صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى : ( ثم يرفع رأسه ويكبر لما ذكرناه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الركوع ، قال الشافعي : فإذا استوى قاعدا نهض ، وقال في الأم : " يقوم من السجدة " فمن أصحابنا من قال : المسألة على قولين ( إحداهما ) : لا يجلس لما روى وائل بن حجر : { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من السجدة استوى قائما بتكبيرة } ( والثاني ) : يجلس لما روى مالك بن الحويرث : { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا كان في الركعة الأولى والثالثة لم ينهض حتى يستوي قاعدا } .

وقال أبو إسحاق إن كان ضعيفا جلس ; لأنه يحتاج إلى الاستراحة ، وإن كان قويا لم يجلس ; لأنه لا يحتاج إلى الاستراحة ، وحمل القولين على هذين الحالين ، فإن قلنا : يجلس جلس مفترشا لما روى أبو حميد { أن [ ص: 419 ] النبي صلى الله عليه وسلم ثنى رجله فقعد عليها ، حتى يرجع كل عظم إلى موضعه ثم نهض } ، ويستحب : أن يعتمد على يديه في القيام لما روى مالك بن الحويرث : { أن النبي صلى الله عليه وسلم استوى قاعدا ثم قام واعتمد على الأرض بيديه } قال الشافعي : لأن هذا أشبه بالتواضع وأعون للمصلي ويمد التكبير إلى أن يقوم حتى لا يخلو [ فعل ] من ذكر ) .


( الشرح ) حديث أبي هريرة صحيح سبق بيانه مرات ، وحديث وائل غريب وحديث مالك بن الحويرث رواه البخاري في مواضع من صحيحه ، وحديث أبي حميد صحيح رواه أبو داود والترمذي ، وسبق بيانه بطوله في فصل الركوع . وحديث مالك بن الحويرث الأخير صحيح أيضا رواه البخاري بمعناه ، وسأذكره بلفظه في فرع مذاهب العلماء إن شاء الله تعالى ، وكل هؤلاء الرواة سبق ذكرهم وبيان أحوالهم إلا مالك بن الحويرث ، وهو أبو سليمان مالك بن الحويرث ، ويقال : ابن الحارث الليثي رضي الله عنه توفي بالبصرة سنة أربع وتسعين فيما قيل وقوله : قال الشافعي : " فإذا استوى قاعدا نهض " يعني قال هذا في مختصر المزني .

( أما حكم الفصل ) فيسن التكبير إذا رفع رأسه من السجدة الثانية ، فإن كانت السجدة يعقبها تشهد مده حتى يجلس .

وإن كانت لا يعقبها تشهد فهل تسن جلسة الاستراحة ؟ فيها النصان اللذان ذكرهما المصنف عن الشافعي ، وللأصحاب فيها ثلاثة طرق :

( أحدها ) ، وهو قول أبي إسحاق المروزي : هما محمولان على حال فإن كان المصلي ضعيفا لمرض أو كبر أو غيرهما استحب وإلا فلا .

( الطريق الثاني ) : القطع بأنها تستحب لكل أحد ، وبهذا قطع الشيخ أبو حامد في تعليقه والبندنيجي والمحاملي في المقنع والفوراني في الإبانة وإمام الحرمين والغزالي في كتبه وصاحب العدة وآخرون ، ونقل الشيخ أبو حامد اتفاق الأصحاب عليه

( الطريق الثالث ) : فيه قولان أحدهما يستحب : ( والثاني ) : لا يستحب ، وهذا الطريق أشهر ، واتفق القائلون به على أن الصحيح من القولين استحبابها ، فحصل من هذا أن الصحيح في المذهب استحبابها ، وهذا هو [ ص: 420 ] الصواب الذي ثبتت فيه الأحاديث الصحيحة التي سنذكرها إن شاء الله تعالى في فرع مذاهب العلماء ، فإذا قلنا : لا تسن جلسة الاستراحة ابتدأ التكبير مع ابتداء الرفع وفرغ منه مع استوائه قائما ، وإذا قلنا بالمذهب وهو : أنها مستحبة ، قال أصحابنا : هي جلسة لطيفة جدا ، وفي التكبير ثلاثة أوجه حكاها البغوي والمتولي وصاحب البيان وآخرون ( أصحها ) عند الجمهور وبه قطع المصنف هنا وفي التنبيه ، ونقله أبو حامد عن نص الشافعي : أنه يرفع مكبرا ويمده إلى أن يستوي قائما ويخفف الجلسة ، ودليله : ما ذكره المصنف والأصحاب أن لا يخلو جزء من الصلاة عن ذكر ، ( الثاني ) : يرفع غير مكبر ويبدأ بالتكبير جالسا ويمده إلى أن يقوم ( والثالث ) : يرفع مكبرا فإذا جلس قطعه ثم يقوم بلا تكبير ، نقله أبو حامد عن أبي إسحاق المروزي وقطع به القاضي أبو الطيب .

