صفحة جزء
[ ص: 383 ] قال المصنف رحمه الله تعالى : ( والمستحب أن يقول : سبحان ربي العظيم ثلاثا ، وذلك أدنى الكمال ، لما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { إذا ركع أحدكم فقال : سبحان ربي العظيم ثلاثا فقد تم ركوعه ، وذلك أدناه } والأفضل أن يضيف : " اللهم لك ركعت ، ولك خشعت ، وبك آمنت ولك أسلمت ، خشع لك سمعي وبصري وعظمي ومخي وعصبي " لما روى علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم " كان إذا ركع قال ذلك ، " فإن ترك التسبيح لم تبطل صلاته ، لما روي : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسيء صلاته " ثم اركع حتى تطمئن راكعا " ولم يذكر التسبيح ) .


( الشرح ) حديث ابن مسعود رضي الله عنه رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم عن عون بن عبد الله بن عتبة عن ابن مسعود ، قال أبو داود والترمذي وغيرهما : هو منقطع ; لأن عونا لم يلق ابن مسعود ، ولهذا قال الشافعي في الأم : وإن كان هذا الحديث ثابتا ، فإنما يعني بقوله : تم ركوعه وذلك أدناه ، أي أدنى ما ينسب إلى كمال الفرض والاختيار معا ، لا كمال الفرض وحده . قال البيهقي : إنما قال : إن كان ثابتا ; لأنه منقطع . وأما حديث علي رضي الله عنه فرواه مسلم وفيه مغايرة في بعض الألفاظ سأذكرها إن شاء الله تعالى ، وحديث " المسيء صلاته " رواه البخاري ومسلم وسبق بيانه مرات .

( وأما حكم المسألة ) فقال الشافعي رحمه الله في المختصر : يقول سبحان ربي العظيم ثلاثا . وذلك أدنى الكمال ، وقال في الأم : أحب أن يبدأ الراكع فيقول : سبحان ربي العظيم ثلاثا ، ويقول ما حكيته عن النبي صلى الله عليه وسلم يعني حديث علي رضي الله عنه قال أصحابنا : ( يستحب التسبيح في الركوع ، ويحصل أصل السبحة بقوله : سبحان الله أو سبحان ربي وذلك أدنى الكمال أن يقول : سبحان ربي العظيم ثلاث مرات ، فهذا أدنى مراتب الكمال ) .

قال القاضي حسين قول الشافعي يقول : سبحان ربي العظيم ثلاثا ، وذلك أدنى الكمال ، لم يرد أنه لا يجزيه أقل من الثلاث ; لأنه لو سبح مرة واحدة كان آتيا بسنة التسبيح ، وإنما أراد أن أول الكمال الثلاث ، قال : ولو سبح خمسا أو سبعا أو تسعا أو إحدى عشرة كان أفضل وأكمل ، لكنه [ ص: 384 ] إذا كان إماما يستحب أن لا يزيد على ثلاث ، وكذا قال صاحب الحاوي : أدنى الكمال ثلاث ، وأعلى الكمال إحدى عشرة أو تسع ، وأوسطه خمس ، ولو سبح مرة حصل التسبيح .

قال أصحابنا : ويستحب أن يقول : سبحان ربي العظيم وبحمده ، وممن نص على استحباب قوله " وبحمده " القاضي أبو الطيب والقاضي حسين وصاحب الشامل والغزالي ، وآخرون ، وينكر على الرافعي ; لأنه قال : وبعضهم يضيف إليه وبحمده ، فأوهم أنه وجه شاذ مع أنه مشهور لهؤلاء الأئمة . قال أصحابنا : ويستحب أن يقول : اللهم لك ركعت إلى آخر ما في حديث علي رضي الله عنه وهذا أتم الكمال .

واتفق الأصحاب على أنه يأتي بالتسبيح أولا ، وهو ظاهر نص الشافعي في الأم الذي قدمته . قال أصحابنا : فإذا أراد الاقتصار على أحد الذكرين فالتسبيح أفضل ; لأنه أكثر في الأحاديث . وممن صرح بهذا القاضي حسين وإمام الحرمين وصاحب العدة وآخرون قال القاضي أبو الطيب : ( والإتيان بقوله : اللهم لك ركعت إلى آخره مع ثلاث تسبيحات أفضل من حذفه وزيادة التسبيح ثلاثا ، وهذا الذي قاله واضح لا يجيء فيه خلاف ) .

