا ; لأن به يحصل حقيقة التنصيف فتكون لله تعالى ثلاث آيات ونصف والعبد مثلها ، وموضع التنصيف { إياك نعبد وإياك نستعين } فلو عدت البسملة آية ولم يعد { غير المغضوب عليهم } فصار لله تعالى أربع آيات ونصف وللعبد آيتان ونصف ، وهذا خلاف تصريح الحديث بالتنصيف ، فالجواب من أوجه :

" أحدها " منع إرادة حقيقة التنصيف ، بل هو من باب قول الشاعر :


إذا مت كان الناس نصفين شامت وآخر مثن بالذي كنت أصنع

.

فيكون المراد أن الفاتحة قسمان ، فأولها لله تعالى وآخرها للعبد ( والثاني ) أن المراد بالتنصيف قسمان الثناء والدعاء من غير اعتبار لعدد الآيات ( الثالث ) أن الفاتحة إذا قسمت باعتبار الحروف والكلمات - والبسملة منها - كان التنصيف في شطريها أقرب مما إذا قسمت بحذف البسملة ، فلعل المراد تقسيمها باعتبار الحروف . فإن قيل يترجح جعل الآية السابعة { غير [ ص: 296 ] المغضوب } لقوله : فإذا قال العبد { اهدنا الصراط } إلى آخر السورة ، قال : فهؤلاء لعبدي ، فلفظة هؤلاء جمع يقتضي ثلاث آيات ، وعلى قول الشافعي ليس للعبد إلا آيتان ، فالجواب أن أكثر الرواة رووه : فهذا لعبدي ، وهو الذي رواه مسلم في صحيحه ، وإن كان ( هؤلاء ) ثابتة في سنن أبي داود والنسائي بإسناديهما الصحيحين .

وعلى هذه الرواية تكون الإشارة بهؤلاء إلى الكلمات أو إلى الحروف أو إلى آيتين ونصف من قوله تعالى { وإياك نستعين } إلى آخر السورة ، ومثل هذا يجمع كقول الله تعالى { الحج أشهر معلومات } والمراد شهران وبعض الثالث أو إلى آيتين فحسب ، وذلك يطلق عليه اسم الجمع بالاتفاق ، ولكن اختلفوا في أنه حقيقة أم مجاز وحقيقته ثلاثة والأكثرون على أنه مجاز في الاثنين ، حقيقة في الثلاثة .

قال الشيخ أبو محمد المقدسي هذا كله إذا سلمنا أن التنصف توجه إلى آيات الفاتحة ، وذلك ممنوع من أصله ، وإنما التنصف متوجه إلى الصلاة بنص الحديث . فإن قالوا : المراد قراءة الصلاة . قلنا : بل المراد قسمة ذكر الصلاة أي الذكر المشروع فيها ، وهو ثناء ودعاء ، فالثناء منصرف إلى الله تعالى ، سواء ما وقع منه في القراءة وما وقع في الركوع والسجود وغيرهما . والدعاء منصرف إلى العبد ، سواء ما وقع منه في القراءة والركوع والسجود وغيرها ، ولا يشترط التساوي في ذلك لما سبق .

ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بعد إخباره بقسمة أذكار الصلاة أمرا آخر وهو ما يقوله الله تعالى عند قراءة العبد هذه الآيات التي هي من جملة المقسوم ، لا أن ذلك تفسير بعض المقسوم ، فإن قيل يترجح كونه تفسيرا لذكره عقيبه . قلنا ليس كذلك ; لأن قراءة الصلاة غير منحصرة في الفاتحة ، فحمل الحديث على قسمة الذكر أعم وأكثر فائدة ، فهذا الحديث هو عمدة نفاة البسملة وقد بان أمره والجواب عنه . وأما الجواب عن حديث شفاعة تبارك هو أن المراد ما سوى البسملة ; لأنها غير مختصة بهذه السورة ، ويحتمل أن يكون هذا الحديث قبل نزول البسملة فيها فلما نزلت أضيفت إليها بدليل كتابتها في المصحف ، ويؤيد [ ص: 297 ] تأويل هذا الحديث أنه رواية أبي هريرة فمن يثبت البسملة فهو أعلم بتأويله . وأما الجواب عن حديث مبدأ الوحي وهو أن البسملة نزلت بعد ذلك كنظائر لها من الآيات المتأخرة عن سوره في النزول فهذا هو الجواب المعتمد وبه أجاب الشيخ أبو حامد وسليم الرازي وغيرهما ( وجواب آخر ) وهو أن البسملة نزلت أولا وروي في ذلك حديث عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { أول ما ألقى علي جبريل : بسم الله الرحمن الرحيم } ونقله الواحدي في أسباب النزول عن الحسن وعكرمة وهذا ليس بثابت فلا اعتماد عليه . وأما حديث أنس فسيأتي جوابه في مسألة الجهر بالبسملة ، وأما قولهم : لو كانت قرآنا لكفر جاحدها فجوابه من وجهين :

( أحدهما ) أن يقلب عليهم فيقال : لو لم تكن قرآنا لكفر مثبتها ( الثاني ) أن الكفر لا يكون بالظنيات ، بل بالقطعيات والبسملة ظنية . وأما قولهم : أجمع أهل العدد على أنه لا تعد آية ، فجوابه من وجهين ( أحدهما ) أن أهل العدد ليسوا كل الأمة حتى يكون إجماعهم حجة ، بل هم طائفة من الناس عدوا كذلك إما ; لأن مذهبهم نفي البسملة ، وإما لاعتقادهم أنها بعض آية ، وأنها مع أول السورة آية ( الثاني ) أنه معارض بما ورد عن ابن عباس وغيره " من تركها فقد ترك مائة وثلاث عشرة آية " .

