صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى : ( ويجب أن ينحني إلى حد يبلغ راحتاه ركبتيه ; لأنه لا يسمى بما دونه راكعا ، ويستحب أن يضع يديه على ركبتيه ويفرق أصابعه ، لما روى أبو حميد الساعدي : رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم أمسك راحتيه على ركبتيه كالقابض عليهما وفرج بين أصابعه } ، ولا يطبق لما روي عن مصعب بن سعد رضي الله عنه قال " صليت إلى جنب سعد بن مالك فجعلت يدي بين ركبتي وبين فخذي وطبقتهما فضرب بيدي وقال : اضرب بكفيك على ركبتيك " وقال : يا بني إنا قد كنا نفعل هذا فأمرنا أن نضرب بالأكف على الركب " { والمستحب : أن يمد ظهره وعنقه ولا يقنع رأسه ولا يصوبه ، لما روي : أن أبا حميد الساعدي رضي الله عنه وصف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : فركع واعتدل ولم يصوب رأسه ولم يقنعه } والمستحب : أن يجافي مرفقيه عن جنبيه ، لما روى أبو حميد الساعدي : رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 377 ] فعل ذلك ، فإن كانت امرأة لم تجاف ، بل تضم المرفقين إلى الجنبين ; لأن ذلك أستر لها ، ويجب أن يطمئن في الركوع لقوله : صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته { ثم اركع حتى تطمئن راكعا } )


( الشرح ) حديث أبي حميد الأول وحديثه الأخير صحيحان رواهما أبو داود والترمذي وهما من جملة الحديث الطويل في صفة الصلاة بكمالها ، رواه أبو داود والترمذي وغيرهما بهذه الألفاظ إلا قوله ( ويفرج أصابعه ) فلم يذكرها الترمذي ، وروى البخاري حديث أبي حميد هذا ، لكنه لم يقع فيه هاتان اللفظتان كما وقعتا هنا ، وأما لفظ البخاري { فعن محمد بن عمرو بن عطاء : أنه كان جالسا مع نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو حميد الساعدي : أنا كنت أحفظكم لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيته إذا كبر جعل يديه حذاء منكبيه ، وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه ثم هصر ظهره ، فإذا رفع رأسه استوى حتى يعود كل فقاره مكانها ، فإذا سجد وضع يديه غير مفترش ولا قابضها ، واستقبل أصابع رجليه موجهة للقبلة ، فإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى ، فإذا جلس في الركعة الآخرة قدم رجله اليسرى ونصب الأخرى على مقعدته } ، هذا لفظ رواية البخاري وأما رواية الترمذي فعن محمد بن عمرو بن عطاء عن أبي حميد قال : { سمعته وهو في عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقول : أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : فاعرض قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة اعتدل قائما ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ، فإذا أراد أن يركع رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ثم قال : الله أكبر ورفع ، ثم اعتدل فلم يصوب رأسه ، ولم يقنع ، ووضع يديه على ركبتيه ثم قال : سمع الله لمن حمده ، ورفع يديه واعتدل حتى يرجع كل عظم في موضعه معتدلا ، ثم هوى إلى الأرض ساجدا ثم قال : الله أكبر ثم جافى عضديه عن إبطيه وفتح أصابع رجليه ، ثم ثنى رجله اليسرى وقعد عليها ، ثم اعتدل حتى يرجع كل عظم في موضعه معتدلا ، ثم هوى ساجدا ثم قال : الله أكبر ثم ثنى رجله وقعد واعتدل حتى يرجع كل عظم في موضعه ثم نهض ، ثم صنع في الركعة الثانية مثل ذلك ، حتى إذا قام من السجدتين كبر [ ص: 378 ] ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ، كما صنع حين افتتح الصلاة ، ثم صنع كذلك حتى كانت الركعة التي تنقضي فيها صلاته أخر رجله اليسرى وقعد على شقه متوركا ، ثم سلم ، قالوا : صدقت هكذا صلى صلى الله عليه وسلم } هذا لفظ رواية الترمذي قال : هذا حديث حسن صحيح .

قال : وقوله ( إذا قام من السجدتين رفع يديه ) يعني إذا قام من الركعتين من التشهد الأول ، ورواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط مسلم مثل رواية الترمذي ، وزاد بعده بتكبيرة الإحرام يقرأ وقال فيها : ثم يركع ويضع راحتيه على ركبتيه وقال : ( ثم إذا قام من الركعتين كبر ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ) ورواه أبو داود من رواية أخرى ، وقال " إذا ركع أمكن كفيه من ركبتيه وفرج بين أصابعه " لكنه من رواية ابن لهيعة وهو ضعيف ، وفي رواية له في السجود " واستقبل بأطراف أصابعه القبلة " فهذه طرق من حديث التطبيق رواها البخاري ومسلم بإسنادهما عن { مصعب بن سعد بن أبي وقاص ، قال : صليت إلى جنب أبي فطبقت بين كفي ، ووضعتهما بين فخذي فنهاني أبي وقال : كنا نفعله فنهينا عنه وأمرنا أن نضع أيدينا على الركب . } وأما حديث " المسيء صلاته " فرواه البخاري ومسلم من رواية أبي هريرة .

( أما ألفاظ الفصل ) فالتطبيق هو أن يجعل بطن كفيه على بطن الأخرى ويجعلهما بين ركبتيه وفخذيه . وقوله : ولا يقنع رأسه أي لا يرفعه ولا يصوبه - وهو بضم الياء وفتح الصاد وبالباء الموحدة ، أي لا يبالغ في خفضه وتنكيسه ، وقوله : يجافى هو مقصور ومعناه يباعد ومنه ، الجفوة والجفاء بالمد ، وأبو حميد اسمه : عبد الرحمن وقيل : المنذر بن عمرو الأنصاري الساعدي من بني ساعدة بطن من الأنصار المدني رضي الله عنه توفي في آخر خلافة معاوية رضي الله عنه ، ومصعب بن سعد بن أبي وقاص اسم أبي وقاص مالك بن وهيب ويقال : أهيب فسعد بن مالك هو سعد بن أبي وقاص ، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة ومصعب ابنه ، وقوله في حديث أبي حميد ثم هصر ظهره وهو بفتح الهاء والصاد المهملة المخففة أي ثناه وعطفه ، والفقار عظام الظهر بفتح الفاء .

وقوله : " فتح أصابع رجليه " وهو بالحاء المهملة أي لينها وثناها إلى القبلة ، وقوله : وركع ثم اعتدل أي استوى في ركوعه . [ ص: 379 ] أما أحكام الفصل ) قال أصحابنا : أقله أن ينحني بحيث تنال راحتاه ركبتيه لو أراد وضعهما عليهما ، ولا يجزيه دون هذا بلا خلاف عندنا . وهذا عند اعتدال الخلقة وسلامة اليدين والركبتين ، ولو انخنس وأخرج ركبتيه ، وهو مائل منتصب وصار بحيث لو مد يديه بلغت راحتاه ركبتيه لم يكن ذلك ركوعا ; لأن بلوغهما لم يحصل بالانحناء .

قال إمام الحرمين : ولو مزج الانحناء بهذه الهيئة وكان التمكن من وضع الراحتين إلى الركبتين جميعا لم يكن ركوعا أيضا ، ثم إن لم يقدر على الانحناء إلى الحد المذكور إلا بمعين أو باعتماد على شيء أو بأن ينحني على جانبه لزمه ذلك بلا خلاف ; لأن ذلك يؤدي إلى تحصيل الركوع فوجب ، فإن لم يقدر انحنى القدر الممكن ، فإن عجز أومأ بطرفه من قيام ، هذا بيان ركوع القائم .

أما ركوع المصلي قاعدا فأقله أن ينحني بحيث يحاذي وجهه ما وراء ركبتيه من الأرض ، وأكمله أن ينحني بحيث تحاذي جبهته موضع سجوده ، فإن عجز عن هذا القدر لعلة بظهره ونحوها فعل الممكن من الانحناء ، وفي ركوع العاجز وسجوده فروع كثيرة سنذكرها إن شاء الله تعالى حيث ذكر ( المصنف المسألة ) في باب صلاة المريض ، قال أصحابنا : ويشترط أن لا يقصد بهويه غير الركوع ، فلو قرأ في قيامه آية سجدة فهوى ليسجد ثم بدا له بعد بلوغه حد الراكعين أن يركع لم يعتد بذلك عن الركوع ، بل يجب أن يعود إلى القيام ثم يركع ، وهذا لا خلاف فيه