قال أصحابنا : والزيادة على ثلاث تسبيحات تستحب للمنفرد ، وأما الإمام فلا يزيد على ثلاث تسبيحات ، وقيل خمس إلا أن يرضى المأمومون بالتطويل ويكونوا محصورين لا يزيدون ، هكذا قاله الأصحاب ، وقد قال الشافعي في الأم : أحب أن يبدأ الراكع فيقول : سبحان ربي العظيم ثلاثا ، ويقول ما حكيت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوله ، يعني حديث علي رضي الله عنه قال : وكل ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في ركوع أو سجود أحببت أن لا يقصر عنه إماما كان أو منفردا ، وهو تخفيف لا تثقيل ، هذا لفظ نصه ، وظاهره : استحباب الجميع للإمام ، لكن الأقوى ما ذكره الأصحاب فيتأول نصه على ما إذا رضي المأمومون أو على غيره والله أعلم .

( فرع ) في بيان الأحاديث الواردة في أذكار الركوع والسجود . عن عائشة رضي الله عنها قالت : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 385 ] يقول في ركوعه وسجوده : سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي } رواه البخاري ومسلم وعنها { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه وسجوده : سبوح قدوس رب الملائكة والروح } رواه البخاري ومسلم ، وسبوح قدوس بضم أولها وفتحه لغتان ، وعنها { قالت افتقدت النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فتحسست ثم رجعت ، فإذا هو راكع وساجد يقول : سبحانك وبحمدك لا إله إلا أنت } رواه مسلم وعن حذيفة رضي الله عنه قال : { صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة ، فقلت : يركع عند المائة ثم مضى فقلت : يصلي بها في ركعة فمضى فقلت : يركع بها ، ثم افتتح آل عمران فقرأها ، ثم افتتح النساء فقرأها يقرأ مترسلا إذا مر بآية فيها تسبيح سبح ، وإذا مر بسؤال سأل ، وإذا مر بتعوذ تعوذ ، ثم ركع فجعل يقول : سبحان ربي العظيم ، فكان ركوعه نحوا من قيامه ، ثم قال : سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد ، ثم قام قياما طويلا قريبا مما ركع ثم سجد فقال : سبحان ربي الأعلى ، وكان سجوده قريبا من قيامه } رواه مسلم وعن علي رضي الله عنه { عن رسول الله : صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة قال : وجهت وجهي إلى آخره . وإذا ركع قال : اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت ، خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي . وإذا رفع قال : اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد . وإذا سجد قال : اللهم لك سجدت ، وبك آمنت ولك أسلمت ، سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره ، تبارك الله أحسن الخالقين } رواه مسلم .

[ ص: 386 ] وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : { لما نزلت فسبح باسم ربك العظيم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اجعلوها في ركوعكم ، فلما نزلت سبح اسم ربك الأعلى قال : اجعلوها في سجودكم } رواه أبو داود وابن ماجه بإسناد حسن ، زاد أبو داود في رواية أخرى ، قال : { فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ركع قال : سبحان ربي العظيم وبحمده ثلاثا ، وإذا سجد قال : سبحان ربي الأعلى وبحمده ثلاثا } قال أبو داود : ونخاف أن لا تكون هذه الزيادة محفوظة ، وفي رواتها مجهول .

وعن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم { كان يقول في ركوعه : سبحان ربي العظيم وبحمده ثلاثا ، وفي سجوده سبحان ربي الأعلى وبحمده ثلاثا } رواه الدارقطني بإسناد فيه محمد بن أبي ليلى وهو ضعيف .

وعن عوف بن مالك رضي الله عنه قال : { قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فقام يقرأ بسورة البقرة ، لا يمر بآية رحمة إلا وقف فسأل ، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف فتعوذ ، ثم ركع بقدر قيامه يقول في ركوعه : سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة ، ثم سجد بقدر قيامه ثم قال في سجوده مثل ذلك ، ثم قام فقرأ بآل عمران ، ثم قرأ سورة سورة } رواه أبو داود بإسناد صحيح .

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { أما الركوع فعظموا فيه الرب ، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم } رواه مسلم ، وفي الباب أحاديث كثيرة ستأتي بقية منها في السجود إن شاء الله تعالى . .

