صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( والسنة في صلاة الصبح أن يقنت في الركعة الثانية لما روى أنس رضي الله تعالى عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهرا يدعو عليهم ثم تركه ، فأما في الصبح فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا } ومحل القنوت بعد الرفع من الركوع لما روي أنه { سئل أنس هل قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح ؟ قال : نعم ، وقيل : قبل الركوع أو بعده ؟ قال بعد الركوع } والسنة أن يقول : اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت إنك تقضي ولا يقضى عليك إنه لا يذل من واليت تباركت وتعاليت " لما روى الحسن بن علي رضي الله عنه قال : { علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء الكلمات في الوتر فقال قل : [ ص: 474 ] اللهم اهدني فيمن هديت } إلى آخره وإن قنت بما روي عن عمر رضي الله عنه كان حسنا وهو ما روى أبو رافع قال : قنت عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد الركوع في الصبح فسمعته يقول : " اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ولا نكفرك ونؤمن بك . ونخلع ونترك من يفجرك ، اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد ، وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخشى عذابك إن عذابك الجد بالكفار ملحق ، اللهم عذب كفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيلك يكذبون رسلك ويقاتلون أولياءك اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات ، وأصلح ذات بينهم وألف بين قلوبهم واجعل في قلوبهم الإيمان والحكمة وثبتهم على ملة رسولك وأوزعهم أن يوفوا بعهدك الذي عاهدتهم عليه ، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا إله الحق واجعلنا منهم " ويستحب أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الدعاء لما روي من حديث الحسن رضي الله عنه في الوتر أنه قال : " تباركت وتعاليت وصلى الله على النبي وسلم " ويستحب للمأموم أن يؤمن على الدعاء لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال : { قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يؤمن من خلفه } ويستحب له أن يشاركه في الثناء ; لأنه لا يصلح التأمين على ذلك فكانت المشاركة أولى .

وأما رفع اليدين في القنوت فليس فيه نص ، والذي يقتضيه المذهب أنه لا يرفع ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرفع اليد إلا في ثلاثة مواطن في الاستسقاء والاستنصار وعشية عرفة ولأنه دعاء في الصلاة فلم يستحب له رفع اليد كالدعاء في التشهد ، وذكر القاضي أبو الطيب الطبري في بعض كتبه أنه لا يرفع اليد ، وحكى في التعليق أنه يرفع اليد ، والأول عندي أصح . وأما غير الصبح من الفرائض فلا يقنت فيه من غير حاجة ، فإن نزلت بالمسلمين نازلة قنتوا في جميع الفرائض ، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم { كان لا يقنت إلا أن يدعو لأحد أو يدعو على أحد ، وكان إذا قال : سمع الله لمن حمده ، قال : ربنا لك الحمد وذكر الدعاء } )


( الشرح ) في الفصل مسائل :

( إحداها ) القنوت في الصبح بعد رفع الرأس من ركوع الركعة الثانية سنة عندنا بلا خلاف ، وأما ما نقل عن أبي علي بن أبي هريرة أنه لا يقنت في الصبح ; لأنه صار شعار طائفة مبتدعة فهو غلط لا يعد من مذهبنا ، وأما غير الصبح من المكتوبات فهل يقنت فيها ؟ فيه ثلاثة أقوال حكاها إمام الحرمين والغزالي وآخرون ( الصحيح ) المشهور الذي قطع به الجمهور : إن نزلت بالمسلمين نازلة كخوف أو قحط أو وباء أو جراد أو نحو ذلك قنتوا في جميعها وإلا فلا .

( والثاني ) يقنتون مطلقا حكاه جماعات منهم شيخ الأصحاب [ ص: 475 ] الشيخ أبو حامد في تعليقه ومتابعوه .