قال أصحابنا : ولا خلاف أنه لا يأتي بتكبيرتين ، ممن صرح بذلك القاضي حسين والبغوي والسنة فيها : أن يجلس مفترشا لحديث أبي حميد ، هذا هو المذهب وبه قطع المصنف والجمهور ، وحكى صاحب الحاوي وجها أنه يجلس على صدور قدميه ، وهو شاذ ، وتسن هذه الجلسة عقب السجدتين في كل ركعة يعقبها قيام سواء الأولى والثالثة والفرائض والنوافل ، لحديث مالك بن الحويرث : { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعدا } رواه البخاري .

ولو سجد المصلي للتلاوة لم تشرع جلسة الاستراحة بلا خلاف ، وصرح به القاضي حسين والبغوي وغيرهما . قال أصحابنا : ولو لم يجلس الإمام جلسة الاستراحة فجلسها المأموم جاز ولا يضر هذا التخلف ; لأنه يسير ، وبهذا فرق أصحابنا بينه وبين ما لو ترك التشهد الأول . واختلف أصحابنا في جلسة الاستراحة هل هي من الركعة الثانية أم جلوس مستقل ؟ على وجهين :

( أحدهما ) : أنها من الثانية ، حكاه في البيان عن الشيخ أبي حامد ( الثاني ) وهو الصحيح المشهور : أنها جلوس فاصل بين الركعتين ، وليس من واحدة منهما كالتشهد الأول وجلوسه ، وبهذا قطع ابن الصباغ والمتولي ، وتظهر فائدة الخلاف في تعليق اليمين على شيء في الركعة الثانية ونحو ذلك .

واعلم أنه ينبغي لكل أحد أن يواظب على هذه الجلسة لصحة الأحاديث [ ص: 421 ] فيها وعدم المعارض الصحيح لها ، ولا تغتر بكثرة المتساهلين بتركها ، فقد قال الله تعالى { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم } ، وقال تعالى { وما آتاكم الرسول فخذوه } قال أصحابنا : وسواء قام من الجلسة أو من السجدة يسن أن يقوم معتمدا بيديه على الأرض ، وكذا إذا قام من التشهد الأول يعتمد بيديه على الأرض ، سواء في هذا القوي والضعيف ، والرجل والمرأة ، ونص عليه الشافعي واتفق عليه الأصحاب لحديث مالك بن الحويرث ، وليس له معارض صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم .

وإذا اعتمد بيديه جعل بطن راحتيه وبطون أصابعه على الأرض ، بلا خلاف . وأما الحديث المذكور في الوسيط وغيره عن ابن عباس { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام في صلاته وضع يديه على الأرض كما يضع العاجن } فهو حديث ضعيف أو باطل لا أصل له ، وهو بالنون ، ولو صح كان معناه : قائما معتمدا ببطن يديه كما يعتمد العاجز ، وهو الشيخ الكبير ، وليس المراد عاجن العجين .

( فرع ) في مذاهب العلماء في استحباب جلسة الاستراحة .

مذهبنا الصحيح المشهور : أنها مستحبة كما سبق ، وبه قال مالك بن الحويرث وأبو حميد وأبو قتادة وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم ، وأبو قلابة وغيره من التابعين ، قال الترمذي : وبه قال أصحابنا وهو مذهب داود ورواية عن أحمد وقال كثيرون أو الأكثرون : لا يستحب ، بل إذا رفع رأسه من السجود نهض ، حكاه ابن المنذر عن ابن مسعود وابن عمر وابن عباس وأبي الزناد ، ومالك والثوري وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق ، قال : قال النعمان بن أبي عياش : " أدركت غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يفعل هذا " ، وقال أحمد بن حنبل : أكثر الأحاديث على هذا ، واحتج لهم بحديث { المسيء صلاته } " ولا ذكر لها فيه ، وبحديث وائل بن حجر المذكور في الكتاب ، وقال الطحاوي : ولأنه لا دلالة في حديث أبي حميد قال : ولأنها لو كانت مشروعة لسن لها ذكر كغيرها . [ ص: 422 ]

