صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى : ( ثم يركع وهو فرض من فروض الصلاة لقوله عز وجل : { اركعوا واسجدوا ، } والمستحب : أن يكبر للركوع لما روى أبو هريرة : رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم وحين يركع ثم يقول : سمع الله لمن حمده حين يرفع رأسه ، ثم يكبر حين يسجد ، ثم يكبر حين يرفع رأسه ، يفعل ذلك في الصلاة كلها حتى يقضيها } ; ولأن الهوي إلى الركوع فعل فلا يخلو من ذكر كسائر الأفعال ) .


( الشرح ) حديث أبي هريرة رضي الله عنه رواه البخاري ومسلم والركوع في اللغة : الانحناء ، كذا قاله أهل اللغة وأصحابنا ، وقال صاحب الحاوي وبعضهم : هو الخضوع وأنشدوا فيه البيت المشهور :

علك أن تركع يوما والدهر قد رفعه

وقوله : ولأن الهوي هو بضم الهاء وتشديد الياء ، وهو السقوط والانخفاض ، وقاله الجوهري وآخرون بفتح الهاء ، وقال صاحب المطالع : الهوي بالفتح النزول والسقوط ، والهوي بالضم الصعود قال : وقال [ ص: 364 ] الخليل : هما لغتان بمعنى ، وأجمع العلماء على وجوب الركوع ، ودليله مع الآية الكريمة والإجماع حديث " المسيء صلاته " مع قوله : صلى الله عليه وسلم { صلوا كما رأيتموني أصلي } ، ويسن أن يكبر للركوع ، بلا خلاف عندنا .

قال أصحابنا : ولا يصل تكبيرة الركوع بالقراءة ، بل يفصل بينهما بسكتة لطيفة كما سبق قالوا : ويبتدئ بالتكبير قائما ويرفع يديه ، ويكون ابتداء رفع يديه وهو قائم مع ابتداء التكبير ، فإذا حاذى كفاه منكبيه انحنى ويمد التكبير إلى أن يصل إلى حد الركعتين ، هذا هو المذهب ، ونص عليه في الأم وقطع به العراقيون وغيرهم .

وحكى جماعة من الخراسانيين قولين . ( أحدهما ) : هذا هو الجديد ( والثاني ) : وهو القديم . لا يمد التكبير بل يشرع به ، قالوا : والقولان جاريان في جميع تكبيرات الانتقالات ، وهل تحذف أم تمد ، حتى يصل إلى الذكر الذي بعدها ؟ الصحيح : المد ، ولو ترك التكبير عمدا أو سهوا حتى ركع لم يأت به لفوات محله .

( فرع ) في مذاهب العلماء في تكبيرات الانتقالات ( اعلم ) : أن الصلاة الرباعية يشرع فيها اثنتان وعشرون تكبيرة ، منها خمس تكبيرات في كل ركعة أربع للسجدتين والرفعين منها ، والخامسة للركوع فهذه عشرون ، وتكبيرة الإحرام وتكبيرة القيام من التشهد الأول ، وأما الثلاثية فيشرع فيها سبع عشرة سقط منها تكبيرات ركعة وهن خمس وأما الثنائية : فيشرع فيها إحدى عشرة للركعتين وتكبيرة الإحرام ، وهذه كلها عندنا سنة إلا تكبيرة الإحرام فهي فرض ، هذا مذهبنا ومذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم .

قال ابن المنذر : وبهذا قال أبو بكر الصديق وعمر وابن مسعود وابن عمر وابن جابر وقيس بن عباد وشعيب والأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز وعوام أهل العلم .

ونقل أصحابنا عن سعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز والحسن البصري أنهم قالوا : لا يشرع إلا تكبيرة الإحرام فقط ، ولا يكبر غيرها ، ونقله ابن المنذر أيضا عن القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، ونقله أبو الحسن بن بطال في شرح البخاري عن جماعات من السلف منهم [ ص: 365 ] معاوية بن أبي سفيان وابن سيرين والقاسم بن محمد وسالم وسعيد بن جبير ، وأما قول البغوي في شرح السنة : اتفقت الأمة على هذه التكبيرات ، فليس كما قال ، ولعله لم يبلغه ما نقلناه ، أو أراد اتفاق العلماء بعد التابعين على مذهب من يقول : الإجماع بعد الخلاف يرفع الخلاف ، وهو المختار عند متأخري الأصوليين وبه قال من أصحابنا أبو علي بن خيران والقفال والشاشي وغيرهما .