ولو سقط من قيامه بعد فراغ القراءة فارتفع من الأرض إلى حد الراكعين لم يجزه بلا خلاف ، وقد ذكره المصنف في باب سجود التلاوة ، بل عليه أن ينتصب قائما ثم يركع ، ولو انحنى للركوع فسقط قبل حصول أقل الركوع لزمه أن يعود إلى الموضع الذي سقط منه ويبني على ركوعه ، صرح به صاحب الحاوي والأصحاب ، ولو ركع واطمأن ثم سقط لزمه أن يعتدل قائما ، ولا يجوز أن يعود إلى الركوع لئلا يزيد ركوعا ، نص عليه الشافعي في الأم ، وقطع به الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والأصحاب .

وتجب الطمأنينة في الركوع بلا خلاف لحديث : " المسيء صلاته " وأقلها أن يمكث [ ص: 380 ] في هيئة الركوع حتى تستقر أعضاؤه ، وتنفصل حركة هويه عن ارتفاعه من الركوع ، ولو جاوز حد أقل الركوع بلا خلاف لحديث : " المسيء صلاته " ولو زاد في الهوي ثم ارتفع والحركات متصلة ولم يلبث لم تحصل الطمأنينة ، ولا يقوم زيادة الهوي مقام الطمأنينة بلا خلاف

وأما أكمل الركوع في الهيئة ، فأن ينحني بحيث يستوي ظهره وعنقه ويمدهما كالصفيحة ، وينصب ساقيه ، ولا يثني ركبتيه ، قال الشافعي في الأم : ويمد ظهره وعنقه ولا يخفض ظهره عن عنقه ولا يرفعه ، ويجتهد أن يكون مستويا ، فإن رفع رأسه عن ظهره أو ظهره عن رأسه أو جافى ظهره حتى يكون كالمحدودب كرهته ، ولا إعادة عليه ، ويضع يديه على ركبتيه ويأخذهما بهما ، ويفرق أصابعه حينئذ ويوجهها نحو القبلة .

قال الشيخ أبو محمد في التبصرة : ويوجهها نحو القبلة غير منحرفة يمينا وشمالا ، وهذا الذي ذكرناه من استحباب تفريقها هو الصواب الذي نص عليه الشافعي في المختصر وغيره ، وقطع به الأصحاب في جميع الطرق . وأما قول إمام الحرمين والغزالي في الوسيط : يتركها على حالها فشاذ مردود ، قال الشافعي في الأم وأصحابنا : فإن كانت إحدى يديه مقطوعة أو عليلة فعل بالأخرى ما ذكرنا وفعل بالعليلة الممكن ، فإن لم يمكنه وضع اليدين على الركبتين أرسلهما .

قال أصحابنا : ولو كان أقطع من الزندين لم يبلغ بزنديه ركبتيه ، وفي الرفع يرفع زنديه حذو منكبيه ، والفرق : أن في تبليغهما إلى الركبتين في الركوع مفارقة لهيئته من استواء الظهر بخلاف الرفع ، ولو لم يضع يديه على ركبتيه ولكن بلغ ذلك القدر أجزأه .

ويكره تطبيق اليدين بين الركبتين لحديث سعد رضي الله عنه فقد صرح فيه بالنهي ، ويسن للرجل أن يجافي مرفقيه عن جنبيه ، ويسن للمرأة ضم بعضها ، إلى بعض وترك المجافاة ، وقد ذكر المصنف دليل هذا كله مع ما ذكرناه من حديث أبي حميد ، وأما الخنثى فالصحيح أنه كالمرأة يستحب له ضم بعضه إلى بعض .