وأما الجواب عن نقل أهل المدينة وإجماعهم فلا نسلم إجماعهم ، بل قد اختلف أهل المدينة في ذلك كما سبق الخلاف عن الصحابة فمن بعدهم من أهل المدينة وغيرهم وستأتي قصة معاوية حين تركها في صلاته فأنكر عليه المهاجرون والأنصار فأي إجماع مع هذا ؟ قال ابن عبد البر : الخلاف في المسألة موجود قديما وحديثا قال : ولم يختلف أهل مكة أن بسم الله الرحمن الرحيم أول آية من الفاتحة ولو ثبت إجماع أهل المدينة لم يكن حجة مع وجود الخلاف لغيرهم هذا مذهب الجمهور .

وأما قولهم : { قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب كيف تقرأ أم القرآن ؟ فقال : الحمد لله رب العالمين } فجوابه أن هذا غير ثابت وإنما لفظه في كتاب الترمذي " كيف تقرأ في الصلاة فقرأ أم القرآن " وهذا [ ص: 298 ] لا دليل فيه ، وفي سنن الدارقطني عكس ما ذكروه وهو { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبريدة : بأي شيء تستفتح القرآن إذا افتتحت الصلاة ؟ قال : قلت : بسم الله الرحمن الرحيم } وعن علي وجابر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم معناه والله أعلم .

( فرع ) في مذاهب العلماء في الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم : قد ذكرنا أن مذهبنا استحباب الجهر بها حيث يجهر بالقراءة في الفاتحة والسورة جميعا فلها في الجهر حكم باقي الفاتحة والسورة ، هذا قول أكثر العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الفقهاء والقراء ، فأما الصحابة الذين قالوا به فرواه الحافظ أبو بكر الخطيب عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعمار بن ياسر وأبي بن كعب وابن عمر وابن عباس وأبي قتادة وأبي سعيد وقيس بن مالك وأبي هريرة وعبد الله بن أبي أوفى وشداد بن أوس وعبد الله بن جعفر والحسين بن علي وعبد الله بن جعفر ومعاوية وجماعة المهاجرين والأنصار الذين حضروه لما صلى بالمدينة وترك الجهر فأنكروا عليه فرجع إلى الجهر بها رضي الله عنهم أجمعين .

قال الخطيب : وأما التابعون ومن بعدهم ممن قال بالجهر بها فهم أكثر من أن يذكروا وأوسع من أن يحصروا ، ومنهم سعيد بن المسيب وطاوس وعطاء ومجاهد وأبو وائل وسعيد بن جبير وابن سيرين وعكرمة وعلي بن الحسين وابنه محمد بن علي وسالم بن عبد الله ومحمد بن المنكدر وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ومحمد بن كعب ونافع مولى ابن عمر وعمر بن عبد العزيز وأبو الشعثاء ومكحول وحبيب بن أبي ثابت والزهري وأبو قلابة وعلي بن عبد الله بن عباس وابنه محمد بن علي والأزرق بن قيس وعبد الله بن معقل بن مقرن فهؤلاء من التابعين ، قال الخطيب : وممن قال به بعد التابعين عبد الله بن عمر العمري والحسن بن زيد وعبد الله بن حسن وزيد بن علي بن حسين ومحمد بن عمر بن علي وابن أبي ذئب والليث بن سعد وإسحاق بن راهويه ورواه البيهقي عن بعض هؤلاء وزاد في التابعين عبد الله بن صفوان [ ص: 299 ] ومحمد بن الحنفية وسليمان التيمي وممن تابعهم المعتمر بن سليمان ونقله ابن عبد البر عن بعض هؤلاء وزاد فقال : هو قول جماعة أصحاب ابن عباس طاوس وعكرمة وعمرو بن دينار وقول ابن جريج ومسلم بن خالد وسائر أهل مكة وهو أحد قولي ابن وهب صاحب مالك وحكاه غيره عن ابن المبارك وأبي ثور وقال الشيخ أبو محمد المقدسي والجهر بالبسملة هو الذي قرره الأئمة الحفاظ واختاروه وصنفوا فيه مثل محمد بن نصر المروزي وأبي بكر بن خزيمة وأبي حاتم بن حبان وأبي الحسن الدارقطني وأبي عبد الله الحكم وأبي بكر البيهقي والخطيب وأبي عمر بن عبد البر وغيرهم رحمهم الله .

وفي كتاب الخلافيات للبيهقي عن جعفر بن محمد قال : أجمع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على الجهر " ببسم الله الرحمن الرحيم " ونقل الخطيب عن عكرمة أنه كان لا يصلي خلف من لا يجهر " ببسم الله الرحمن الرحيم " . وقال أبو جعفر محمد بن علي لا ينبغي الصلاة خلف من لا يجهر ، قال أبو محمد : واعلم أن أئمة القراءة السبعة ( منهم ) من تروى البسملة بلا خلاف عنه ( ومنهم ) من روي عنه الأمران ، وليس فيهم من لم يبسمل بلا خلاف عنه فقد بحثت عن ذلك أشد البحث فوجدته كما ذكرته ثم كل من رويت عنه البسملة ذكرت بلفظ الجهر إلا روايات شاذة جاءت عن حمزة - رحمه الله - بالإسرار بها وهذا كله مما يدل من حيث الإجمال على ترجيح إثبات البسملة والجهر بها . وفي كتاب البيان لابن أبي هاشم عن أبي القاسم بن المسلمي قال : كنا نقرأ { بسم الله الرحمن الرحيم } في أول فاتحة الكتاب ، وفي أول سورة البقرة وبين السورتين في الصلاة ، وفي الفرض كان هذا مذهب القراء بالمدينة .

