صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى : ( فإن كانت الصلاة تزيد على ركعتين جلس في الركعتين للتشهد لنقل الخلف عن السلف عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو سنة ، لما روى عبد الله ابن بحينة [ ص: 429 ] رضي الله عنهما قال : { صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر فقام من اثنتين ولم يجلس ، فلما قضى صلاته سجد سجدتين بعد ذلك ثم سلم } ، ولو كان واجبا لفعله ولم يقتصر على السجود ، والسنة أن يجلس في هذا التشهد مفترشا لما روى أبو حميد رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس في الأوليين جلس على قدمه اليسرى ونصب اليمنى } )


( الشرح ) حديث ابن بحينة رواه البخاري ومسلم وحديث أبي حميد رواه البخاري ، وسبق بطوله في فصل الركوع ، وبحينة بضم الموحدة وفتح المهملة وهي صحابية أسلمت رضي الله عنها وبايعت النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن سعد : اسمها عبدة - يعني وبحينة لقب - وابنها عبد الله بن مالك يكنى أبا محمد ، أسلم وصحب النبي صلى الله عليه وسلم قديما ، فكان فاضلا ناسكا يصوم الدهر غير أيام النهي رضي الله عنه .

( أما حكم المسألة ) فإذا كانت الصلاة أكثر من ركعتين جلس بعد الركعتين ، وهذا الجلوس سنة وليس بواجب ، وقد سبق بيان صفة الافتراش في الجلوس بين السجدتين وجلسة الاستراحة وجلسة التشهد الأول وجلسة التشهد الأخير ، فالأولى والرابعة واجبتان ، والثانية والثالثة سنتان ، والسنة : أن يجلس في الثلاث الأول مفترشا ، وفي الرابعة متوركا ، فلو عكس جاز ، ولكن الأفضل ما ذكرناه .

( فرع ) قال أصحابنا : لا يتعين للجلوس في هذه المواضع هيئة للإجزاء بل كيف وجد أجزأه ، سواء تورك أو افترش أو مد رجليه أو نصب ركبتيه أو أحدهما أو غير ذلك ، لكن السنة التورك في آخر الصلاة والافتراش فيما سواه والافتراش : أن يضع رجله اليسرى على الأرض ويجلس على كعبها ، وينصب اليمنى ويضع أطراف أصابعها على الأرض موجهة إلى القبلة ، والتورك : أن يخرج رجليه وهما على هيئة الافتراش من جهة يمينه ، ويمكن وركه الأيسر من الأرض .

( فرع ) في مذاهب العلماء في حكم التشهد الأول ، والجلوس له . [ ص: 430 ] مذهبنا : أنهما سنة ، وبه قال أكثر العلماء ، منهم مالك والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة ، قال الشيخ أبو حامد وغيره : وهو قول عامة العلماء وقال الليث وأحمد وأبو ثور وإسحاق وداود : هو واجب ، قال أحمد : إن ترك التشهد عمدا بطلت صلاته ، وإن تركه سهوا - سجد للسهو - وأجزأته صلاته .

واحتج لهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله وقال : { صلوا كما رأيتموني أصلي } وقياسا على التشهد الأخير ، واحتج أصحابنا بحديث ابن بحينة ، ووجه الدلالة ما ذكره المصنف وأجابوا عن حديث { صلوا كما رأيتموني أصلي } : بأنه متناول للفرض والنفل ، وقد قامت دلائل على تميزهما وأجابوا عن القياس على التشهد الأخير : بأنه لم يقم دليل على إخراجه عن الوجوب ، وأيضا فإنه لا يجبره سجود السهو بخلاف الأول .

( فرع ) في مذاهبهم في هيئة الجلوس في التشهدين .

