صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى : ( ثم يرفع رأسه ، ويستحب أن يقول : سمع الله لمن حمده لما ذكرناه من حديث : أبي هريرة في الركوع ، ويستحب أن يرفع يديه حذو منكبيه في الرفع ، لما ذكرناه من حديث ابن عمر في تكبيرة الإحرام ، فإن قال : من حمد الله سمع الله له أجزأه ; لأنه أتى باللفظ والمعنى ، فإذا استوى قائما استحب أن يقول : ربنا لك الحمد ملء السموات ، وملء الأرض ، وملء ما شئت من شيء بعد ، أهل الثناء والمجد حق ما قال العبد ، كلنا لك عبد ، لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد ، لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم " كان إذا رفع رأسه من الركوع قال ذلك " ويجب أن يطمئن قائما ، لما روى رفاعة بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { : إذا قام أحدكم إلى الصلاة فليتوضأ كما أمره الله تعالى - إلى أن قال - ثم ليركع حتى يطمئن راكعا ، ثم ليقم حتى يطمئن قائما ، ثم ليسجد حتى يطمئن ساجدا } ) .


( الشرح ) أما حديث أبي سعيد فصحيح رواه مسلم بلفظه إلا أنه قال : ( أحق ما قال العبد ، وكلنا لك عبد ) بإثبات الألف في أحق وواو في [ ص: 389 ] وكلنا ) هكذا رواه أبو داود وسائر المحدثين ، ووقع في المهذب وكتب الفقه ( حق ما قال العبد كلنا ) بحذف الألف والواو ، وهذا وإن كان منتظم المعنى لكن الصواب ما ثبت في كتب الحديث .

قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله : معناه ( أحق ما قال العبد ) قوله : ( لا مانع لما أعطيت ) إلى آخره ، وقوله : " وكلنا لك عبد ، فاعتراض بين المبتدأ والخبر ، قال أبو داود : أو يكون قوله " أحق ما قال " خبرا لما قبله أي قوله : ربنا لك الحمد إلى آخره " أحق ما قال العبد " ، والأول أولى ، وهذا الذي رجحه هو الراجح الذي يحسن أن يقال : إنه أحق ما قال العبد لما فيه من كمال التفويض إلى الله تعالى والاعتراف بكمال قدرته وعظمته وقهره وسلطانه وانفراده بالوحدانية وتدبير مخلوقاته .

وأما حديث ابن عمر صحيح رواه البخاري ومسلم ، وحديث رفاعة صحيح تقدم بيانه بطوله في فصل القراءة ، لكن ومع هنا " حتى تطمئن قائما " والذي في الحديث " حتى تعتدل قائما " .

( أما ألفاظ الفصل ) فقوله : لأنه أتى باللفظ والمعنى . احتراز من قوله في التكبير أكبر الله ، فإنه لا تجزئه ; لأنه أتى باللفظ دون المعنى ، وقوله " سمع الله لمن حمده " أي تقبل الله منه حمده وجازاه به ، وقوله : " ملء السموات وملء الأرض " هو بكسر الميم ويجوز نصب آخره ورفعه ممن ذكرهما جميعا ابن خالويه وآخرون ، وحكي عن الزجاج أنه لا يجوز إلا الرفع ، ورجح ابن خالويه والأكثرون النصب ، وهو المعروف في روايات الحديث ، وهو منصوب على الحال أي مالئا ، وتقديره لو كان جسما لملأ ذلك ، وقد بسطت الكلام في هذه اللفظة في تهذيب اللغات ، وذكرت قول الزجاج وابن خالويه وغيرهما .