وذهبت طائفة إلى أن السنة الإسرار بها في الصلاة السرية والجهرية وهذا حكاه ابن المنذر عن علي بن أبي طالب وابن مسعود وعمار بن ياسر وابن الزبير والحكم وحماد والأوزاعي والثوري وأبي حنيفة وهو مذهب أحمد بن حنبل وأبي عبيد وحكي عن النخعي وحكى القاضي أبو الطيب وغيره [ ص: 300 ] عن ابن أبي ليلى والحكم أن الجهر والإسرار سواء . واعلم أن مسألة الجهر ليست مبنية على مسألة إثبات البسملة ; لأن جماعة ممن يرى الإسرار بها لا يعتقدونها قرآنا بل يرونها من سننه كالتعوذ والتأمين ، وجماعة ممن يرى الإسرار بها يعتقدونها قرآنا وإنما أسروا بها ، وجهر أولئك لما ترجح عند كل فريق من الأخبار والآثار .

واحتج من يرى الإسرار بحديث أنس رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانوا يفتتحون الصلاة ب { الحمد لله رب العالمين } } رواه البخاري ، وعن أنس أيضا رضي الله عنه قال { صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم } رواه مسلم ، وعنه { صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يفتتحون ب { الحمد لله رب العالمين } لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخرها } رواه مسلم

وفي رواية الدارقطني { فلم أسمع أحدا منهم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم } وعن عائشة رضي الله عنها قالت : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة ب { الحمد لله رب العالمين } } رواه مسلم ، وروي عن ابن عبد الله بن مغفل : { سمعني أبي وأنا أقرأ بسم الله الرحمن الرحيم فقال : أي بني إياك والحدث فإني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع رجلا منهم يقوله فإذا قرأت فقل : الحمد لله رب العالمين } رواه الترمذي والنسائي قال الترمذي : حديث حسن وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال { ما جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة مكتوبة ببسم الله الرحمن الرحيم ولا أبو بكر ولا عمر رضي الله عنهما } .

قالوا : ولأن الجهر بها منسوخ ، قال سعيد بن جبير { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم بمكة وكان أهل مكة [ ص: 301 ] يدعون مسيلمة الرحمن فقالوا : إن محمدا يدعو إلى إله اليمامة فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخفاها فما جهر بها حتى مات } .

قالوا : وسئل الدارقطني بمصر حين صنف كتاب الجهر فقال : لم يصح في الجهر بها حديث . قالوا : وقال بعض التابعين : الجهر بها بدعة قالوا : وقياسا على التعوذ قالوا : ولأنه لو كان الجهر ثابتا لنقل نقلا متواترا أو مستفيضا كوروده في سائر القراءة .

واحتج أصحابنا والجمهور على استحباب الجهر لأحاديث وغيرها جمعها ولخصها الشيخ أبو محمد المقدسي فقال : اعلم أن الأحاديث الواردة في الجهر كثيرة ، منهم من صرح بذلك ، ومنهم من فهم من عبارته . ولم يرد تصريح بالإسرار بها عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا روايتان :

( إحداهما ) عن ابن مغفل وهي ضعيفة .

: ( والثانية ) عن أنس وهي معللة بما أوجب سقوط الاحتجاج بها كما سنوضحه إن شاء الله تعالى ، ومنهم من استدل بحديث " قسمت الصلاة " السابق ولا دليل فيه على الإسرار ومنهم من يستدل بحديث عن عائشة وحديث عن ابن مسعود واعتمادهم على حديثي أنس وابن مغفل ولم يدع أبو الفرج بن الجوزي في كتابه التحقيق غيرهما ، فقال : لنا حديثان فذكرهما ، وسنوضح أنه لا حجة فيهما ، وأما أحاديث الجهر فالحجة قائمة بما يشهد له بالصحة ، منها - وهو ما روي عن ستة من الصحابة أبي هريرة وأم سلمة وابن عباس وأنس وعلي بن أبي طالب وسمرة بن جندب رضي الله عنهم - أما أبو هريرة فوردت عنه أحاديث دالة على ذلك من ثلاثة أوجه .

( الأول ) ما هو مستنبط من متفق على صحته رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة " قال في كل صلاة قراءة " وفي رواية " بقراءة " وفي أخرى " لا صلاة إلا بقراءة " قال أبو هريرة " فما أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلناه لكم ، وما أخفاه أخفيناه لكم " وفي رواية " فما أسمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسمعناكم وما أخفى منا أخفيناه منكم " كل هذه الألفاظ في الصحيح ، وبعضها في الصحيحين ، وبعضها في أحدهما ، ومعناه يجهر بما جهر به ويسر بما أسر به ، ثم قد ثبت عن أبي هريرة أنه كان يجهر في [ ص: 302 ] صلاته بالبسملة فدل على أنه سمع الجهر بها من رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قال الخطيب أبو بكر الحافظ البغدادي : الجهر بالتسمية مذهب لأبي هريرة حفظ عنه واشتهر به ورواه عنه غير واحد من أصحابه .

( الوجه الثاني ) حديث نعيم بن عبد الله المجمر قال { صليت وراء أبي هريرة رضي الله عنه فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ثم قرأ بأم الكتاب حتى إذا بلغ ولا الضالين قال : آمين وقال الناس : آمين ويقول كلما سجد : الله أكبر وإذا قام من الجلوس من الاثنين قال : الله أكبر ثم يقول إذا سلم ، والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم } رواه النسائي في سننه وابن خزيمة في صحيحه قال ابن خزيمة في مصنفه : فأما الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة فقد صح وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد ثابت متصل لا شك ولا ارتياب عند أهل المعرفة بالأخبار في صحة سنده واتصاله ، فذكر هذا الحديث ، ثم قال : فقد بان وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة .

وأخرجه أبو حاتم بن حبان في صحيحه والدارقطني في سننه وقال هذا حديث صحيح ورواته كلهم ثقات ورواه الحاكم في المستدرك على الصحيح وقال : هذا حديث صحيح على شرط البخاري ومسلم ، واستدل به الحافظ البيهقي في كتاب الخلافيات ثم قال : رواة هذا الحديث كلهم ثقات مجمع على عدالتهم محتج بهم في الصحيح ، وقال في السنن الكبير : وهو إسناد صحيح وله شواهد ، واعتمد عليه الحافظ أبو بكر الخطيب في أول كتابه الذي صنفه في الجهر بالبسملة في الصلاة ، فرواه من وجوه متعددة مرضية ، ثم قال : هذا الحديث ثابت صحيح لا يتوجه عليه تعليل في اتصاله وثقة رجاله .

( الوجه الثالث ) ما رواه الدارقطني في سننه من طريقين عن منصور بن أبي مزاحم قال حدثنا إدريس عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم { أنه كان إذا قرأ وهو يؤم الناس افتتح بسم الله الرحمن الرحيم قال أبو هريرة هي آية من كتاب الله اقرءوا إن شئتم فاتحة الكتاب فإنها الآية السابعة } ، وفي رواية { أن النبي [ ص: 303 ] صلى الله عليه وسلم كان إذا أم الناس قرأ بسم الله الرحمن الرحيم } قال الدارقطني : رجال إسناده كلهم ثقات . وقال الخطيب : قد روى جماعة عن أبي هريرة { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم } ويأمر به فذكر هذا الحديث " وقال بدل قرأ : جهر وعن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة قال { كان النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم } وعن أبي حازم عن أبي هريرة قال { كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بقراءة بسم الله الرحمن الرحيم } قال الشيخ أبو محمد المقدسي فلا عذر لمن يترك صريح هذه الأحاديث عن أبي هريرة ويعتمد رواية حديث " قسمت الصلاة " ويحمله على ترك التسمية مطلقا ، أو على الإسرار وليس في ذلك تصريح بشيء منهما والجميع رواية صحابي واحد ، فالتوفيق بين رواياته أولى من اعتقاد اختلافها مع أن هذا الحديث الذي رواه الدارقطني بإسناد حديث { قسمت الصلاة } بعينه فوجب حمل الحديثين على ما صرح به في أحدهما .

وأما حديث أم سلمة فرواه جماعة من الثقات عن ابن جريج عن عبد الله بن أبي مليكة عنها رضي الله عنها قالت { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع قراءته { بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين } } وفي رواية { كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم يقطعها حرفا حرفا } وفي رواية { كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرأ يقطع قراءته آية آية } رواه الحاكم في المستدرك وابن خزيمة والدارقطني وقال : إسناده كلهم ثقات وهو إسناد صحيح . وقال الحاكم في المستدرك : هو صحيح على شرط البخاري ومسلم ورواه عمر بن هارون البلخي عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن أم سلمة { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في الصلاة { بسم الله الرحمن الرحيم } فعدها آية { الحمد لله رب العالمين } آيتين { الرحمن الرحيم } ثلاث آيات { مالك يوم الدين } أربع آيات وقال : هكذا { إياك نعبد وإياك نستعين } وجمع خمس أصابعه } قال أبو محمد [ ص: 304 ] لما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه المقاطيع أخبر عنه أنه عند كل مقطع آية ; لأنه جمع عليه أصابعه ، فبعض الرواة حين حدث بهذا الحديث نقل ذلك زيادة في البيان . وعن عمر بن هارون هذا كلام لبعض الحفاظ إلا أن حديثه أخرجه ابن خزيمة في صحيحه ، وأما الزيادة التي في حديثه وهي قوله قرأ في الصلاة فرواها الطحاوي من حديث ابن جريج بسنده وذكر الرازي له تأملات ضعيفة أبطلتها في الكتاب الطويل .

وأما حديث ابن عباس فرواه الدارقطني في سننه والحاكم في المستدرك بإسنادهما عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال { كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم } قال الحاكم : هذا إسناد صحيح وليس له علة . وأخرج الدارقطني حديثين كلاهما عن ابن عباس ، وقال في كل واحد منهما : هذا إسناد صحيح ليس في رواته مجروح :

( أحدهما ) { أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر ببسم الله الرحمن الرحيم } :

( والثاني ) { كان النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم } وهذا الثاني رواه الترمذي وقال : ليس إسناده بذاك .

قال أبو محمد المقدسي فحصل لنا والحمد لله عدة أحاديث عن ابن عباس صححها الأئمة لم يذكر ابن الجوزي في التحقيق شيئا منها ، بل ذكر حديثا رواه عمر بن حفص المكي عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس { أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في السورتين حتى قبض } قال ابن الجوزي : وعمر بن حفص أجمعوا على تركه ، وليس هذا بإنصاف ولا تحقيق فإنه يوهم أنه ليس عن ابن عباس في الجهر سوى هذا الحديث الضعيف .