( والثالث ) لا يقنتون مطلقا حكاه الشيخ أبو محمد الجويني وهو غلط مخالف للسنة الصحيحة المستفيضة { أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت في غير الصبح عند نزول النازلة حين قتل أصحابه القراء } وأحاديثهم مشهورة في الصحيحين وغيرهما وهذا الخلاف في الجواز وعدمه عند الأكثرين ، هكذا صرح الشيخ أبو حامد والجمهور . قال الرافعي مقتضى كلام أكثر الأئمة أنه لا يستحب القنوت في غير الصبح بحال ، وإنما الخلاف في الجواز فحيث يجوز فالاختيار فيه إلى المصلي قال : ومنهم من يشعر كلامه بالاستحباب ( قلت ) وهذا أقرب إلى السنة ، فإنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم القنوت للنازلة فاقتضى أن يكون سنة ، ممن صرح بأن الخلاف في الاستحباب صاحب العدة . قال : ونص الشافعي في الأم على الاستحباب مطلقا . وأما غير المكتوبات فلا يقنت في شيء منهن قال الشافعي في الأم في كتاب صلاة العيدين في باب القراءة في العيدين : ( ولا قنوت في صلاة العيدين والاستسقاء فإن قنت عند نازلة لم أكرهه )

( المسألة الثانية ) محل القنوت عندنا بعد الركوع كما سبق ، فلو قنت قبله فإن كان مالكيا يراه أجزأه ، وإن كان شافعيا فالمشهور أنه لا يجزئه . قال صاحب المستظهري : هو المذهب . وقال صاحب الحاوي : فيه وجهان :

( أحدهما ) يجزئه لاختلاف العلماء فيه ( والثاني ) لا يجزئه لوقوعه في غير موضعه فيعيده بعد الركوع ، قال : وهل يسجد للسهو ؟ فيه وجهان وقطع البغوي وغيره بأنه يسجد للسهو وهو المنصوص . قال الشافعي في الأم :

لو أطال القيام ينوي به القنوت كان عليه سجود السهو ; لأن القنوت عمل من عمل الصلاة ، فإذا عمله في غير موضعه أوجب سجود السهو . هذا نصه ، وأشار في التهذيب إلى وجه في بطلان صلاته لأنه قال : هو كما لو قرأ التشهد في القيام فحصل فيمن قنت قبل الركوع أربعة أوجه ( الصحيح ) أنه لا تبطل صلاته ولا يجزئه ويسجد للسهو ( والثاني ) لا يجزئه ولا يسجد للسهو ( والثالث ) يجزئه ( والرابع ) تبطل صلاته ، وهو غلط .

( الثالثة ) السنة في لفظ القنوت : { اللهم اهدني فيمن هديت ، وعافني [ ص: 476 ] فيمن عافيت ، وتولني فيمن توليت ، وبارك لي فيما أعطيت ، وقني شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، وأنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت } . هذا لفظه في الحديث الصحيح بإثبات الفاء في : فإنك والواو في : وأنه لا يذل ، وتباركت ربنا ، هذا لفظه في رواية الترمذي وفي رواية أبي داود وجمهور المحدثين ولم يثبت الفاء في رواية أبي داود وتقع هذه الألفاظ في كتب الفقه مغيرة فاعتمد ما حققته ، فإن ألفاظ الأذكار يحافظ فيها على الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا لفظ الترمذي عن { الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما قال : علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر : اللهم اهدني فيمن هديت ، وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، وأنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت } رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم بإسناد صحيح . قال الترمذي هذا حديث حسن ، قال : ولا يعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت شيء أحسن من هذا . وفي رواية رواها البيهقي عن محمد بن الحنفية ، وهو ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : " إن هذا الدعاء هو الذي كان أبي يدعو به في صلاة الفجر في قنوته " ورواه البيهقي من طرق عن ابن عباس وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم { كان يعلمهم هذا الدعاء ليدعو به في القنوت من صلاة الصبح } وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم " { كان يقنت في صلاة الصبح وفي وتر الليل بهذه الكلمات } " وفي رواية " { كان يقولها في قنوت الليل } فقال البيهقي فدل هذا كله على أن تعليم هذا الدعاء وقع لقنوت صلاة الصبح وقنوت الوتر وبالله التوفيق .

وهذه الكلمات الثمان هن اللواتي نص عليهن الشافعي في مختصر المزني واقتصر عليهن ، ولو زاد عليهن ( { ولا يعز من عاديت } ) قبل ( { تباركت ربنا وتعاليت } ) وبعده ( { فلك الحمد على ما قضيت ، أستغفرك وأتوب إليك } ) فلا بأس به وقال الشيخ أبو حامد والبندنيجي وآخرون : هذه الزيادة حسنة . وقال القاضي أبو الطيب ( { من عاديت } ) ليس بحسن . ; لأن العداوة لا تضاف [ ص: 477 ] إلى الله تعالى ، وأنكر ابن الصباغ والأصحاب عليه وقالوا قد قال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } وغير ذلك من الآيات . وقد جاء في رواية البيهقي ولا يعز من عاديت . قال أصحابنا فإن كان إماما لم يخص نفسه بالدعاء ، بل يعمم فيأتي بلفظ الجمع : اللهم اهدنا إلى آخره . وهل تتعين هذه الكلمات فيه ؟ وجهان ، الصحيح المشهور الذي قطع به الجمهور أنه لا تتعين بل يحصل بكل دعاء .