وقال أحمد بن حنبل : جميع التكبيرات واجبة ، واحتج لأحمد بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { صلوا كما رأيتموني أصلي } وثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يكبرهن ، واحتج لمن أسقطهن غير تكبير الإحرام بحديث عن الحسن بن عمران عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه : رضي الله عنه { أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان لا يتم التكبير } رواه أبو داود والبيهقي وغيرهما هكذا . وفي رواية الإمام أحمد بن حنبل في مسنده زيادة " لا يتم التكبير يعني إذا خفض وإذا رفع " ودليلنا على أحمد حديث " المسيء صلاته " فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره بتكبيرات الانتقالات وأمره بتكبيرة الإحرام ، وأما فعله صلى الله عليه وسلم فمحمول على الاستحباب جمعا بين الأدلة .

ودليلنا على الآخرين حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال { : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم ثم يكبر حين يركع ثم يقول : سمع الله لمن حمده حين يرفع صلبه من الركوع ، ثم يقول وهو قائم : ربنا ولك الحمد ثم يكبر حين يهوي ساجدا ثم يكبر حين يرفع رأسه ثم يكبر حين يسجد ثم يكبر حين يرفع رأسه ، ثم يفعل ذلك في الصلاة كلها حتى يقضيها ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس } ، رواه البخاري ومسلم ولفظه لمسلم وعن مطرف قال : { صليت أنا وعمران بن حصين خلف علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه فكان إذا سجد كبر ، وإذا رفع رأسه كبر وإذا نهض من [ ص: 366 ] الركعتين كبر ، فلما انصرفنا أخذ عمران بيدي ثم قال : لقد صلى بنا هذا صلاة محمد ، صلى الله عليه وسلم أو لقد ذكرني هذا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم } رواه البخاري ومسلم . وعن عكرمة قال : { صليت خلف شيخ بمكة فكبر ثنتين وعشرين تكبيرة فقلت لابن عباس : إنه أحمق : فقال : ثكلتك أمك سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم } رواه البخاري . وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر في كل خفض ورفع وقيام وقعود ، وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما } رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح ، وفي المسألة أحاديث كثيرة في الصحيح ، وفيما ذكرناه كفاية .

والجواب عن حديث ابن أبزى من أوجه :

( أحدها ) : أنه ضعيف ; لأن راويه الحسن بن عمران ليس [ معروفا ] .

( والثاني ) : أنه محمول على أنه لم يسمع التكبير ، وقد سمعه غيره ممن ذكرنا فقدمت رواية المثبت .

( والثالث ) : لعله ترك التكبيرات أو نحوها لبيان الجواز ، وهذان الجوابان ذكرهما البيهقي والجواب الأول : جواب محمد بن جرير الطبري وغيره .

( فرع ) يسن للإمام الجهر بتكبيرات الصلاة كلها ، وبقوله ( سمع الله لمن حمده ) ليعلم المأمومون انتقاله ، فإن كان ضعيف الصوت لمرض وغيره فالسنة أن يجهر المؤذن أو غيره من المأمومين جهرا يسمع الناس ، وهذا لا خلاف فيه ، ودليلنا من السنة حديث سعيد بن الحارث قال : { صلى بنا أبو سعيد فجهر بالتكبير حين رفع رأسه من السجود وحين سجد - وحين رفع - وحين قام من الركعتين ، حتى قضى صلاته على ذلك ، وقال : إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا يصلي } .

وعن جابر رضي الله عنه قال : { اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلينا وراءه وهو قاعد ، وأبو بكر رضي الله عنه يسمع الناس تكبيره } رواه مسلم ، وفي رواية لمسلم أيضا { صلى [ ص: 367 ] بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر وأبو بكر رضي الله عنه خلفه ، فإذا كبر كبر أبو بكر يسمعنا } . وعن عائشة رضي الله عنها { في قصة مرض رسول الله قالت : فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس إلى جنبه - يعني أبا بكر رضي الله عنه - وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس ، وأبو بكر يسمعهم التكبير } ، رواه مسلم بلفظه والبخاري بمعناه

التالي السابق


الخدمات العلمية