وأما حديث أنس فالاستدلال به من أوجه ( الأول ) أن في صحيح البخاري من حديث عمرو بن عاصم عن همام وجرير عن قتادة قال سئل أنس { كيف كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : كانت مدا ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمد بسم الله ويمد الرحمن ويمد الرحيم } قال الحافظ أبو بكر محمد بن موسى الحازمي : هذا حديث صحيح لا نعرف له علة . قال : وفيه دلالة على الجهر مطلقا يتناول الصلاة وغيرها ; لأن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم لو اختلفت في [ ص: 305 ] الجهر بين حالتي الصلاة وغيرها لبينها أنس ولما أطلق جوابه ، وحيث أجاب بالبسملة دل على أن النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بها في قراءته ولولا ذلك لأجاب أنس ب " الحمد لله رب العالمين " أو غيرها .

( الوجه الثاني ) أن في صحيح مسلم { عن أنس رضي الله عنه قال بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاء ثم رفع رأسه متبسما ، فقلنا : ما أضحكك يا رسول الله ؟ قال : أنزلت علي آنفا سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم { إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر } إلى آخرها } وهذا تصريح بالجهر بها خارج الصلاة فكذا في الصلاة كسائر الآيات . وقد أخرج مسلم هذا الحديث في صحيحه عقب الحديث المحتج به في نفي الجهر كالتعليل له به ; لأن الحديثين من رواية أنس فإن قيل : إنما جهر بها في الحديث ; لأنه تلا ما أنزل ذلك الوقت فيلزمه أن يبلغه جميعه فجهر كباقي السور . قلنا : فهذا دليل لنا ; لأنها تكون من السورة فيكون له حكم باقيها في الجهر حتى يقوم دليل خلافه .

( الوجه الثالث ) ما اعتمده الإمام الشافعي من إجماع أهل المدينة في عصر الصحابة رضي الله عنهم خلافا لما ادعته المالكية من الإجماع . قال الشافعي أخبرنا عبد المجيد بن عبد العزيز عن ابن جريج قال : أخبرني عبد الله بن عثمان بن خيثم أن أبا بكر بن حفص بن عمر أخبره أن أنس بن مالك قال : صلى معاوية بالمدينة صلاة يجهر فيها بالقراءة فقرأ " بسم الله الرحمن الرحيم " لأم القرآن ولم يقرأ بها للسور التي بعدها حتى قضى تلك القراءة ولم يكبر حين يهوي حتى قضى تلك الصلاة ، فلما سلم ناداه من شهد من المهاجرين من كل مكان : يا معاوية أسرقت الصلاة أم نسيت ؟ فلما صلى بعد ذلك قرأ " بسم الله الرحمن الرحيم " للتي بعد أم القرآن وكبر حين يهوي ساجدا ورواه يعقوب بن سفيان الإمام عن الحميدي واعتمد عليه يعقوب أيضا في إثبات الجهر بالبسملة ، وقد أخرجه الحاكم في المستدرك وقال : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ، وقد احتج بعبد المجيد ، وسائر رواته متفق على عدالتهم . قال البيهقي : وتابعه على ذلك عبد الرزاق عن [ ص: 306 ] ابن جريج . ورواه ابن خيثم بإسناد آخر . ورواه الدارقطني في سننه وقال : رجاله كلهم ثقات قال الدارقطني : وحدثنا أبو بكر النيسابوري قال : حدثنا الربيع قال حدثنا الشافعي فذكره ، إلا أنه قال : فلم يقرأ " بسم الله الرحمن الرحيم " لأم القرآن ولم يقرأ للسورة بعدها ، فذكر الحديث . وزاد : والأنصار . ثم قال : فلم يصل بعد ذلك إلا قرأ " بسم الله الرحمن الرحيم " لأم القرآن وللسورة . ورواه الشافعي من وجه آخر . وقال : فناداه المهاجرون والأنصار حين سلم : يا معاوية أسرقت صلاتك ؟ أين بسم الله الرحمن الرحيم ؟ وقد حصل الجواب في الكتاب الكبير عما أورد في إسناده هذا الحديث ومتنه ، ويكفينا أنه على شرط مسلم .

( الوجه الرابع ) روى الدارقطني في سننه ومسنده عن المعتمر بن سليمان عن أبيه عن أنس قال : { كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بالقراءة ببسم الله الرحمن الرحيم } قال الدارقطني : إسناده صالح ، وفيه عن { محمد بن أبي السري العسقلاني قال : صليت خلف المعتمر بن سليمان ما لا أحصي صلاة المغرب والصبح فكان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم قبل فاتحة الكتاب وبعدها ، وسمعت المعتمر يقول : ما آلو أن أقتدي بصلاة أبي ، وقال أبي : ما آلو أن أقتدي بصلاة أنس بن مالك وقال أنس : ما آلو أن أقتدي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم } وقال الدارقطني إسناده كلهم ثقات ، وأخرجه الحاكم في المستدرك وقال : رواة هذا الحديث عن آخرهم ثقات .

وأخرج الحاكم أيضا عن شريك بن عبد الله عن أنس قال : { سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم } قال الحاكم : رواته كلهم ثقات ، قال الحاكم : ففي هذه الأخبار معارضة لحديث قتادة عن أنس السابق في ترك قراءة البسملة ، وهو كما قاله ; لأنه إذا صح عنه ما ذكرناه فعلا ورواية ، فكيف يظن به أنه يروي ما يفهم خلافه فهو لم يقتد في جهره بها إلا برسول الله صلى الله عليه وسلم ففي الصحيحين عن حماد بن زيد عن ثابت { عن أنس إني لا آلو أن أصلي بكم كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا } .

قال أبو محمد المقدسي قد حصل لنا والحمد لله عدة أحاديث جياد في الجهر ، وتعرض ابن الجوزي لتضعيف بعض رواته عن [ ص: 307 ] أنس لم نذكرها نحن ، وتعرض مما ذكرناه لرواية شريك وطعن فيه . وجواب ما قال أن شريكا من رجال الصحيحين . ويكفينا أن نحتج بمن احتج به البخاري ومسلم ، وفيما ذكرناه من الأحاديث الصحيحة المشهود لها بالصحة ما يرد قول ابن الجوزي : أنه لم يصح عن أنس شيء في الجهر .

وأما حديث علي رضي الله عنه الذي بدأ الدارقطني بذكره في سننه قال : { كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم في صلاته } قال الدارقطني : هذا إسناد علوي لا بأس به ، وقد احتج به ابن الجوزي على المالكية في تركهم البسملة في الصلاة ولم يحتج في المسألة بغيره ، ثم ساق الدارقطني الروايات في ذلك من غير علي من الصحابة ، ثم ختمها برواية عنه حين قال : سئل علي رضي الله عنه عن السبع المثاني فقال " الحمد لله رب العالمين " فقيل : إنما هي ست آيات ، فقال : " بسم الله الرحمن الرحيم " آية . قال الدارقطني : إسناده كلهم ثقات وإذا صح أن عليا يعتقدها من الفاتحة فلها حكم باقيها في الجهر . وأما حديث سمرة فأخرجه الدارقطني والبيهقي عن حميد عن الحسن عن سمرة رضي الله عنه قال : { كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم سكتتان ، سكتة إذا قرأ بسم الله الرحمن الرحيم وسكتة إذا فرغ من القراءة } وأنكر ذلك عمران بن حصين ، فكتبوا إلى أبي بن كعب وكتب أن صدق سمرة . قال الدارقطني : كلهم ثقات ، وكان علي بن المديني يثبت سماع الحسن من سمرة قال الخطيب : فقوله سكتة إذا قرأ " بسم الله الرحمن الرحيم " يعني إذا أراد أن يقرأ ; لأن السكتة إنما هي قبل قراءة البسملة لا بعدها .

وأما الجواب عن استدلالهم بحديث أنس " كانوا يفتتحون الصلاة ب { الحمد لله رب العالمين } " وعن حديث عائشة فهو أن المراد كانوا يفتتحون سورة الفاتحة لا بالسورة ، وهذا التأويل متعين للجمع بين الروايات ; لأن البسملة مروية عن عائشة رضي الله عنها فعلا ورواية عن النبي صلى الله عليه وسلم ولأن مثل هذه العبارات وردت عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم . وهما ممن صح عنه الجهر بالبسملة ، فدل على أن مراد جميعهم اسم السورة ، فهو كقوله بالفاتحة ، وقد ثبت أن أول الفاتحة البسملة فتعين الابتداء [ ص: 308 ] بها . وأما الرواية التي في مسلم ( فلم أسمع أحدا منهم يقرأ " بسم الله الرحمن الرحيم ) فقال أصحابنا : هي رواية للفظ الأول بالمعنى الذي فهمه الراوي عبر عنه على قدر فهمه فأخطأ ، ولو بلغ الحديث بلفظه الأول لأصاب ، فإن اللفظ الأول هو الذي اتفق عليه الحفاظ ، ولم يخرج البخاري والترمذي وأبو داود غيره ، والمراد به اسم السورة كما سبق .

وثبت في سنن الدارقطني عن أنس قال : { كنا نصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فكانوا يفتتحون بأم القرآن فيما يجهر به } قال الدارقطني : هذا صحيح ، وهو دليل صريح لتأويلنا ، فقد ثبت الجهر بالبسملة عن أنس وغيره كما سبق فلا بد من تأويل ما ظهر خلاف ذلك قال الشيخ أبو محمد المقدسي : ثم للناس في تأويله والكلام عليه خمس طرق ( إحداها ) وهي التي اختارها ابن عبد البر أنه لا يجوز الاحتجاج به لتلونه واضطرابه واختلاف ألفاظه مع تغاير معانيها فلا حجة في شيء منها عندي ، ; لأنه قال مرة : كانوا يفتتحون " بالحمد لله رب العالمين " ومرة كانوا لا يجهرون " ببسم الله الرحمن الرحيم " ومرة كانوا لا يقرءونها ومرة قال وقد سئل عن ذلك فقال : كبرت ونسيت . فحاصل هذه الطريقة أننا نحكم بتعارض الروايات ولا نجعل بعضها أولى من بعض فيسقط الجميع . ونظير ما فعلوا في رد حديث أنس . هذا ما نقله الخطابي في معالم السنن عن أحمد بن حنبل أنه رد حديث رافع بن خديج في المزارعة لاضطرابه وتلونه . وقال : هو حديث كثير الألوان .

