صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى : ( ثم يرفع رأسه [ ويكبر ] لما رويناه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الركوع ثم يجلس مفترشا ، يفرش رجله اليسرى ويجلس وينصب اليمنى ، لما يروى { أن أبا حميد الساعدي وصف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ثم ثنى رجله اليسرى وقعد واعتدل حتى يرجع كل عظم إلى موضعه } ويكره الإقعاء في الجلوس ، وهو أن يضع أليتيه على عقبيه كأنه قاعد عليها ، وقيل : هو أن يجعل يديه في الأرض ويقعد على أطراف أصابعه ، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإقعاء } [ أي يقعي ] إقعاء القردة ، " ويجب أن يطمئن في جلوسه لقوله صلى الله عليه وسلم [ للمسيء صلاته ] " ، { ثم ارفع حتى تطمئن جالسا . }

" ويستحب أن يقول في جلوسه : اللهم اغفر لي [ واجبرني ] وعافني وارزقني واهدني لما روى ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم " { كان يقول بين السجدتين ذلك } " )


( الشرح ) حديث أبي هريرة في التكبير صحيح سبق بيانه في فصل الركوع ، وسبق هناك أحاديث كثيرة صحيحة فيه ، وحديث أبي حميد صحيح وسبق بيانه في فصل الركوع ، وهذا لفظ رواية أبي داود والترمذي ، وأما [ ص: 414 ] حديث الإقعاء فرواه البيهقي بإسناد ضعيف .

وروى النهي عن الإقعاء جماعة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم منهم علي بن أبي طالب وأنس وسمرة بن جندب رواها كلها البيهقي بأسانيد ضعيفة ، وروى الترمذي حديث علي بإسناد ضعيف وضعفه ، والحاصل : أنه ليس في النهي عن الإقعاء حديث صحيح ، وأما حديث " { ارفع حتى تطمئن جالسا } " فرواه البخاري ومسلم من رواية أبي هريرة ، ورواه أبو داود والترمذي وغيرهما بالأسانيد الصحيحة من رواية رفاعة بن رافع ، وقد سبق بيانه مرات .

وأما حديث ابن عباس فرواه أبو داود والترمذي وغيرهما بإسناد جيد ، ورواه الحاكم في المستدرك وقال : صحيح الإسناد ، ولفظ أبي داود { اللهم اغفر لي وارحمني وعافني واهدني وارزقني } ولفظ الترمذي : مثله لكنه ذكر " { وأجرني وعافني } " وفي رواية ابن ماجه ( وارفعني ) بدل ( واهدني ) ، وفي رواية البيهقي { رب اغفر لي وارحمني وأجرني وارفعني وارزقني واهدني } فالاحتياط والاختيار : أن يجمع بين الروايات ويأتي بجميع ألفاظها وهي سبعة { اللهم اغفر لي وارحمني وعافني وأجرني وارفعني واهدني وارزقني } وقوله : ( يفرش هو بفتح الياء وضم الراء على المشهور ) ، وحكي كسر الراء .

( أما أحكام الفصل ) فالجلوس بين السجدتين فرض والطمأنينة فيه فرض للحديث ، وقد سبق بيان حد الطمأنينة في فصل الركوع ، ويشترط أن لا يقصد بالرفع شيئا آخر كما ذكرنا في الرفع من الركوع ، وينبغي أن لا يطوله طولا فاحشا ، فإن طوله ففي بطلان صلاته خلاف ، وتفصيل يأتي في باب سجود السهو إن شاء الله تعالى ، والسنة : أن يكبر لجلوسه ويبتدئ التكبير من حين يبتدئ رفع الرأس ويمده إلى أن يستوي جالسا فيكون مده أقل من مد تكبيرة الهوي من الاعتدال إلى السجود ; لأن الفصل هنا قليل ، وقد سبق حكاية قول : إنه لا يمد شيئا من التكبيرات أوضحته في فصل الركوع .

والسنة أن يجلس مفترشا يفرش رجله اليسرى ويجلس على كعبها وينصب اليمنى ، هذا هو المشهور ، وحكى صاحب الشامل وآخرون قولا أنه يضجع قدميه ويجلس على صدرهما ، وسنذكر إن شاء الله تعالى نص الشافعي في البويطي والإملاء على صفة هذا الجلوس عند تفسير الإقعاء .