وقوله ( أهل ) منصوب على النداء ، وقيل ويجوز رفعه على تقدير أنت أهل والمشهور الأول ، والثناء : المجد ، والمجد : العظمة ، وقوله : ( لا ينفع ذا الجد منك الجد ) هو بفتح الجيم على المشهور ، وقيل بكسرها والصحيح الأول والجد : الحظ والمعنى لا ينفع ذا المال والحظ والغنى غناه ، ولا يمنعه من عقابك ، وإنما ينفعه ويمنعه من عقابك العمل الصالح ، وعلى رواية الكسر يكون معناه لا ينفع ذا الإسراع في الهرب إسراعه وهربه ، وقد أوضحته في تهذيب الأسماء واللغات : وقوله : رفاعة بن مالك كذا هو في [ ص: 390 ] المهذب ، والذي في رواية الشافعي والترمذي وغيرهما رفاعة بن رافع ، وكذا ذكره المصنف بل هذا في فصل قراءة الفاتحة ، وقد بيناه هناك .

( أما حكم الفصل ) فالاعتدال من الركوع فرض وركن من أركان الصلاة ، لا تصح إلا به بلا خلاف عندنا ، وقد يتعجب من المصنف حيث لم يصرح به كما صرح به في التكبير والقراءة والركوع كأنه تركه لاستغنائه بقوله بعده : ويجب أن يطمئن قائما .

قال أصحابنا : والاعتدال الواجب هو أن يعود بعد ركوعه إلى الهيئة التي كان عليها قبل الركوع ، سواء أصلى قائما أم قاعدا ، فلو ركع عن قيام فسقط في ركوعه نظر إن لم يطمئن من ركوعه لزمه أن يعود إلى الركوع ويطمئن ، ثم يعتدل منه ، وإن اطمأن لزمه أن ينتصب قائما فيعتدل ثم يسجد ، ولا يجوز أن يعود إلى الركوع فإن عاد عالما بتحريمه بطلت صلاته ; لأنه زاد ركوعا ، ولو رفع الراكع رأسه ثم سجد وشك هل تم اعتداله ؟ لزمه أن يعود إلى الاعتدال ثم يسجد ; لأن الأصل عدم الاعتدال . ويجب أن لا يقصد بارتفاعه من الركوع شيئا غير الاعتدال ، فلو رأى في ركوعه حية ونحوها فرفع فزعا منها لم يعتد به ، وينبغي أن لا يطول الاعتدال زيادة على القدر المشروع لأذكاره ، فإن طول زيادة عليه ففي بطلان صلاته خلاف وتفصيل نذكره إن شاء الله تعالى في باب سجود السهو .

قال أصحابنا : ولو أتى بالركوع الواجب فعرضت علة منعته من الانتصاب سجد من ركوعه ، وسقط عنه الاعتدال لتعذره ، فلو زالت العلة قبل بلوغ جبهته من الأرض وجب أن يرتفع وينتصب قائما ويعتدل ثم يسجد ، وإن زالت بعد وضع جبهته على الأرض لم يرجع إلى الاعتدال بل سقط عنه ، فإن خالف وعاد إليه قبل تمام سجوده عالما بتحريمه بطلت صلاته ، وإن كان جاهلا لم تبطل ، ويعود إلى السجود .

وتجب الطمأنينة في الاعتدال بلا خلاف عندنا .

وقال إمام الحرمين : في قلبي من إيجابها شيء ، وسببه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث المسيء صلاته { حتى تعتدل قائما } وقال في باقي الأركان : حتى تطمئن ، والصواب الأول ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطمئن ، وقال : " { صلوا كما رأيتموني أصلي } " هذا ما يتعلق بواجب الاعتدال [ ص: 391 ] وأما أكمله ومندوباته ، فمنها أن يرفع يديه حذو منكبيه كما سبق بيانه في صفة الرفع في تكبيرة الإحرام ، ويكون ابتداء رفعهما مع ابتداء الرفع ، ودليل الرفع حديث ابن عمر الذي ذكره المصنف مع غيره مما سبق في فصل الركوع ، وسبق هناك بيان مذاهب العلماء ، فإذا اعتدل قائما حط يديه ، والسنة أن يقول في حال ارتفاعه : سمع الله لمن حمده .