وقال صاحب البيان : قال القاضي أبو الفتوح لا يستحب له المجافاة ولا الضم ; لأنه ليس أحدهما أولى من الآخر ، والمذهب الأول ، وبه قطع الرافعي ; لأنه أحوط ، قال الشافعي في [ ص: 381 ] الأم : أحب للمرأة في السجود أن تضم بعضها إلى بعض وتلصق بطنها بفخذيها كأستر ما يكون لها ، قال : وهكذا أحب لها في الركوع وجميع الصلاة ، والمعتمد في استحباب ضم المرأة بعضها إلى بعض كونه أستر لها كما ذكره المصنف ، وذكر البيهقي بابا ذكر فيه أحاديث ضعفها كلها ، وأقرب ما فيه حديث مرسل في سنن أبي داود . قال العلماء : والحكمة في استحباب مجافاة الرجل ، مرفقيه عن جنبيه في الركوع والسجود أنها أكمل في هيئة الصلاة وصورتها ، ولا أعلم في استحبابها خلافا لأحد من العلماء . وقد نقل الترمذي استحبابها في الركوع والسجود عن أهل العلم مطلقا ، وقد ذكرت حكم تفريق الأصابع والمواضع التي يضم فيها أو يفرق في فصل رفع اليدين في تكبيرة الإحرام .

( فرع ) قال الشافعي في الأم والشيخ أبو حامد وصاحب التتمة : لو ركع ولم يضع يديه على ركبتيه ورفع ثم شك هل انحنى قدرا تصل به راحتاه إلى ركبتيه أم لا ؟ لزمه إعادة الركوع ; لأن الأصل عدمه .

( فرع ) في مذاهب العلماء في حد الركوع

مذهبنا : أنه يجب أن ينحني بحيث تنال راحتاه ركبتيه ، ولا يجب وضعهما على الركبتين وتجب الطمأنينة في الركوع والسجود والاعتدال من الركوع والجلوس بين السجدتين ، وبهذا كله قال مالك وأحمد وداود ، وقال أبو حنيفة : يكفيه في الركوع أدنى انحناء ، ولا يجب الطمأنينة في شيء من هذه الأركان ، واحتج له بقوله تعالى : { اركعوا واسجدوا } والانخفاض والانحناء قد أتى به .

واحتج أصحابنا والجمهور بحديث أبي هريرة رضي الله عنه { في قصة المسيء صلاته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : اركع حتى تطمئن راكعا ، ثم ارفع حتى تعتدل قائما ، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا ، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ، ثم افعل ذلك في صلاتك [ ص: 382 ] كلها } .

رواه البخاري ومسلم ، وهذا الحديث لبيان أقل الواجبات كما سبق التنبيه عليه ، ولهذا قال له النبي : صلى الله عليه وسلم " ارجع فصل ، فإنك لم تصل " فإن قيل : لم يأمره بالإعادة ، قلنا : هذا غلط وغفلة ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له في آخر مرة : " ارجع فصل ، فإنك لم تصل " فقال له : علمني فعلمه ، وقد سبق أمره له بالإعادة ، فلا حاجة إلى تكراره .

وعن زيد بن وهب عن حذيفة رضي الله عنه " رأى رجلا لا يتم الركوع والسجود فقال : ما صليت ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمدا صلى الله عليه وسلم " ، رواه البخاري وعن رفاعة بن رافع حديثه في قصة المسيء صلاته بمعنى حديث أبي هريرة ، وهو صحيح كما سبق بيانه في فصل قراءة الفاتحة وعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال النبي : صلى الله عليه وسلم { لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود } رواه أبو داود والترمذي وقال : حديث حسن صحيح والنسائي وغيرهم ، وهذا لفظ أبي داود .

ولفظ الترمذي { لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود } قال الترمذي : والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم ، والصلب الظهر . وفي الباب أحاديث كثيرة مشهورة وفيما ذكرناه كفاية ، وأما احتجاجهم بالآية الكريمة فجوابه : أنها مطلقة بينت السنة المراد بها فوجب اتباعه .

( فرع ) في الركوع

اتفق العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم على كراهة التطبيق في الركوع إلا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فإنه كان يقول : التطبيق سنة ، ويخبر أنه قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم يفعله ، ثبت ذلك عنه في صحيح مسلم ، وحجة الجمهور حديث سعد ، وهو صريح في النسخ كما سبق بيانه ، وحديث أبي حميد الساعدي وغيرهما . وعن أبي عبد الرحمن السلمي قال : " قال لنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه إن الركب قد سنت لكم فخذوا بالركب " رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح والنسائي .

التالي السابق


الخدمات العلمية