صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى : ( وأما السجود على اليدين والركبتين والقدمين ففيه قولان ( أشهرهما ) : أنه لا يجب ; لأنه لو وجب لوجب الإيماء بها إذا عجز كالجبهة ، ( والثاني ) : يجب لما روى ابن عباس رضي الله عنهما { أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يسجد على سبعة أعضاء يديه وركبتيه وأطراف أصابعه وجبهته } فإذا قلنا : بهذا لم يجب كشف القدمين والركبتين ; لأن كشف الركبة يفضي إلى كشف العورة فتبطل صلاته ، والقدم قد يكون في الخف فكشفها يبطل المسح والصلاة ، وأما اليد ففيها قولان ( المنصوص ) في الكتب : أنه لا يجب ; لأنها لا تكشف إلا لحاجة فهي كالقدم ، وقال في السبق والرمي : قد قيل فيه قول آخر : إنه يجب لحديث خباب بن الأرت رضي الله عنه ) .


( الشرح ) حديث ابن عباس رضي الله عنهما رواه البخاري ومسلم وقوله : قال في السبق والرمي ، يعني قال الشافعي في كتاب السبق والرمي ، وهو كتاب من كتب الأم ، ( أما حكم المسألة ) ففي وجوب وضع اليدين والركبتين والقدمين قولان مشهوران نص عليهما في الأم ، قال الشيخ أبو حامد ونص في الإملاء : أن وضعها مستحب لا واجب ، واختلف الأصحاب في الأصح من القولين فقال القاضي أبو الطيب : ظاهر حديث الشافعي أنه لا يجب وضعها ، وهو قول عامة الفقهاء .

وقال المصنف والبغوي : هذا هو القول الأشهر وصححه الجرجاني في التحرير والروياني في الحلية والرافعي ، وصحح جماعة قول الوجوب ، ومنهم البندنيجي وصاحب العدة والشيخ نصر المقدسي ، وبه قطع الشيخ أبو حامد في التبصرة ، هذا هو الأصح وهو الراجح في الدليل ، فإن الحديث صريح في الأمر بوضعها ، والأمر للوجوب على المختار ، وهو مذهب الفقهاء ، والقائل الأول يحمل الحديث على الاستحباب ، ولكن لا نسلم له ; لأن أصله الوجوب ، فلا يصرف عنه بغير دليل فالمختار الصحيح : الوجوب ، وقد أشار الشافعي رحمه الله في الأم إلى ترجيحه كما سأذكره قريبا إن شاء الله تعالى .

[ ص: 403 ] ثم اختلف أصحابنا في موضع القولين فقال المصنف والجمهور : في اليدين والركبتين والقدمين قولان ، ولم يفرقوا بينها ، وقال القاضي حسين : في وجوب وضع اليدين قولان ، فإن قلنا : لا يجب لم يجب وضع الركبتين ، وإلا فقولان ، ( فإن قلنا ) : لا تجب الركبتان فالقدمان أولى ، وإلا فقولان ، وذكر إمام الحرمين : أن المذهب طرد القولين في الجميع ، وأن من الأصحاب من خصهما باليدين ، وقال : لا تجب الركبتان والقدمان ، وذكر القفال في شرح التلخيص قول ابن القاص : إن في الجميع قولين ، ثم قال القفال ، قال أصحابنا : هذا غلط ، ولا يختلف المذهب : أن وضع الركبتين وأطراف القدمين واجب ، وإنما اختلف قوله في وجوب وضع اليدين ، وهذا الذي نقله القفال عن الأصحاب عجيب غريب وهو غلط بلا شك ; لأن الشافعي نص على القولين في الأعضاء الستة في الأم ، وصرح الأصحاب المتقدمون والمتأخرون بجريان القولين في الجميع ، وها أنا أنقل نص الشافعي رحمه الله من الأم بحروفه .

قال في الأم : " كمال السجود أن يسجد على جبهته وأنفه وراحته وركبتيه وقدميه ، وإن سجد على جبهته دون أنفه كرهت ذلك له وأجزأه ، وإن سجد على بعض جبهته دون جميعها كرهت ذلك ، ولم يكن عليه إعادة ، قال : وأحب أن يباشر براحتيه الأرض في الحر والبرد ، ولا أحب هذا في ركبتيه ، بل أحب أن يكونا مستترين بالثياب ، وأحب إن لم يكن الرجل متخففا أن يفضي بقدميه إلى الأرض ، ولا يسجد متنعلا ، قال الشافعي : وفي هذا قولان ( أحدهما ) : لمن [ يكون ] عليه أن يسجد على جميع أعضائه التي أمرته بالسجود عليها ، [ ويكون حكمها غير حكم الوجه على أن له أن يسجد عليها كلها متغطية فتجزيه ; لأن اسم السجود يقع عليها ، وإن كانت محولا دونها بشيء ] فمن قال بهذا قال : إن ترك عضوا منها لم يوقعه الأرض ، وهو يقدر على إيقاعه لم يكن ساجدا ، كما إذا ترك جبهته فلم يوقعها الأرض ، وهو يقدر [ على ذلك فلم يسجد ] ، وإن سجد على ظهر كفيه لم يجزه [ ص: 404 ] لأن السجود على بطونها ] ، وكذا إن سجد على حروفها ، وإن ماس الأرض ببعض يديه أصابعهما أو بعضهما أو راحتيه أو بعضهما أو سجد على ما عدا جبهته متغطية أجزأه ، وهكذا [ هذا ] في الركبتين والقدمين .