قال الشافعي في الأم والأصحاب : فإن قال : ( من حمد الله سمع له ) أجزأه في تحصيل هذه السنة ; لأنه أتى باللفظ والمعنى ، بخلاف ما لو قال في التكبيرة أكبر الله ، فإنه لا يجزيه على الصحيح ; لأنه يحيل معناه بالتنكيس . قال الشافعي والأصحاب : لكن قول سمع الله لمن حمده أولى ; لأنه الذي وردت به الأحاديث ، فإذا استوى قائما استحب أن يقول : " ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد ، أهل الثناء والمجد ، أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد : لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد " .

وقال الشافعي والأصحاب : ( يستوي في استحباب هذه الأذكار كلها الإمام والمأموم والمنفرد ، فيجمع كل واحد منهم بين قوله : سمع الله لمن حمده وربنا لك الحمد إلى آخره ) وهذا لا خلاف فيه عندنا ، لكن قال الأصحاب : إنما يأتي الإمام بهذا كله إذا رضي المأمومون بالتطويل وكانوا محصورين ، فإن لم يكن كذلك اقتصر على قوله : سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد ، وقد قدمنا أن الذي في رواية المحدثين " أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد " والذي في كتب الفقه " حق ما قال العبد كلنا " بخلاف الألف والواو ، وكلاهما صحيح المعنى ، لكن المختار ما وردت به السنة الصحيحة ، وهو إثبات الألف والواو .

وثبت في الأحاديث الصحيحة من روايات كثيرة " ربنا لك الحمد " وفي روايات كثيرة " ربنا ولك الحمد " بالواو . وفي روايات " اللهم ربنا ولك الحمد " وفي روايات " اللهم ربنا لك الحمد " ، وكله في الصحيح . قال الشافعي والأصحاب : كله جائز . فقال الأصمعي : سألت أبا عمرو عن الواو في قوله " ربنا ولك الحمد " فقال : هي زائدة ، تقول العرب : يعني هذا الثوب : فيقول المخاطب : نعم وهو لك بدرهم ، فالواو زائدة ( قلت ) : ويحتمل أن تكون عاطفة على محذوف ، أي : ربنا أطعناك وحمدناك ولك [ ص: 392 ] الحمد .

قال الشافعي والأصحاب : " ولو قال : ولك الحمد ربنا " أجزأه ; لأنه أتى باللفظ والمعنى ، وقد سبق الآن الفرق بينه وبين قوله " أكبر الله " قالوا : ولكن الأفضل قوله " ربنا لك الحمد " على الترتيب الذي وردت به السنة .

قال صاحب الحاوي وغيره : يستحب للإمام أن يجهر بقوله سمع الله لمن حمده ليسمع المأمومون ويعلموا انتقاله ، كما يجهر بالتكبير ويسر بقوله : ربنا لك الحمد ; لأنه يفعله في الاعتدال فأسر به كالتسبيح في الركوع والسجود ، وأما المأموم فيسر بهما كما يسر بالتكبير ، وإذا أراد تبليغ غيره انتقال الإمام كما يبلغ التكبير جهر بقوله : سمع الله لمن حمده ; لأنه المشروع في حال الارتفاع ولا يجهر بقوله : ربنا لك الحمد ; لأنه إنما يشرع في حال الاعتدال والله أعلم .

( فرع ) ذكر صاحب التتمة في اشتراط الاعتدال في صلاة النفل وجهين ، بناء على أن النفل هل يصح مضطجعا مع القدرة على القيام ؟ قال : ووجه السنة أنه اقتصر على الإيماء مع القدرة على إكمال الأركان .

( فرع ) في مذاهب العلماء في الاعتدال

قد ذكرنا أن مذهبنا : أنه ركن في الصلاة لا تصح الصلاة إلا به ، وبهذا قال أحمد وداود وأكثر العلماء . وقال أبو حنيفة : لا يجب ، بل لو انحط من الركوع إلى السجود أجزأه . وعن مالك روايتان كالمذهبين ، واحتج لهم بقوله تعالى { اركعوا واسجدوا } واحتج أصحابنا بحديث المسيء صلاته ، والآية الكريمة لا تعارضه ، وبقوله : صلى الله عليه وسلم { صلوا كما رأيتموني أصلي } .