واحتج أصحابنا بحديث مالك بن الحويرث أنه { رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي ، فإذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعدا } رواه البخاري بهذا اللفظ ، ورواه أيضا من طرق كثيرة بمعناه عن أبي هريرة { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث المسيء صلاته : اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تطمئن جالسا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تطمئن جالسا } ، رواه البخاري في صحيحه بهذا اللفظ في كتاب السلام ، وعن أبي حميد وغيره من الصحابة رضي الله عنهم أنه وصف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فقال : { ثم هوى ساجدا ثم ثنى رجله وقعد حتى رجع كل عظم موضعه ثم نهض ، وذكر الحديث فقالوا : صدقت ، } رواه أبو داود والترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح ، وإسناد أبي داود إسناد صحيح على شرط مسلم ، وقد سبق بيان الحديث بطوله في الركوع . والجواب عن حديث المسيء صلاته : أن النبي إنما علمه الواجبات دون المسنونات ، وهذا معلوم سبق ذكره مرات ، وأما حديث وائل فلو صح وجب حمله على موافقة غيره في إثبات جلسة الاستراحة ; لأنه ليس فيه تصريح بتركها ، ولو كان صريحا لكان حديث مالك بن الحويرث وأبي حميد وأصحابه مقدما عليه لوجهين .

( أحدهما ) : صحة أسانيدها :

( والثاني ) : كثرة رواتها ، ويحتمل حديث وائل أن يكون رأى النبي صلى الله عليه وسلم في وقت أو أوقات تبينا للجواز ، وواظب على ما رواه الأكثرون ، ويؤيد هذا : { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمالك بن الحويرث بعد أن قام يصلي معه ويتحفظ العلم منه عشرين يوما ، وأراد الانصراف من عنده إلى أهله : اذهبوا إلى أهليكم ومروهم وكلموهم وصلوا كما رأيتموني أصلي } ، وهذا كله ثابت في صحيح البخاري من طرق ، فقال له النبي : صلى الله عليه وسلم هذا وقد رآه يجلس الاستراحة ، فلو لم يكن هذا هو المسنون لكل أحد لما أطلق صلى الله عليه وسلم قوله : { صلوا كما رأيتموني أصلي } ، وبهذا يحصل الجواب عن فرق أبي إسحاق المروزي من القوي والضعيف ، ويجاب به أيضا عن قول من لا معرفة له : ليس تأويل حديث وائل وغيره بأولى من عكسه .

وأما قول الإمام أحمد بن حنبل : إن أكثر الأحاديث على هذا ، ومعناه : [ ص: 423 ] أن أكثر الأحاديث ليس فيها ذكر الجلسة إثباتا ولا نفيا ، ولا يجوز أن يحمل كلامه على أن مراده أن أكثر الأحاديث تنفيها ; لأن الموجود في كتب الحديث ليس كذلك ، وهو أجل من أن يقول شيئا على سبيل الإخبار عن الأحاديث ، ونجد فيها خلافه ، وإذا تقرر أن مراده أن أكثر الروايات ليس فيها إثباتها ولا نفيها لم يلزم رد سنة ثابتة من جهات عن جماعات من الصحابة .

وأما قول الطحاوي : إنها ليست في حديث أبي حميد ، فمن العجب الغريب فإنها مشهورة فيه في سنن أبي داود والترمذي وغيرهما من كتب السنن والمسانيد للمتقدمين ، وأما قوله : لو شرع لكان لها ذكر ، فجوابه : أن ذكرها التكبير ، فإن الصحيح أنه يمد حتى يستوعبها ويصل إلى القيام كما سبق ، ولو لم يكن فيها ذكر لم يجز رد السنن الثابتة بهذا الاعتراض والله أعلم . .