( قال الشافعي ) وهذا مذهب يوافق الحديث .

( والقول الثاني ) : أنه إذا سجد على جبهته أو على شيء منها دون ما سواها أجزأه .

هذا نص الشافعي بحروفه نقلته من الأم من نسخة معتمدة مقابلة ، وفيه فوائد كثيرة فحصل للأصحاب أربع طرق في اليدين والركبتين والقدمين ، والصحيح المشهور الذي قطع به الجمهور ونص عليه : أن في وجوب وضع الجميع قولين وهذا الذي حكاه القفال ، وهذه الطرق الثلاثة سوى الأول غلط مخالف للحديث ونص الشافعي وجمهور الأصحاب ، وإنما أذكرها لبيان حالها لئلا يغتر بها ، ثم اختلفوا في صورة المسألة إذا قلنا : لا يجب وضع هذه الأعضاء الستة ، فقال جماعة من أصحابنا المتقدمين والمتأخرين ، منهم المحاملي في المجموع : إذا قلنا : لا يجب وضعها فمعناه يجوز ترك بعضها على البدل فتارة يترك اليدين أو إحداهما وتارة يترك القدمين أو إحداهما ، وكذلك الركبتان ، ولا يتصور ترك الجميع .

وقال الشيخ أبو حامد في تعليقه والبندنيجي إذا قلنا : لا يجب وضعها فأمكنه أن يسجد على جبهته دونها كلها أجزأه ، وقال صاحب العدة مثله ، قال الرافعي إذا قلنا : لا يجب وضعها اعتمد ما شاء ورفع ما شاء ، ولا يمكنه أن يسجد مع رفع الجميع ، هذا هو الغالب والمقطوع به .

( قلت : ) ويتصور رفع الجميع فيما إذا صلى على حجرين منهما حائط قصير ، فإذا سجد انبطح ببطنه على الحائط ، ورفع هذه الأعضاء أو اعتمد بوسط ساقه أو بظهر كمه ، فإن ذلك له حكم رفع الكف كما سبق في نص الشافعي ، والله أعلم .

قال أصحابنا : فإذا قلنا يجب وضع هذه الأعضاء كفى وضع أدنى جزء من كل عضو منها كما قلنا في الجبهة ، والاعتبار في القدمين ببطون الأصابع ، فلو وضع غير ذلك لم يجزئه ، ونقل صاحب البيان عن صاحب الفروع أنه إن سجد على ظاهر قدمه أجزأه والأول : أصح ، وبه قطع الرافعي وغيره ، [ ص: 405 ] والاعتبار في اليدين بباطن الكف سواء فيه باطن الأصابع وباطن الراحة ، فإن اقتصر على باطن بعض الراحة أو بعض باطن الأصابع أجزأه ، وإن اقتصر على ، ظاهر الكفين أو حرفهما لم يجزئه ، هكذا نص عليه الشافعي رحمه الله في الأم كما سبق بيانه ، وهكذا قطع به الجمهور ، منهم الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والمتولي ، وخالفهم المحاملي في التجريد فقال : الذي يتعلق به السجود هو الراحتان والصحيح الأول ، وأنه يجزيه بطون الأصابع كما نص عليه الشافعي والجمهور ; لأنه يسمى ساجدا على يديه والله أعلم .

قال الشافعي والأصحاب : وإذا أوجبنا وضع هذه الأعضاء لم يجب كشف الركبتين والقدمين ، لكن يستحب كشف القدمين ويلزمه عدم كشف الركبتين ، وقد سبق دليل الجميع ، وفي وجوب كشف اليدين قولان ( الصحيح ) : أنه لا يجب وهو المنصوص في عامة كتب الشافعي كما ذكره المصنف ( والثاني ) : يجب كشف أدنى جزء من باطن كل كف والله أعلم .

( فرع ) لو تعذر وضع أحد الكفين أو أحد القدمين لقطع أو غيره فحكم المسألة كما سبق ، ولا فرض في المتعذرة ولا يجب وضع طرف الزند من المقطوعة ; لأن محل الفرض فات فلا يجب غيره ، كما لو قطعت من فوق المرفق لا يجب غسل العضد .

التالي السابق


الخدمات العلمية