( فرع ) قال الشافعي والأصحاب وسائر العلماء : قراءة القرآن في الركوع والسجود والتشهد وغير حالة القيام من أحوال الصلاة لحديث علي رضي الله عنه قال : { نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قراءة القرآن وأنا راكع أو ساجد } رواه مسلم .

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله : صلى الله عليه وسلم قال { ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا ، [ ص: 387 ] فأما الركوع فعظموا فيه الرب ، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم } .

رواه مسلم ، فإن قرأ غير الفاتحة في الركوع والسجود لم تبطل صلاته ، وإن قرأ الفاتحة أيضا لم تبطل على الأصح ، وبه قطع جمهور العراقيين ، وفي وجه حكاه الخراسانيون وصاحب الحاوي : أنه تبطل صلاته ; لأنه نقل ركنا إلى غير موضعه ، كما لو ركع أو سجد في غير موضعه ، وستأتي فروع هذه المسألة ، ونبسطها في سجود السهو إن شاء الله تعالى .

( فرع ) في التسبيح وسائر الأذكار في الركوع والسجود ، وقول : سمع الله لمن حمده ، وربنا لك الحمد ، والتكبيرات غير تكبيرة الإحرام كل ذلك سنة ليس بواجب ، فلو تركه لم يأثم وصلاته صحيحة ، سواء أتركه عمدا أم سهوا ، لكن يكره تركه عمدا هذا مذهبنا ، وبه قال مالك وأبو حنيفة وجمهور العلماء .

قال الشيخ أبو حامد : وهو قول عامة الفقهاء ، قال صاحب الحاوي : وهو مذهب الفقهاء كافة .

وقال إسحاق بن راهويه : التسبيح واجب إن تركه عمدا بطلت صلاته ، وإن نسيه لم تبطل ، وقال داود : واجب مطلقا ، وأشار الخطابي في معالم السنن إلى اختياره ، وقال أحمد : التسبيح في الركوع والسجود وقول : سمع الله لمن حمده ، وربنا ولك الحمد ، والذكر بين السجدتين وجميع التكبيرات واجبة ، فإن ترك شيئا منه عمدا بطلت صلاته ، وإن نسي لم تبطل ، ويسجد للسهو عنه ، وعنه رواية أنه سنة كقول الجمهور . واحتج من أوجبه بحديث عقبة بن عامر المذكور في فرع أذكار الركوع ، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله .

وقال : صلى الله عليه وسلم { صلوا كما رأيتموني أصلي } وبالقياس على القراءة .

واحتج الشافعي والجمهور : بحديث المسيء صلاته ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم علمه واجبات الصلاة ، ولم يعلمه هذه الأذكار ، مع أنه علمه تكبيرة الإحرام والقراءة ، فلو كانت هذه الأذكار واجبة لعلمه إياها ، بل هذه أولى بالتعليم ، لو كانت واجبة ; لأنها تقال سرا وتخفى ، فإذا كان الركوع والسجود مع ظهورهما لا يعلمها فهذه أولى ، وأما الأحاديث الواردة بهذه الأذكار فمحمولة [ ص: 388 ] على الاستحباب جمعا بين الأدلة ، وأما القياس على القراءة ففرق أصحابنا بأن الأفعال في الصلاة ضربان : ( أحدهما ) : معتاد للناس في غير الصلاة ، وهو القيام والقعود ، وهذا لا تتميز العبادة فيه عن العادة فوجب فيه الذكر ليتميز .

( والثاني ) : غير معتاد ، وهو الركوع والسجود ، فهو خضوع في نفسه متميز لصورته عن أفعال العادة فلم يفتقر إلى مميز والله أعلم .

( فرع ) التسبيح في اللغة معناه التنزيه ، قال الواحدي : أجمع المفسرون وأهل المعاني على أن معنى تسبيح الله تعالى تنزيهه وتبرئته من السوء ، قال : وأصله في اللغة التبعيد من قولك : سبحت في الأرض إذا بعدت فيها ، وسبحان الله منصوب على المصدر عند الخليل والفراء ، كأنك قلت : سبحانا وتسبيحا فجعل السبحان موضع التسبيح ، قال سيبويه : سبحت الله سبحانا بمعنى واحد ، فالمصدر التسبيح ، وسبحان اسم يقوم مقام المصدر ، وبحمده سبحته فحذف سبحته اختصارا ، ويكون قوله : وبحمده حالا أي حامدا سبحته ، وقيل معناه : وبحمده أبتدئ .

التالي السابق


الخدمات العلمية