ويستحب أن [ ص: 415 ] يضع يديه على فخذيه قريبا من ركبتيه منشورتي الأصابع وموجهة إلى القبلة ، ولو انقطعت أطراف أعلى الركبتين فلا بأس ، كذا قاله إمام الحرمين وغيره . قال إمام الحرمين وغيره : ولو تركهما على الأرض من جانبي فخذيه كان كإرسالهما في القيام يعني يكون تاركا للسنة ، وهل يستحب أن تكون أصابعه مضمومة كما في السجود أو مفرقة ؟ فيه وجهان ( أصحهما ) : مضمومة لتتوجه إلى القبلة ، وسنوضحها في فصل التشهد إن شاء الله تعالى .

ويستحب الدعاء المذكور ، والمختار الأحوط : أن يأتي بالكلمات السبع كما سبق بيانه ، قال صاحب التتمة : ولا يتعين هذا الدعاء ، بل أي دعاء دعا به حصلت السنة ، ولكن هذا الذي في الحديث أفضل .

( واعلم ) أن هذا الدعاء مستحب باتفاق الأصحاب . قال الشيخ أبو حامد : لم يذكره الشافعي في هذا الموضع في شيء من كتبه ، ولم ينفه قال : وهو سنة للحديث المذكور .

( فرع ) في الإقعاء : قد ذكرنا أن الأحاديث الواردة في النهي عنه مع كثرتها ليس فيها شيء ثابت وبينا رواتها ، وثبت عن طاوس قال { قلنا لابن عباس في الإقعاء على القدمين قال : هي السنة فقلنا : إنا لنراه جفاء بالرجل قال : بل هي سنة نبيك صلى الله عليه وسلم } رواه مسلم في صحيحه . وفي رواية للبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : { من سنة الصلاة أن تمس أليتاك عقبيك بين السجدتين } .

وذكر البيهقي حديث ابن عباس ، هذا ثم روى عن ابن عمر رضي الله عنهما { أنه كان إذا رفع رأسه من السجدة الأولى يقعد على أطراف أصابعه ويقول : إنه من السنة } ثم روى عن ابن عمر وابن عباس : رضي الله عنهم أنهما كانا يقعيان ثم روى عن طاوس أنه كان يقعي وقال : رأيت العبادلة يفعلون ذلك : عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم .

قال البيهقي : فهذا الإقعاء المرضي فيه والمسنون على ما روينا عن ابن عباس وابن عمر : هو أن يضع أطراف أصابع رجليه على الأرض ويضع أليتيه على عقبيه ويضع ركبتيه على الأرض ، ثم روى الأحاديث الواردة في النهي [ ص: 416 ] عن الإقعاء بأسانيدها عن الصحابة الذين ذكرناهم ، ثم ضعفها كلها وبين ضعفها وقال : حديث ابن عباس وابن عمر صحيح ، ثم روى عن أبي عبيد أنه حكى عن شيخه أبي عبيدة أنه قال : الإقعاء أن يلصق أليتيه بالأرض وينصب ساقيه ويضع يديه بالأرض قال : وقال في موضع آخر : الإقعاء جلوس الإنسان على أليتيه ناصبا فخذيه مثل إقعاء الكلب والسبع ، قال البيهقي : وهذا النوع من الإقعاء غير ما رويناه عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم ، فهذا منهي عنه ، وما رويناه عن ابن عباس وابن عمر مسنون .

قال : وأما حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم { أنه كان ينهى عن عقب الشيطان } فيحتمل أن يكون واردا في الجلوس للتشهد الأخير ، فلا يكون منافيا لما رواه ابن عباس وابن عمر في الجلوس بين السجدتين .

هذا آخر كلام البيهقي رحمه الله ، ولقد أحسن وأجاد وأتقن وأفاد وأوضح إيضاحا شافيا ، وحرر تحريرا وافيا رحمه الله ، وأجزل مثوبته ، وقد تابعه على هذا الإمام المحقق أبو عمرو بن الصلاح فقال بعد أن ذكر حديث النهي عن الإقعاء : هذا الإقعاء محمول على أن يضع أليتيه على الأرض وينصب ساقيه ويضع يديه على الأرض ، وهذا الإقعاء غير ما صح عن ابن عباس وابن عمر أنه سنة ، فذلك الإقعاء أن يضع أليتيه على عقبيه قاعدا عليها وعلى أطراف أصابع رجليه ، وقد استحبه الشافعي في الجلوس بين السجدتين في الإملاء والبويطي قال : وقد خبط في الإقعاء من المصنفين من يعلم أنه نوعان كما ذكرنا . قال : وفيه في المهذب تخليط : هذا آخر كلام أبي عمرو رحمه الله ، وهذا كتابه الذي حكاه عن البويطي والإملاء من نص الشافعي ، قد حكاه عنهما البيهقي في كتابه " معرفة السنن والآثار " وأما كلام الخطابي فلم يحصل له ما حصل للبيهقي ، وخالف في هذا الحديث عادته في حل المشكلات والجمع بين الأحاديث المختلفة ، بل ذكر حديث ابن عباس ثم قال : وأكثر الأحاديث على النهي عن الإقعاء وأنه عقب الشيطان .