( الطريقة الثانية ) أن نرجح بعض ألفاظ هذه الروايات المختلفة على باقيها ونرد ما خالفها إليها فلا نجد الرجحان إلا للرواية التي على لفظ حديث عائشة " أنهم كانوا يفتتحون ب { الحمد لله } " أي بالسورة . وهذه طريقة الإمام الشافعي ومن تبعه ; لأن أكثر الرواة على هذا اللفظ ولقوله في رواية الدارقطني " بأم القرآن " فكأن أنسا أخرج هذا الكلام مستدلا به على من يجوز قراءة غير الفاتحة أو يبدأ بغيرها ، ثم افترقت الرواة عنه فمنهم من أداه بلفظه فأصاب ، ومنهم من فهم منه حذف البسملة فعبر عنه بقوله " كانوا لا يقرءون " أو فلم أسمعهم يقرءون البسملة ومنهم من فهم الإسرار فعبر عنه فإن قيل إذا اختلفت ألفاظ روايات حديث قضى المبين منها على المجمل ، فإن [ ص: 309 ] سلم أن رواية : يفتتحون محتملة ، فرواية : لا يجهرون تعين المراد . قلنا : ورواية " بأم القرآن " تعين المعنى الآخر فاستويا وسلم لنا ما سبق من الأحاديث المصرحة بالجهر عن أنس وغيره ، وتلك لا تحتمل تأويلا وهذه أمكن تأويلها بما ذكرناه فأولت وجمع بين الروايات وألفاظها .

( الطريقة الثالثة ) أن يقال : ليس في هذه الروايات ما ينافي أحاديث الجهر الصحيحة السابقة : أما الرواية المتفق عليها فظاهرة ، وأما قوله لا يجهرون فالمراد به نفي الجهر الشديد الذي نهى الله تعالى عنه بقوله تعالى { ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا } فنفى أنس رضي الله عنه الجهر الشديد دون أصل الجهر ، بدليل أنه هو روى الجهر في حديث آخر . وأما رواية من روى " يسرون " فلم يرد حقيقة الإسرار ، وهذه طريقة الإمام أبي بكر بن خزيمة ، وإنما أراد بقوله يسرون التوسط المأمور به الذي هو بالنسبة إلى الجهر المنهي عنه كالإسرار ، واختار هذا اللفظ مبالغة في نفي الجهر الشديد المنهي عنه ، وهذا معنى ما روي عن ابن عباس أنه قال : " الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم قراءة الأعراب " أراد ، الجهر الشديد قراءة الأعراب ; لجفائهم وشدتهم ; لأن ابن عباس ممن رأى الجهر بالبسملة كما سبق .

( الطريقة الرابعة ) رجحها الإمام ابن خزيمة ، وهي رد جميع الروايات إلى معنى أنهم كانوا يسرون بالبسملة دون تركها ، وقد ثبت الجهر بها بالأحاديث السابقة عن أنس وكأن أنسا بالغ في الرد على من أنكر الجهر والإسرار بها فقال { أنا صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه فرأيتهم يسرون بها } أي وقع ذلك منهم مرة أو مرات لبيان الجواز ولم يرد الدوام ، بدليل ما ثبت عنه من الجهر رواية وفعلا كما سبق ، فتكون أحاديث أنس قد دلت على جواز الأمرين ووقوعهما من النبي صلى الله عليه وسلم وهما : الجهر والإسرار ، ولهذا اختلفت أفعال الصدر الأول في ذلك ، وهو كالاختلاف في الأذان والإقامة . قال أبو حاتم بن حبان : هذا عندي من الاختلاف المباح ، والجهر أحب إلي ، فعلى هذا قول من روى " لم يقرأ " أي لم يجهر ، ولم أسمعهم يقرءون ، أي يجهرون . [ ص: 310 ]

( الطريقة الخامسة ) أن يقال : نطق أنس بكل هذه الألفاظ المروية في مجالس متعددة بحسب الحاجة إليها في الاستدلال والبيان . فإن قيل : هلا حملتم حديث أنس رضي الله عنه على أن آخر الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم ترك الجهر بدليل أنه حكى ذلك عن الخلفاء بعده ؟ قلنا : منع ذلك أن الجهر مروي عن أنس من فعله كما سبق من حديث المعتمر عن أبيه عن أنس ، فلا يختار أنس لنفسه إلا ما كان آخر الأمرين قال أبو محمد : وإن رمنا ترجيح الجهر فيما نقل أنس ، قلنا : هذه الرواية التي انفرد بها مسلم المصرحة بحذف البسملة أو بعدم الجهر بها قد عللت وعورضت بأحاديث الجهر الثابتة عن أنس ، والتعليل يخرجها من الصحة إلى الضعف ; لأن من شرط الصحيح أن لا يكون شاذا ولا معللا ، وإن اتصل سنده بنقل عدل ضابط عن مثله ، فالتعليل يضعفه لكونه اطلع فيه على علة خفية قادحة في صحته كاشفة عن وهم لبعض رواته ، ولا ينفع حينئذ إخراجه في الصحيح ; لأنه في نفس الأمر ضعيف ، وقد خفي ضعفه وقد تخفى العلة على أكثر الحفاظ ويعرفها الفرد منهم فكيف والأمر هنا بالعكس ، ولهذا امتنع البخاري وغيره من إخراجه .

وقد علل حديث أنس هذا بثمانية أوجه ذكرها أبو محمد مفصلة ، وقال : الثامن فيها { أن أبا سلمة سعيد بن زيد قال : سألت أنسا أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح ب { الحمد لله رب العالمين } ؟ أو ببسم الله الرحمن الرحيم ؟ فقال : إنك لتسألني عن شيء ما أحفظه وما سألني عنه أحد قبلك } رواه أحمد بن حنبل في مسنده ، وابن خزيمة في كتابه ، والدارقطني في سننه ، وقال : إسناده صحيح ، وهذا دليل على توقف أنس وعدم جزمه بواحد من الأمرين ، وروي عنه الجزم بكل واحد منهما فاضطربت أحاديثه ، وكلها صحيحة فتعارضت فسقطت ، وإن ترجح بعضها فالترجيح : الجهر لكثرة أحاديثه ، ولأنه إثبات فهو مقدم على النفي ولعل النسيان عرض له بعد ذلك ، قال ابن عبد البر : من حفظ عنه ، حجة على من سأله في حال نسيانه والله أعلم .