( والثاني ) تتعين ككلمات التشهد فإنها متعينة بالاتفاق وبهذا قطع إمام الحرمين والغزالي ومحمد بن يحيى في كتابه المحيط ، وصححه صاحب المستظهري قال صاحب المستظهري : ولو ترك من هذا كلمة أو عدل إلى غيره لا يجزئه ويسجد للسهو ، والمذهب أنه لا يتعين وبه صرح الماوردي والقاضي ، حسين والبغوي والمتولي وخلائق قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح : قول من قال يتعين شاذ مردود مخالف لجمهور الأصحاب ، بل مخالف لجماهير العلماء . فقد حكى القاضي عياض اتفاقهم على أنه لا يتعين في القنوت دعاء إلا ما روي عن بعض أهل الحديث أنه يتعين قنوت مصحف أبي بن كعب رضي الله عنه " اللهم إنا نستعينك ونستغفرك " إلى آخره ، بل مخالف لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان يقول { اللهم أنج الوليد بن الوليد وفلانا وفلانا اللهم العن فلانا وفلانا } فليعد هذا الذي قيل بالتعين غلطا غير معدود وجها ، هذا كله كلام أبي عمرو فإذا قلنا بالمذهب وقلنا : إنه لا يتعين فقال صاحب الحاوي : يحصل بالدعاء المأثور وغير المأثور قال : فإن قرأ آية من القرآن هي دعاء أو شبيهة بالدعاء كآخر البقرة أجزأه ، وإن لم يتضمن الدعاء ولم يشبهه كآية الدين وسورة تبت فوجهان

( أحدهما ) يجزئه إذا نوى القنوت ; لأن القرآن أفضل من الدعاء

( والثاني ) لا يجزئه ; لأن القنوت للدعاء وهذا ليس بدعاء ، والثاني هو الصحيح أو الصواب لأن قراءة القرآن في الصلاة في غير القيام مكروهة قال أصحابنا : ولو قنت بالمنقول عن عمر رضي الله تعالى عنه كان حسنا ، وهو الدعاء الذي ذكره المصنف رواه البيهقي وغيره ، قال البيهقي هو صحيح [ ص: 478 ] عن عمر واختلف الرواة في لفظه والرواية التي أشار البيهقي إلى اختيارها رواية عطاء عن عبيد الله بن عمر رضي الله عنهم قنت بعد الركوع فقال : " اللهم اغفر لنا وللمؤمنين وللمؤمنات والمسلمين والمسلمات وألف بين قلوبهم وأصلح ذات بينهم وانصرهم على عدوك وعدوهم اللهم العن كفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيلك ، ويكذبون رسلك ويقاتلون أولياءك اللهم خالف بين كلمتهم وزلزل أقدامهم وأنزل بهم بأسك الذي لا ترده عن القوم المجرمين ، بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك ، بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد ونخشى عذابك ونرجو رحمتك إن عذابك الجد بالكفار ملحق " هذا لفظ رواية البيهقي .

ورواه من طرق أخرى أخصر من هذا ، وفيه تقديم وتأخير وفيه أنه قنت قبل الركوع في صلاة الفجر ، قال البيهقي : ومن روى عن عمر رضي الله عنه قنوته بعد الركوع أكثر فقد رواه أبو رافع وعبيد بن عمير وأبو عثمان النهدي وزيد بن وهب والعدد أولى بالحفظ من الواحد ، وفي حسن سياق عبيد بن عمير للحديث دلالة على حفظه وحفظ من حفظ عنه ، واقتصر البغوي في شرح السنة على الرواية الأولى ، وروى البيهقي بعض هذا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم لكن إسناده مرسل والله أعلم .

وقوله ( اللهم عذب كفرة أهل الكتاب ) إنما اقتصر على أهل الكتاب ; لأنهم الذين كانوا يقاتلون المسلمين في ذلك العصر ، وأما الآن فالمختار أن يقال عذب الكفرة ليعم أهل الكتاب وغيرهم من الكفار ، فإن الحاجة إلى الدعاء على غيرهم أكثر والله أعلم .