( فرع ) في مذاهبهم في كيفية النهوض إلى الركعة الثانية وسائر الركعات : قد ذكرنا : أن مذهبنا أنه يستحب أن يقوم معتمدا على يديه ، وحكى ابن المنذر هذا عن ابن عمر ومكحول وعمر بن عبد العزيز وابن أبي زكريا والقاسم بن عبد الرحمن ومالك وأحمد ، وقال أبو حنيفة وداود : يقوم غير معتمد بيديه على الأرض ، بل يعتمد صدور قدميه ، ، وهذا مذهب ابن مسعود وحكاه ابن المنذر عن علي رضي الله عنه والنخعي والثوري ، واحتج لهم بحديث أبي شيبة عن قتادة عن أبي جحيفة عن علي رضي الله عنه قال : { من السنة إذا نهض الرجل في الصلاة المكتوبة من الركعتين الأوليين أن لا يعتمد بيديه على الأرض إلا أن يكون شيخا كبيرا لا يستطيع } رواه البيهقي ، وعن خالد بن إلياس ، ويقال : ابن ياس عن صالح مولى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهض في الصلاة على صدور قدميه } رواه الترمذي والبيهقي

وعن ابن عمر { أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يعتمد الرجل على يديه إذا نهض في الصلاة } رواه أبو داود ، وعن وائل بن حجر في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 424 ] قال : { وإذا نهض نهض على ركبتيه واعتمد على فخذه } رواه أبو داود وعن عبد الرحمن بن يزيد أنه " رأى ابن مسعود يقوم على قدميه في الصلاة " رواه البيهقي وقال : هذا صحيح عن ابن مسعود وعن عطية العوفي قال : " رأيت ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وأبا سعيد الخدري رضي الله عنهم يقومون على صدور أقدامهم في الصلاة ، " رواه البيهقي واحتج الشافعي والأصحاب بحديث أيوب السختياني عن أبي قلابة ، قال : { جاءنا مالك بن الحويرث فصلى بنا فقال : إني لأصلي بكم وما أريد الصلاة ، أريد أن أريكم كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي } قال أيوب : فقلت لأبي قلابة : " كيف كانت صلاته ؟ فقال : مثل شيخنا هذا - يعني عمرو بن سلمة - قال أيوب : وكان ذلك الشيخ يتم التكبير ، فإذا رفع رأسه عن السجدة الثانية جلس واعتمد على الأرض ثم قام ، رواه البخاري في صحيحه بهذا اللفظ ، قال الشافعي : ولأن ذلك أبلغ في الخشوع والتواضع وأعون للمصلي وأحرى أن لا ينقلب ، والجواب عن أحاديثهم : أنها كلها ليس فيها شيء صحيح إلا الأثر الموقوف على ابن مسعود ، وترك السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول غيره ، فأما حديث علي رضي الله عنه فضعيف ضعفه البيهقي ، وقال ابن أبي شيبة : ضعفه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهما ، وأما حديث أبي هريرة فضعيف ، ضعفه الترمذي والبيهقي وغيرهما ; لأن رواية خالد بن إلياس وصالح ضعيفتان .

وأما حديث ابن عمر فضعيف من وجهين ( أحدهما ) : أنه رواية محمد بن عبد الملك الغزالي ، وهو مجهول ( والثاني ) : أنه مخالف لرواية الثقات ; لأن أحمد بن حنبل رفيق الغزالي في الرواية لهذا الحديث عن عبد الرزاق وقال فيه : { نهي أن يجلس الرجل في الصلاة وهو معتمد على يديه } .

ورواه آخران عن عبد الرزاق خلاف ما رواه الغزالي ، وقد ذكر أبو داود ذلك كله وقد علم من قاعدة المحدثين وغيرهم أن ما خالف الثقات كان حديثه شاذا مردودا .

وأما حديث وائل فضعيف أيضا ; لأنه من رواية ابنه عبد الجبار بن وائل عن أبيه ، واتفق الحفاظ على أنه لم يسمع من أبيه شيئا ، ولم [ ص: 425 ] يدركه ، وقيل : إنه ولد بعد وفاته بستة أشهر ، وأما حكاية عطية فمردودة ; لأن عطية ضعيف .

( فرع ) قال القاضي أبو الطيب والشاشي : يكره أن يقدم إحدى رجليه حال القيام ويعتمد عليها ، وحكاه ابن المنذر عن ابن عباس وإسحاق ، قال إسحاق : إلا أن يكون شيخا كبيرا ، ومثله عن مجاهد وقال مالك : لا بأس به .

التالي السابق


الخدمات العلمية