وقد ثبت من حديث أبي حميد ووائل بن حجر { أن النبي صلى الله عليه وسلم قعد بين السجدتين مفترشا قدمه اليسرى } قال : ورويت كراهة [ ص: 417 ] الإقعاء عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم ، وكرهه النخعي ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأهل الرأي وعامة أهل العلم .

قال : والإقعاء أن يضع أليتيه على عقبيه ويقعد مستوفزا غير مطمئن إلى الأرض ، وهذا إقعاء الكلاب والسباع . قال أحمد بن حنبل : وأهل مكة يستعملون الإقعاء .

قال الخطابي : ويشبه أن يكون حديث ابن عباس منسوخا ، والعمل على الأحاديث الثابتة في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم هذا آخر كلام الخطابي ، وهو فاسد من أوجه : منها أنه اعتمد على أحاديث النهي فيه ، وادعى أيضا نسخ حديث ابن عباس ، والنسخ : لا يصار إليه إلا إذا تعذر الجمع بين الأحاديث وعلمنا التاريخ ، ولم يتعذر هنا الجمع بل أمكن كما ذكره البيهقي ، ولم يعلم أيضا التاريخ ، وجعل أيضا الإقعاء نوعا واحدا ، وإنما هو نوعان . فالصواب الذي لا يجوز غيره : أن الإقعاء نوعان كما ذكره البيهقي وأبو عمرو :

( أحدهما ) : مكروه :

( والثاني ) : جائز أو سنة .

وأما الجمع بين حديثي ابن عباس وابن عمر وأحاديث أبي حميد ووائل وغيرهما في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفهم الافتراش على قدمه اليسرى فهو : أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له في الصلاة أحوال ، حال يفعل فيها هذا وحال يفعل فيها ذاك ، كما كانت له أحوال في تطويل القراءة وتخفيفها وغير ذلك من أنواعها ، وكما توضأ مرة مرة ومرتين مرتين وثلاثا ثلاثا ، وكما طاف راكبا وطاف ماشيا ، وكما أوتر أول الليل وآخره وأوسطه وانتهى وتره إلى السحر ، وغير ذلك كما هو معلوم من أحواله .

صلى الله عليه وسلم وكان يفعل العبادة على نوعين أو أنواع ليبين الرخصة والجواز بمرة أو مرات قليلة ، ويواظب على الأفضل بينهما على أنه المختار والأولى .

فالحاصل : أن الإقعاء الذي رواه ابن عباس وابن عمر فعله النبي صلى الله عليه وسلم على التفسير المختار الذي ذكره البيهقي ، وفعل صلى الله عليه وسلم ما رواه أبو حميد وموافقوه من جهة الافتراش ، وكلاهما سنة لكن إحدى السنتين أكثر وأشهر ، وهي رواية أبي حميد ; لأنه رواها وصدقه عشرة من الصحابة كما سبق ، ورواها وائل بن حجر وغيره ، ، وهذا يدل على مواظبته صلى الله عليه وسلم عليها وشهرتها عندهم ، فهي أفضل وأرجح ، مع أن [ ص: 418 ] الإقعاء سنة أيضا ، فهذا ما يسر الله الكريم من تحقيق أمر الإقعاء ، وهو من المهمات لتكرر الحاجة إليه في كل يوم مع تكرره في كتب الحديث والفقه ، واستشكال أكثر الناس له من كل الطوائف ، وقد من الله الكريم بإتقانه ولله الحمد على جميع نعمه .

( فرع ) في مذاهب العلماء في الجلوس بين السجدتين والطمأنينة فيه ، مذهبنا : أنهما واجبان لا تصح الصلاة إلا بهما ، وبه قال جمهور العلماء ، وقال أبو حنيفة : لا تجب الطمأنينة ولا الجلوس ، بل يكفي أن يرفع رأسه عن الأرض أدنى رفع ، ولو كحد السيف ، وعنه وعن مالك أنهما قالا : يجب أن يرتفع بحيث يكون إلى القعود أقرب منه ، وليس لهما دليل يصح التمسك به .

ودليلنا : قوله صلى الله عليه وسلم { ثم ارفع حتى تطمئن جالسا } رواه البخاري من رواية أبي هريرة ورواه أبو داود والترمذي من حديث رفاعة بن رافع ، وقد سبق بيان هذا وغيره من الأدلة في مسألة وجوب الاعتدال عن الركوع .

التالي السابق


الخدمات العلمية