وأما الجواب عن حديث ابن عبد الله بن مغفل فقال أصحابنا والحفاظ : [ ص: 311 ] هو حديث ضعيف ; لأن ابن عبد الله بن مغفل مجهول ، قال ابن خزيمة : هذا الحديث غير صحيح من جهة النقل ; لأن ابن عبد الله مجهول .

وقال ابن عبد البر : ابن عبد الله مجهول لا يقوم به حجة ، وقال الخطيب أبو بكر وغيره : هذا الحديث ضعيف ; لأن ابن عبد الله مجهول ، ولا يرد على هؤلاء الحفاظ قول الترمذي : حديث حسن ; لأن مداره على مجهول ولو صح وجب تأويله جمعا بين الأدلة السابقة .

وذكروا في تأويله وجهين :

( أحدهما ) قال أبو الفتح الرازي في كتابه في البسملة : إن ذلك في صلاة سرية لا جهرية ; لأن بعض الناس قد يرفع قراءته بالبسملة وغيرها رفعا يسمعه من عنده فنهاه أبوه عن ذلك وقال : هذا محدث ، والقياس أن البسملة لها حكم غيرها من القرآن في الجهر والإسرار .

( الثاني ) جواب أبي بكر الخطيب قال ابن عبد الله مجهول ولو صح حديثه لم يؤثر في الحديث الصحيح عن أبي هريرة في الجهر ; لأن عبد الله بن مغفل من أحداث أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو هريرة من شيوخهم . وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول لأصحابه { ليلني منكم أولو الأحلام والنهى ، ثم الذين يلونهم } فكان أبو هريرة يقرب من النبي صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن مغفل يبعد لحداثة سنه ، ومعلوم أن القارئ يرفع صوته ويجهر بقراءته في أثنائها أكثر من أولها فلم يحفظ عبد الله الجهر بالبسملة ; لأنه بعيد ، وهي أول القراءة ، وحفظها أبو هريرة لقربه وإصغائه وجودة حفظه وشدة اعتنائه ، وأما حديث ابن مسعود رضي الله عنه فجوابه أنه ضعيف ; لأنه من رواية محمد بن جابر اليمامي عن حماد عن إبراهيم عن ابن مسعود ، ومحمد بن جابر ضعيف باتفاق الحفاظ مضطرب الحديث لا سيما في روايته عن حماد بن أبي سليمان ، هذا وفيه ضعف آخر وهو أن إبراهيم النخعي لم يدرك ابن مسعود [ ص: 312 ] بالاتفاق فهو منقطع ضعيف وإذا ثبت ضعفه من هذين الوجهين لم يكن فيه حجة ، ولو كانت لكانت الأحاديث الصحيحة السابقة المصرحة بالجهر مقدمة لصحتها وكثرتها ولأنها إثبات وهذا نفي ، والإثبات مقدم . وأما قول سعيد بن جبير أن الجهر منسوخ فلا حجة فيه ، وإن كان قد روي متصلا عنه عن ابن عباس ، { وقال : فأنزل الله تعالى { ولا تجهر بصلاتك } فيسمع المشركون فيهزءون { ولا تخافت بها } عن أصحابك فلا تسمعهم { وابتغ بين ذلك سبيلا } وفي رواية فخفض النبي صلى الله عليه وسلم ببسم الله الرحمن الرحيم . } قال البيهقي : يعني - والله أعلم - فخفض بها دون الجهر الشديد الذي يبلغ أسماع المشركين ، وكان يجهر بها جهرا يسمع أصحابه .

قال أبو محمد : وهذا هو الحق ; لأن الله تعالى كما نهاه عن الجهر بها نهاه عن المخافتة ، فلم يبق إلا التوسط بينهما وليس هذا الحكم مختصا بالبسملة بل كل القراءة فيه سواء . وأما ما حكوا عن الدارقطني فلا يصح عنه ; لأن الدارقطني صحح في سننه كثيرا من أحاديث الجهر كما سبق ، وكتاب السنن صنفه الدارقطني بعد كتاب الجهر بدليل أنه أحال في السنن عليه ، فإن صحت تلك الحكاية حمل الأمر على أنه اطلع آخرا على ما لم يكن اطلع عليه أولا ، ويجوز أن يكون أراد ليس في الصحيحين منها شيء وإن كان قد صحت في غيرها ، وهذا بعيد فقد سبق استنباط الجهر من الصحيحين من حديث أنس وأبي هريرة

وأما قولهم : قال بعض التابعين : الجهر بالبسملة بدعة لا حجة فيه ; لأنه يخبر عن اعتقاده ومذهبه كما قال أبو حنيفة - العقيقة بدعة ، وصلاة الاستسقاء بدعة ، وهما سنة عند جماهير العلماء للأحاديث الصحيحة فيها ، ومذهب واحد من الناس لا يكون حجة على مجتهد آخر ، فكيف يكون حجة على الأكثرين مع مخالفته للأحاديث الصحيحة السابقة .

( وأما قياسهم ) [ ص: 313 ] على التعوذ ( فجوابه ) أن البسملة من الفاتحة ومرسومة في المصحف بخلاف التعوذ ، وأما قولهم لو كان الجهر ثابتا لنقل تواترا فليس ذلك بلازم ; لأن التواتر ليس بشرط لكل حكم ، والله أعلم بالصواب وله الحمد والمنة .

التالي السابق


الخدمات العلمية