قال أصحابنا : يستحب الجمع بين قنوت عمر رضي الله عنه وبين ما سبق فإن جمع بينهما فالأصح تأخير قنوت عمر ، وفي وجه يستحب تقديمه وإن اقتصر فليقتصر على الأول ، وإنما يستحب الجمع بينهما إذا كان منفردا أو إمام محصورين يرضون بالتطويل والله أعلم .

( الرابعة ) هل يستحب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد [ ص: 479 ] القنوت ؟ فيه وجهان ( الصحيح المشهور ) وبه قطع المصنف والجمهور يستحب ( والثاني ) لا يجوز فإن فعلها بطلت صلاته ; لأنه نقل ركنا إلى غير موضعه قاله القاضي حسين وحكاه عنه البغوي وهو غلط صريح ، ودليل المذهب أن في رواية من حديث الحسن رضي الله تعالى عنه قال { علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء الكلمات في الوتر قال : اللهم اهدني فذكر الألفاظ الثمانية وقال في آخرها : تباركت وتعاليت وصلى الله على النبي } فهذا لفظه في رواية النسائي بإسناد صحيح أو حسن .

( فرع ) قال البغوي يكره إطالة القنوت كما يكره إطالة التشهد الأول قال : وتكره قراءة القرآن فيه ، فإن قرأ لم تبطل صلاته ويسجد للسهو .

( الخامسة ) هل يستحب رفع اليدين في القنوت ؟ فيه وجهان مشهوران :

( أحدهما ) لا يستحب ، وهو اختيار المصنف والقفال والبغوي ، وحكاه إمام الحرمين عن كثير من الأصحاب ، وأشاروا إلى ترجيحه واحتجوا بأن الدعاء في الصلاة لا ترفع له اليد كدعاء السجود والتشهد ( والثاني ) يستحب ، وهذا هو الصحيح عند الأصحاب وفي الدليل ، وهو اختيار أبي زيد المروزي إمام طريقة أصحابنا الخراسانيين والقاضي أبي الطيب في تعليقه وفي المنهاج ، والشيخ أبي محمد وابن الصباغ والمتولي والغزالي والشيخ نصر المقدسي في كتبه الثلاثة : الانتخاب والتهذيب والكافي وآخرين . قال صاحب البيان : وهو قول أكثر أصحابنا ، واختاره من أصحابنا الجامعين بين الفقه والحديث الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي واحتج له البيهقي بما رواه بإسناد له صحيح أو حسن عن أنس رضي الله عنه في قصة القراء الذين قتلوا رضي الله عنهم قال { لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما صلى الغداة يرفع يديه يدعو عليهم ، يعني الذين قتلوهم }

قال البيهقي رحمه الله تعالى : ولأن عددا من الصحابة رضي الله عنهم رفعوا أيديهم في القنوت . ثم روى عن أبي رافع قال " صليت خلف عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقنت بعد الركوع ورفع يديه وجهر بالدعاء " قال البيهقي : هذا عن عمر صحيح . وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه [ ص: 480 ] بإسناد فيه ضعف . وروي عن ابن مسعود وأبي هريرة رضي الله عنهما في قنوت الوتر .

وأما مسح الوجه باليدين بعد الفراغ من الدعاء . فإن قلنا : لا يرفع اليدين لم يشرع المسح بلا خلاف ، وإن قلنا : يرفع فوجهان ( أشهرهما ) أنه يستحب . وممن قطع به القاضي أبو الطيب والشيخ أبو محمد الجويني وابن الصباغ والمتولي والشيخ نصر في كتبه والغزالي وصاحب البيان ( والثاني ) لا يمسح وهذا هو الصحيح ، صححه البيهقي والرافعي وآخرون من المحققين . قال البيهقي لست أحفظ في مسح الوجه هنا عن أحد من السلف شيئا ، وإن كان يروى عن بعضهم في الدعاء خارج الصلاة ، فأما في الصلاة فهو عمل لم يثبت فيه خبر ولا أثر ولا قياس . فالأولى أن لا يفعله ويقتصر على ما نقله السلف عنهم من رفع اليدين دون مسحهما بالوجه في الصلاة ، ثم روى بإسناده حديثا من سنن أبي داود عن محمد بن كعب القرظي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { سلوا الله ببطون كفوفكم ولا تسألوه بظهورها فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم } قال أبو داود : روي هذا الحديث من غير وجه عن محمد بن كعب كلها واهية ، هذا متنها وهو ضعيف أيضا . ثم روى البيهقي عن علي الباشاني قال : سألت عبد الله - يعني ابن المبارك - عن الذي إذا دعا مسح وجهه قال : لم أجد له ثبتا . قال علي : ولم أره يفعل ذلك ، قال وكان عبد الله يقنت بعد الركوع في الوتر وكان يرفع يديه . هذا آخر كلام البيهقي في كتاب السنن ، وله رسالة مشهورة كتبها إلى الشيخ أبي محمد الجويني أنكر عليه فيها أشياء من جملتها مسحه وجهه بعد القنوت ، وبسط الكلام في ذلك .

