صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( وإذا أراد أن ينصرف فإن كان خلفه نساء استحب له أن يلبث حتى تنصرف النساء لئلا يختلطن بالرجال ، لما روت أم سلمة رضي الله عنها { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم قام النساء حين يقضي سلامه فيمكث يسيرا قبل أن يقوم . } قال الزهري رحمه الله : ( فنرى والله أعلم أن مكثه لينصرف النساء قبل أن يدركهن الرجال ) . وإذا أراد أن ينصرف توجه في جهة حاجته لما روى الحسن رحمه الله قال : " كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون في المسجد الجامع فمن كان بيته من قبل بني تميم انصرف عن يساره ومن كان بيته ما يلي بني سليم انصرف عن يمينه يعني بالبصرة " وإن لم يكن له حاجة فالأولى أن ينصرف عن يمينه ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب التيامن في كل شيء )


( الشرح ) قال الشافعي والأصحاب رحمهم الله تعالى : يستحب للإمام إذا سلم أن يقوم من مصلاه عقب سلامه إذا لم يكن خلفه نساء ، هكذا قاله الشافعي في المختصر ، واتفق عليه الأصحاب وعلله الشيخ أبو حامد والأصحاب بعلتين ( إحداهما ) لئلا يشك هو أو من خلفه هل سلم أم لا ؟ ( والثانية ) لئلا يدخل غريب فيظنه بعد في الصلاة فيقتدي به ، أما إذا كان خلفه نساء فيستحب أن يلبث بعد سلامه ويثبت الرجال قدرا يسيرا يذكرون [ ص: 471 ] الله تعالى حتى تنصرف النساء ، بحيث لا يدرك المسارعون في سيرهم من الرجال آخرهن ويستحب لهن أن ينصرفن عقب سلامه فإذا انصرفن انصرف الإمام وسائر الرجال واستدل الشافعي والأصحاب بالحديث الذي ذكره المصنف عن أم سلمة رضي الله عنها قالت { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم قام النساء حين يقضي تسليمه ومكث يسيرا كي ينصرفن قبل أن يدركهن أحد من القوم } وفي رواية قال ابن شهاب " فأرى والله أعلم أن مكثه لكي ينفد النساء قبل أن يدركهن من انصرف من القوم " رواه البخاري في مواضع كثيرة من صحيحه ، ولأن الاختلاط بهن مظنة الفساد وسبب للريبة ; لأنهن مزينات للناس مقدمات على كل الشهوات . قال الشافعي في الأم : فإن قام الإمام قبل ذلك أو جلس أطول من ذلك فلا شيء عليه . قال : وللمأموم أن ينصرف إذا قضى الإمام السلام قبل ، قيام الإمام قال : وتأخير ذلك حتى ينصرف بعد انصراف الإمام أو معه أحب إلي .

قال الشافعي في الأم والأصحاب : إذا انصرف المصلي إماما كان أو مأموما أو منفردا فله أن ينصرف عن يمينه وعن يساره وتلقاء وجهه ووراءه ولا كراهة في شيء من ذلك ، لكن يستحب إن كان له حاجة في جهة من هذه الجهات أن يتوجه إليها ، وإن لم يكن له حاجة فجهة اليمنى أولى ، واستدل الشافعي في الأم والأصحاب { بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب التيامن في شأنه كله } وقد سبقت الأحاديث الصحيحة في ذلك في باب صفة الوضوء في فصل غسل اليدين وجاء في هذه المسألة حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : { لا يجعل أحدكم للشيطان شيئا من صلاته لا يرى إلا أن حقا عليه أن لا ينصرف إلا عن يمينه لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ينصرف عن يساره } رواه البخاري ومسلم قال " أكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه " وعن هلب بضم الهاء الطائي رضي الله عنه { أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان ينصرف عن [ ص: 472 ] شقيه } رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم بإسناد حسن فهذه الأحاديث تدل على أنه يباح الانصراف من الجانبين ، وإنما أنكر ابن مسعود رضي الله تعالى عنه على من يعتقد وجوب ذلك .

( فرع ) إذا أراد أن ينفتل في المحراب ويقبل على الناس للذكر والدعاء وغيرهما جاز أن ينفتل كيف شاء ، وأما الأفضل فقال البغوي الأفضل أن ينفتل عن يمينه ، وقال في كيفيته وجهان :

( أحدهما ) وبه قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى يدخل يمينه في المحراب ، ويساره إلى الناس ، ويجلس على يمين المحراب ( والثاني ) وهو الأصح يدخل يساره في المحراب ويمينه إلى القوم ويجلس على يسار المحراب ، هذا لفظ البغوي في التهذيب وجزم البغوي في شرح السنة بهذا الثاني . واستدل له بحديث البراء بن عازب رضي الله عنهما قال : { كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أحببنا أن نكون عن يمينه يقبل علينا بوجهه فسمعته يقول في قنوته : رب قني عذابك يوم تبعث أو تجمع عبادك } رواه مسلم ، وقال إمام الحرمين : إن لم يصح في هذا حديث فلست أرى فيه إلا التخيير .

( فرع ) قال أصحابنا : إن كانت الصلاة مما يتنفل بعدها فالسنة أن يرجع إلى بيته لفعل النافلة ; لأن فعلها في البيت أفضل لقوله صلى الله عليه وسلم { صلوا أيها الناس في بيوتكم فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة } رواه البخاري ومسلم من رواية زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا } رواه البخاري ومسلم وعن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا قضى أحدكم صلاته في مسجده فليجعل لبيته من صلاته نصيبا فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيرا } رواه مسلم . قال أصحابنا فإن لم يرجع إلى بيته وأراد التنفل في المسجد يستحب أن ينتقل عن موضعه قليلا لتكثير مواضع سجوده هكذا علله البغوي وغيره ، فإن لم ينتقل إلى موضع آخر فينبغي أن يفصل بين الفريضة والنافلة بكلام إنسان . [ ص: 473 ] واستدل البيهقي وآخرون من أصحابنا وغيرهم بحديث عمرو بن عطاء { أن نافع بن جبير أرسله إلى السائب بن أخت نمير يسأله عن شيء رآه منه معاوية في الصلاة فقال : نعم صليت معه الجمعة في المقصورة فلما سلم الإمام قمت في مقامي فصليت فلما دخل أرسل إلي فقال : لا تعد لما فعلت إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاة حتى تكلم أو تخرج ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بذلك أن لا نوصل صلاة حتى نتكلم أو نخرج } رواه مسلم . فهذا الحديث هو المعتمد في المسألة وأما حديث عطاء الخراساني عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا يصلي الإمام في الموضع الذي يصلي فيه حتى يتحول } فضعيف رواه أبو داود وقال : عطاء لم يدرك المغيرة وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { أيعجز أحدكم أن يتقدم أو يتأخر عن يمينه أو عن شماله في الصلاة ؟ يعني النافلة } رواه أبو داود بإسناد ضعيف ، وضعفه البخاري في صحيحه .

قال أصحابنا : فإذا صلى النافلة في المسجد جاز . وإن كان خلاف الأفضل لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : { صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم سجدتين قبل الظهر وسجدتين بعدها وسجدتين بعد المغرب وسجدتين بعد العشاء وسجدتين بعد الجمعة ، فأما المغرب والعشاء ففي بيته } رواه البخاري ومسلم ، وظاهره أن الباقي صلاها في المسجد لبيان الجواز في بعض الأوقات ، وهو صلاة النافلة في البيت ، وفي الصحيحين { أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ليالي في رمضان في المسجد من المكتوبات } والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية