صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى : ( وإن قرأ القرآن بالفارسية لم تجزه ; لأن القصد من القرآن اللفظ [ والنظم ] وذلك لا يوجد في غيره ) .


[ ص: 341 ] الشرح ) مذهبنا : أنه لا يجوز قراءة القرآن بغير لسان العرب سواء أمكنه العربية أو عجز عنها ، وسواء كان في الصلاة أو غيرها ، فإن أتى بترجمته في صلاة بدلا عن القراءة لم تصح صلاته سواء أحسن القراءة أم لا ، هذا مذهبنا ، وبه قال جماهير العلماء منهم مالك وأحمد وداود .

وقال أبو حنيفة : تجوز وتصح به الصلاة مطلقا ، وقال أبو يوسف ومحمد : يجوز للعاجز دون القادر . واحتج لأبي حنيفة بقوله تعالى : { قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به } قالوا : والعجم لا يعقلون الإنذار إلا بترجمته ، وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { أنزل القرآن على سبعة أحرف } . وعن سلمان الفارسي : رضي الله عنه أن قوما من الفرس سألوه أن يكتب لهم شيئا من القرآن ، فكتب لهم فاتحة الكتاب بالفارسية ; ولأنه ذكر فقامت ترجمته مقامه كالشهادتين في الإسلام ، وقياسا على جواز ترجمة حديث النبي صلى الله عليه وسلم وقياسا على جواز التسبيح بالعجمية .

واحتج أصحابنا بحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه : { أنه سمع هشام بن حكيم يقرأ سورة على غير ما يقرأ عمر فلببه بردائه ، وأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم } وذكر الحديث ، رواه البخاري ومسلم ، فلو جازت الترجمة لأنكر عليه صلى الله عليه وسلم اعتراضه في شيء جائز ، واحتجوا أيضا : بأن ترجمة القرآن ليست قرآنا ; لأن القرآن هو هذا النظم المعجز ، وبالترجمة يزول الإعجاز فلم يجز ، وكما أن الشعر يخرجه ترجمته عن كونه شعرا ، فكذا القرآن .

[ ص: 342 ] وأما الجواب عن الآية الكريمة : فهو أن الإنذار يحصل ليتم به ، وإن نقل إليهم معناه ، وأما الجواب عن الحديث فسبع لغات للعرب ; ولأنه يدل على أنه لا يتجاوز هذه السبعة ، وهم يقولون : يجوز بكل لسان ، ومعلوم : أنها تزيد على سبعة ، وعن فعل سلمان أنه كتب تفسيرها لا حقيقة الفاتحة ، وعن الإسلام : أن في جواز ترجمته للقادر على العربية وجهين سبق بيانهما في فصل التكبير . ، فإن قلنا : لا يصح فظاهر ، وإن قلنا - بالمذهب - إنه يصح إسلامه ، فالفرق : أن المراد معرفة اعتقاده الباطن ، والعجمية كالعربية في تحصيل ذلك . وعن القياس على الحديث والتسبيح : أن المراد بالقرآن الأحكام والنظم المعجز بخلاف الحديث والتسبيح ، هذه طريقة أصحابنا في المسألة ، وبسطها إمام الحرمين في الأساليب فقال : عمدتنا أن القرآن معجز ، والمعتمد في إعجازه اللفظ قال : ثم تكلم علماء الأصول في المعجز منه فقيل : الإعجاز في بلاغته وجزالته وفصاحته المجاوزة لحدود جزالة العرب ، والمختار : أن الإعجاز في جزالته مع أسلوبه الخارج عن أساليب كلام العرب .

والجزالة والأسلوب يتعلقان بالألفاظ ، ثم معنى القرآن في حكم التابع للألفاظ ، فحصل من هذا أن اللفظ هو المقصود المتبوع ، والمعنى تابع فنقول بعد هذا التمهيد : ترجمة القرآن ليست قرآنا بإجماع المسلمين ، ومحاولة الدليل لهذا تكلف ، فليس أحد يخالف في أن من تكلم بمعنى القرآن بالهندية ليست قرآنا ، وليس ما لفظ به قرآنا ، ومن خالف في هذا كان مراغما جاحدا ، وتفسير شعر امرئ القيس ليس شعره ، فكيف يكون تفسير القرآن قرآنا ؟

وقد سلموا أن الجنب لا يحرم عليه ذكر معنى القرآن ، والمحدث لا يمنع من حمل كتاب فيه معنى القرآن وترجمته ، فعلم أن ما جاء به ليس قرآنا ، ولا خلاف أن القرآن معجز ، وليست الترجمة معجزة ، والقرآن هو الذي تحدى به النبي صلى الله عليه وسلم العرب ، ووصفه الله تعالى بكونه عربيا ، وإذا علم أن الترجمة ليست قرآنا - وقد ثبت أنه لا تصح صلاته إلا بقرآن - حصل أن الصلاة لا تصح بالترجمة .

هذا كله مع أن الصلاة مبناها على التعبد والاتباع والنهي عن الاختراع ، وطريق القياس منسدة ، وإذا نظر الناظر في أصل الصلاة ، وأعدادها ، [ ص: 343 ] واختصاصها بأوقاتها ، وما اشتملت عليه من عدد ركعاتها ، وإعادة ركوعها في كل ركعة ، وتكرر سجودها إلى غير ذلك من أفعالها - ومدارها على الاتباع ، ولم يفارقها جملة وتفصيلا - فهذا يسد باب القياس ، حتى لو قال قائل : مقصود الصلاة الخضوع فيقوم السجود مقام الركوع لم يقبل ذلك منه ، وإن كان السجود أبلغ في الخضوع . ثم عجبت من قولهم : إن الترجمة لا يكون لها حكم القرآن في تحريمها على الجنب ، ويقولون : لها حكمه في صحة الصلاة التي مبناها على التعبد والاتباع ، ويخالف تكبيرة الإحرام التي قلنا : يأتي بها العاجز عن العربية بلسانه ; لأن مقصودها المعنى مع اللفظ ، وهذا بخلافه . هذا آخر كلام إمام الحرمين رحمه الله .

( فرع ) لو قرأ الفاتحة بلغة لبعض العرب غير اللغة المقروءة لم تصح ، ولم يجز في غير الصلاة أيضا ، صرح به صاحب التتمة ، قال : ومن أتى بالترجمة إن كان متعمدا بطلت صلاته ، وإن كان ناسيا أو جاهلا لم يعتد بقراءته ، ولكن لا تبطل صلاته ويسجد للسهو كسائر الكلام ناسيا أو جاهلا .

التالي السابق


الخدمات العلمية