وأما حديث عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { كان إذا رفع يديه في الدعاء لم يحطهما حتى يمسح بهما وجهه } " رواه الترمذي وقال : حديث غريب ، انفرد به حماد بن عيسى وحماد هذا ضعيف ، وذكر الشيخ عبد الحق هذا الحديث في كتابه الأحكام وقال : قال الترمذي : وهو حديث صحيح وغلط في قوله : إن الترمذي قال هو حديث صحيح ، وإنما قال غريب ، والحاصل لأصحابنا ثلاثة أوجه ( الصحيح ) يستحب رفع يديه [ ص: 481 ] دون مسح الوجه ( والثاني ) لا يستحبان .

( والثالث ) يستحبان . وأما غير الوجه من الصدر وغيره فاتفق أصحابنا على أنه لا يستحب ، بل قال ابن الصباغ وغيره : هو مكروه ، والله أعلم .

( السادسة ) إذا قنت الإمام في الصبح هل يجهر بالقنوت ؟ فيه وجهان مشهوران عند الخراسانيين ، وحكاهما جماعة من العراقيين ومنهم صاحب الحاوي ( أحدهما ) لا يجهر كالتشهد وكسائر الدعوات ( وأصحهما ) يستحب الجهر ، وبه قطع أكثر العراقيين ، ويحتج له بالحديث الذي سنذكره إن شاء الله قريبا عن صحيح البخاري في قنوت النازلة ، وبالقياس على ما لو سأل الرحمة أو استعاذ من العذاب في أثناء القراءة ، فإن المأموم يوافقه في السؤال ، ولا يؤمن ، وبهذا استدل المتولي وأما المنفرد فيسر به بلا خلاف ، صرح به الماوردي والبغوي وغيرهما . وأما المأموم - فإن قلنا : لا يجهر الإمام - قنت وأسر . وإن قلنا : يجهر الإمام فإن كان يسمع الإمام فوجهان مشهوران للخراسانيين ( أصحهما ) يؤمن على دعاء الإمام ولا يقنت وبهذا قطع المصنف والأكثرون ( والثاني ) يتخير بين التأمين والقنوت فإن قلنا يؤمن في ( أحدهما ) يؤمن في الجميع ( وأصحهما ) وبه قطع الأكثرون : يؤمن في الكلمات الخمس التي هي دعاء . وأما الثناء وهو قوله : فإنك تقضي ولا يقضى عليك إلى آخره فيشاركه في قوله أو يسكت ، والمشاركة أولى ; لأنه ثناء وذكر لا يليق فيه التأمين ، وإن كان لا يسمع الإمام لبعد أو غيره وقلنا لو سمع لأمن فههنا وجهان ( أصحهما ) يقنت ( والثاني ) يؤمن ، وهما كالوجهين في استحباب قراءة السورة إذا لم يسمع قراءة الإمام . هذا كله في الصبح وفيما إذا قنت في الوتر في النصف الأخير من شهر رمضان .

وأما إذا قنت في باقي المكتوبات حيث قلنا به فقال الرافعي كلام الغزالي يقتضي أنه يسر به في السريات ، وفي جهره به في الجهريات الوجهان ، قال [ ص: 482 ] وإطلاق غيره يقتضي طرد الخلاف في الجميع . قال وحديث قنوت النبي صلى الله عليه وسلم حين قتل القراء رضي الله عنهم يقتضي أنه كان يجهر به في جميع الصلوات ، هذا كلام الرافعي والصحيح أو الصواب استحباب الجهر ، ففي البخاري في تفسير قول الله تعالى { ليس لك من الأمر شيء } عن أبي هريرة رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر بالقنوت في قنوت النازلة } وفي الجهر بالقنوت أحاديث كثيرة صحيحة سنذكرها إن شاء الله تعالى قريبا في فرع مذاهب العلماء في القنوت . واحتج المصنف والأصحاب في استحباب تأمين المأموم على قنوت الإمام بحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : { قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا متتابعا في الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح في دبر كل صلاة ، إذا قال سمع الله لمن حمده في الركعة الآخرة يدعو على أحياء من بني سليم على رعل وذكوان وعصية ويؤمن من خلفه } رواه أبو داود بإسناد حسن أو صحيح .

( السابعة ) في ألفاظ الفصل ، القنوت في اللغة له معان ، منها الدعاء ، ولهذا سمي هذا الدعاء قنوتا ، ويطلق على الدعاء بخير وشر ، يقال : قنت له وقنت عليه قوله " قنت شهرا يدعو عليهم ثم تركه " معناه قنت شهرا يدعو على الكفار الذين قتلوا أصحابه القراء ببئر معونة - بفتح الميم وبالنون - وقوله " ثم تركه " فيه قولان للشافعي رحمه الله حكاهما البيهقي :

( أحدهما ) ترك القنوت في غير الصبح ( والثاني ) ترك الدعاء عليهم ولعنتهم ، وأما الدعاء في الصبح فلم يتركه . قوله " لا يذل من واليت " هو بفتح الياء وكسر الذال ، قوله " ونخلع من يفجرك " أي نترك من يعصيك ويلحد في صفاتك ، وهو بفتح الياء وضم الجيم ، قوله " وإليك نسعى ونحفد " هو بفتح النون وكسر الفاء ، أي نسارع إلى طاعتك وأصل الحفد العمل والخدمة . قوله " إن عذابك الجد " هو بكسر الجيم ، أي الحق ، ولم تقع هذه اللفظة في المهذب . قوله " ملحق " الأشهر فيه كسر الحاء ، رواه البيهقي عن أبي عمرو بن العلاء ، وهو قول الأصمعي وأبي عبيدة والأكثرين من أهل اللغة . [ ص: 483 ] وحكى ابن قتيبة وآخرون فيه الفتح ، فمن فتح فمعناه إن شاء الله ألحقه بهم ، ومن كسر معناه لحق ، كما يقال : أنبت الزرع بمعنى نبت قوله " وأصلح ذات بينهم " أي أمورهم ومواصلاتهم قوله " وألف بين قلوبهم " أي اجمعها على الخير . قوله " الحكمة " فهي كل ما منع القبيح . قوله " وأوزعهم " أي ألهمهم ، قوله " واجعلنا منهم " أي ممن هذه صفته ، قوله { إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرفع اليد إلا في ثلاثة مواطن : في الاستسقاء والاستنصار وعشية عرفة } والمراد بالاستنصار الدعاء بالنصر على الكفار .

قوله " لما روى الحسن بن علي " هو أبو محمد الحسن بن علي بن أبي طالب سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته ، اختلف في وقت ولادته والأصح أنه في نصف شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة وتوفي بالمدينة ودفن بالبقيع سنة تسع وأربعين . وقيل سنة خمسين وقيل إحدى وخمسين ومناقبه كثيرة مشهورة في الصحيحين وغيرهما رضي الله تعالى عنه ( وأما أبو رافع ) الذي روي عنه في الكتاب قنوت عمر رضي الله تعالى عنه فهو أبو رافع الصائغ واسمه نفيع - بضم النون - من كبار التابعين وأخيارهم بكى حين أعتق وقال : كان لي أجران فذهب أحدهما .

( فرع ) في مذاهب العلماء في إثبات القنوت في الصبح مذهبنا أنه يستحب القنوت فيها سواء نزلت نازلة أو لم تنزل وبهذا قال أكثر السلف ومن بعدهم أو كثير منهم وممن قال به أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان وعلي وابن عباس والبراء بن عازب رضي الله عنهم رواه البيهقي بأسانيد صحيحة ، وقال به من التابعين فمن بعدهم خلائق وهو مذهب ابن أبي ليلى والحسن بن صالح ومالك وداود وقال عبد الله بن مسعود وأصحابه وأبو حنيفة وأصحابه وسفيان الثوري وأحمد : لا قنوت في الصبح قال أحمد إلا الإمام فيقنت إذا بعث الجيوش ، وقال إسحاق يقنت للنازلة خاصة .

واحتج لهم بحديث أنس رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 484 ] قنت شهرا بعد الركوع يدعو على أحياء من العرب ثم تركه } رواه البخاري ومسلم وفي صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت بعد الركوع في صلاته شهرا يدعو لفلان وفلان ثم ترك الدعاء لهم } وعن سعد بن طارق قال : { قلت لأبي : يا أبي إنك قد صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي فكانوا يقنتون في الفجر ؟ فقال : أي بني فحدث } رواه النسائي والترمذي وقال : حديث حسن صحيح وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : { ما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من صلاته } وعن أبي مخلد قال : " صليت مع ابن عمر رضي الله تعالى عنهما الصبح فلم يقنت فقلت له : ألا أراك تقنت ؟ فقال : ما أحفظه عن أحد من أصحابنا " وعن ابن عباس رضي الله عنهما : " القنوت في الصبح بدعة " وعن أم سلمة { عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن القنوت في الصبح } رواه البيهقي . واحتج أصحابنا بحديث أنس رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهرا يدعو عليهم ثم ترك فأما في الصبح فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا } حديث صحيح رواه جماعة من الحفاظ وصححوه ، وممن نص على صحته الحافظ أبو عبد الله محمد بن علي البلخي والحاكم أبو عبد الله في مواضع من كتبه والبيهقي ، ورواه الدارقطني من طرق بأسانيد صحيحة ، وعن العوام بن حمزة قال " سألت أبا عثمان عن القنوت في الصبح قال : بعد الركوع قلت : عمن ؟ قال : عن أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله تعالى عنهم " رواه البيهقي وقال : هذا إسناد حسن ورواه البيهقي عن عمر أيضا من طرق وعن عبد الله بن معقل - بفتح الميم وإسكان العين المهملة وكسر القاف - التابعي قال " قنت علي رضي الله عنه في الفجر " رواه البيهقي وقال : هذا عن علي صحيح مشهور ، وعن البراء رضي الله تعالى عنه عنه { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقنت في الصبح والمغرب } رواه مسلم ورواه أبو داود وليس في روايته ذكر المغرب ، ولا يضر ترك الناس القنوت في صلاة المغرب ; لأنه ليس بواجب أو دل الإجماع على نسخه فيها .

وأما الجواب عن حديث أنس وأبي هريرة رضي الله عنهما في قوله : ثم تركه فالمراد ترك الدعاء على أولئك الكفار ولعنتهم فقط ، لا ترك جميع [ ص: 485 ] القنوت أو ترك القنوت في غير الصبح ، وهذا التأويل متعين ; لأن حديث أنس في قوله " لم يزل يقنت في الصبح حتى فارق الدنيا " صحيح صريح فيجب الجمع بينهما ، وهذا الذي ذكرناه متعين للجمع ، وقد روى البيهقي بإسناده عن عبد الرحمن بن مهدي الإمام أنه قال " إنما ترك اللعن " ويوضح هذا التأويل رواية أبي هريرة السابقة ، وهي قوله " ثم ترك الدعاء لهم " . والجواب عن حديث سعد بن طارق أن رواية الذين أثبتوا القنوت معهما زيادة علم وهم أكثر فوجب تقديمهم ، وعن حديث ابن مسعود أنه ضعيف جدا ; لأنه من رواية محمد بن جابر السخمي وهو شديد الضعف متروك ولأنه نفي وحديث أنس إثبات فقدم لزيادة العلم ، وعن حديث ابن عمر أنه لم يحفظه أو نسيه وقد حفظه أنس والبراء بن عازب وغيرهما فقدم من حفظ ، وعن حديث ابن عباس أنه ضعيف جدا وقد رواه البيهقي من رواية أبي ليلى الكوفي وقال : هذا لا يصح وأبو ليلى متروك .

وقد روينا عن ابن عباس أنه " قنت في الصبح " وعن حديث أم سلمة أنه ضعيف ; لأنه من رواية محمد بن يعلى عن عنبسة بن عبد الرحمن عن عبد الله بن نافع عن أبيه عن أم سلمة قال الدارقطني : هؤلاء الثلاثة ضعفاء ، ولا يصح لنافع سماع من أم سلمة والله أعلم .