( فرع ) في مذاهب العلماء فيما يقال في الاعتدال ، قد ذكرنا أن مذهبنا : أنه يقول في حال ارتفاعه : سمع الله لمن حمده ، فإذا استوى قائما قال : ربنا لك الحمد إلى آخره ، وأنه يستحب الجمع بين هذين الذكرين للإمام والمأموم والمنفرد ، وبهذا قال عطاء وأبو بردة ومحمد بن [ ص: 393 ] سيرين وإسحاق وداود .

وقال أبو حنيفة يقول الإمام والمنفرد : سمع الله لمن حمده فقط ، والمأموم ربنا لك الحمد فقط . حكاه ابن المنذر عن ابن مسعود وأبي هريرة والشعبي ومالك وأحمد قال : وبه أقول . وقال الثوري والأوزاعي وأبو يوسف ومحمد وأحمد : " يجمع الإمام الذكرين ويقتصر المأموم على ربنا لك الحمد " ، واحتج لهم بحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { إذا قال الإمام : سمع الله لمن حمده فقولوا : ربنا لك الحمد } رواه البخاري ومسلم وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله رواه البخاري ومسلم ، ورواه مسلم أيضا من رواية أبي موسى

واحتج أصحابنا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قال : سمع الله لمن حمده قال : اللهم ربنا ولك الحمد } رواه البخاري ومسلم ، وعن حذيفة رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين رفع رأسه : سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد } ، رواه مسلم ، وقد سبق بطوله في فصل الركوع ، ومثله في صحيح البخاري من رواية ابن عمر رضي الله عنهما ، وفي صحيح مسلم من رواية عبد الله بن أبي أوفى وغيره .

وثبت في صحيح البخاري من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { صلوا كما رأيتموني أصلي } فيقتضي هذا مع ما قبله أن كل مصل يجمع بينهما ، ولأنه ذكر يستحب للإمام فيستحب لغيره كالتسبيح في الركوع وغيره ; ولأن الصلاة مبنية على أن لا يفتر عن الذكر في شيء منها ، فإن لم يقل بالذكرين في الرفع والاعتدال ، بقي أحد الحالين خاليا عن الذكر .

وأما الجواب عن قوله : صلى الله عليه وسلم { وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا : ربنا لك الحمد } فقال أصحابنا : فمعناه قولوا : ربنا لك الحمد مع ما قد علمتموه من قول : سمع الله لمن حمده ، وإنما خص هذا بالذكر ; لأنهم كانوا يسمعون جهر النبي صلى الله عليه وسلم بسمع الله لمن حمده ، فإن السنة فيه الجهر ، ولا يسمعون قوله : ربنا لك الحمد ; لأنه يأتي به سرا كما سبق بيانه ، وكانوا يعلمون قوله : صلى الله عليه وسلم { صلوا كما رأيتموني [ ص: 394 ] أصلي } مع قاعدة التأسي به صلى الله عليه وسلم مطلقا ، وكانوا يوافقون في سمع الله لمن حمده ، فلم يحتج إلى الأمر به ، ولا يعرفون ربنا لك الحمد فأمروا به ، والله أعلم .

( فرع ) ثبت عن رفاعة بن رافع رضي الله عنه قال : " { كنا نصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما رفع رأسه من الركعة ، قال : سمع الله لمن حمده ، فقال رجل وراءه : ربنا لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ، فلما انصرف قال : من المتكلم ؟ قال : رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أول } رواه البخاري ، فيستحب أن يجمع بين هذه الأذكار فيقول في ارتفاعه : سمع الله لمن حمده ، فإذا انتصب قال : " اللهم ربنا لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ملء السموات وملء الأرض إلى قوله : منك الجد " .

التالي السابق


الخدمات العلمية