مذهبنا أنه يستحب أن يجلس في التشهد الأول مفترشا وفي الثاني متوركا ، فإن كانت الصلاة ركعتين جلس متوركا . وقال مالك : يجلس فيهما متوركا ، وقال أبو حنيفة والثوري : يجلس فيهما مفترشا ، وقال أحمد : إن كانت الصلاة ركعتين افترش وإن كانت أربعا افترش في الأول وتورك في الثاني . واحتج لمن قال : يفرش فيهما بحديث عائشة : رضي الله عنها { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى وينهى عن عقب الشيطان } وفي رواية البيهقي : " يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى " وعن وائل بن حجر : رضي الله عنهما { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفرش رجله اليسرى } ، واحتج للتورك بحديث عبد الله بن الزبير : رضي الله عنهما { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قعد في الصلاة جعل قدمه اليسرى بين فخذه وساقه وفرش قدمه اليمنى } .

رواه مسلم ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما { سنة الصلاة أن تنصب رجلك اليمنى وتثني اليسرى } رواه البخاري .

وروى مالك بإسناده الصحيح عن ابن عمر الجلوس على قدمه اليسرى . واحتج أصحابنا بحديث أبي حميد في عشرة من أصحاب النبي : صلى الله عليه وسلم { أنه وصف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم قال : فإذا جلس في الركعتين [ ص: 431 ] جلس على رجله اليسرى وينصب اليمنى ، فإذا جلس في الركعة الأخيرة قدم رجله اليسرى ونصب الأخرى ، وقعد على مقعدته } ، رواه البخاري بهذا اللفظ ، وقد سبق بطوله في فصل الركوع ، وسبق هناك رواية أبي داود والترمذي . قال الشافعي والأصحاب : فحديث أبي حميد وأصحابه صريح في الفرق بين التشهدين ، وباقي الأحاديث مطلقة فيجب حملها على موافقته ، فمن روى التورك أراد الجلوس في التشهد الأخير ، ومن روى الافتراش أراد الأول ، وهذا متعين للجمع بين الأحاديث الصحيحة لا سيما وحديث أبي حميد وافقه عليه عشرة من كبار الصحابة رضي الله عنهم والله أعلم .

( فرع ) قال أصحابنا : الحكمة في الافتراش في التشهد الأول ، والتورك في الثاني : أنه أقرب إلى تذكر الصلاة وعدم اشتباه عدد الركعات ، ولأن السنة تخفيف التشهد الأول فيجلس مفترشا ليكون أسهل للقيام ، والسنة تطويل الثاني ولا قيام بعده ، فيجلس متوركا ليكون أعون له وأمكن ليتوفر الدعاء ، ولأن المسبوق إذا رآه علم في أي التشهدين .

( فرع ) المسبوق إذا جلس مع الإمام في آخر صلاة الإمام فيه وجهان . الصحيح المنصوص في الأم ، وبه قطع الشيخ أبو حامد والبندنيجي والقاضي أبو الطيب والغزالي والجمهور : يجلس مفترشا ; لأنه ليس بآخر صلاته ، ( والثاني ) : يجلس متوركا متابعة للإمام ، حكاه إمام الحرمين ووالده والرافعي ( الثالث ) : إن كان جلوسه في محل التشهد الأول للمسبوق افترش وإلا تورك ; لأن جلوسه حينئذ لمجرد المتابعة فيتابع في الهيئة ، حكاه الرافعي .

وإذا جلس من عليه سجود سهو في آخره فوجهان حكاهما إمام الحرمين وآخرون :

( أحدهما ) : يجلس متوركا ; لأنه آخر صلاته ( والثاني ) وهو الصحيح : يفترش وبه قطع صاحب العدة وآخرون ، ونقله إمام الحرمين عن معظم الأئمة ; لأنه مستوفز ليتم صلاته ، فعلى هذا إذا سجد سجدتي السهو تورك ثم سلم .

( فرع ) قال أصحابنا : يتصور أن يتشهد أربع مرات في صلاة [ ص: 432 ] المغرب ، بأن يكون مسبوقا أدرك الإمام بعد الركوع يتشهد أربع مرات يفترش في ثلاثة منهن ويتورك في الرابعة

التالي السابق


الخدمات العلمية