( فرع ) في القنوت في غير الصبح إذا نزلت نازلة : قدمنا أن الصحيح في مذهبنا أنها إن نزلت قنت في جميع الصلوات وقال الطحاوي لم يقل أحد من العلماء بالقنوت في غير الصبح من المكتوبات غير الشافعي قال الشيخ أبو حامد هذا غلط منه بل قد قنت علي رضي الله عنه بصفين ودليلنا على من خالفنا الأحاديث الصحيحة المشهورة في الصحيحين { أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهرا لقتل القراء رضي الله عنهم } وقد سبقت جملة من هذه الأحاديث وباقيها مشهور في الصحيح . .

[ ص: 486 ] فرع ) في مذاهبهم في محل القنوت قد ذكرنا أن مذهبنا أن محله بعد رفع الرأس من الركوع ، وبهذا قال أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم حكاه ابن المنذر عنهم ورواه البيهقي عنهم وعن أنس قال ابن المنذر وروينا القنوت قبل الركوع عن عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وأبي موسى الأشعري والبراء وأنس وعمر بن عبد العزيز وعبيدة السلماني وحميد الطويل وعبد الرحمن بن أبي ليلى رضي الله عنهم ، وبهذا قال مالك وإسحاق وحكى ابن المنذر التخيير قبل الركوع وبعده عن أنس وأيوب السختياني وأحمد وقد جاءت الأحاديث بالأمرين ففي الصحيحين عن أبي هريرة { أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت بعد الركوع } وعن ابن سيرين قال { قلت لأنس قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصبح ؟ قال نعم بعد الركوع يسيرا } رواه البخاري ومسلم . وعن أنس رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهرا بعد الركوع في الفجر يدعو على بني عصية } رواه البخاري ومسلم وعن عاصم قال : { سألت أنسا عن القنوت أكان قبل الركوع أو بعده ؟ قال : بعده قلت فإن فلانا أخبرني عنك أنك قلت : قبل الركوع : قال كذب إنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهرا } رواه البخاري ومسلم وهذا لفظ البخاري وعن سالم بن عمر رضي الله عنهما { أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر يقول : اللهم العن فلانا وفلانا بعد ما يقول سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد ، فأنزل الله تعالى : { ليس لك من الأمر شيء } } رواه البخاري ، وعن خفاف بن إيماء رضي الله عنه قال : " { ركع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رفع رأسه فقال : غفار غفر الله لها ، وأسلم سالمها الله وعصية عصت الله ورسوله ، اللهم العن بني لحيان والعن رعلا وذكوان ثم خر ساجدا } " رواه مسلم قال البيهقي : وروينا عن عاصم الأحول عن أنس أنه أفتى بالقنوت بعد الركوع ثم ذكرنا بإسناده عن عاصم عن أنس قال { إنما قنت النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 487 ] شهرا فقلت : كيف القنوت ؟ قال : بعد الركوع . } قال البيهقي فقد أخبرنا أن القنوت المطلق المعتاد بعد الركوع قال : وقوله ( إنما قنت شهرا ) يريد به اللعن . قال البيهقي ورواة القنوت بعد الركوع أكثر وأحفظ فهو أولى ، وعلى هذا درج الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم في أشهر الروايات عنهم وأكثرها والله أعلم .

( فرع ) في مذاهبهم في رفع اليدين في القنوت قد سبق أن الصحيح في مذهبنا عند الأكثرين استحبابه وهو المختار ، قال ابن المنذر وروينا عن عمر بن الخطاب وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم قال : وبه قال أحمد وإسحاق وأصحاب الرأي قال : وكان يزيد بن أبي مريم ومالك والأوزاعي لا يرون ذلك . وقد سبق دليل الجميع والله أعلم

( فرع ) في استحباب رفع اليدين في الدعاء خارج الصلاة وبيان جملة من الأحاديث الواردة فيه .

اعلم أنه مستحب لما سنذكره إن شاء الله تعالى عن أنس رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى ورفع يديه وما في السماء قزعة فثار سحاب أمثال الجبال ، ثم لم ينزل من منبره حتى رأيت المطر يتحادر من لحيته } رواه البخاري ومسلم ورويا بمعناه عن أنس من طرق كثيرة وفي رواية للبخاري { فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ورفع الناس أيديهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعون فما خرجنا من المسجد حتى مطرنا فما زلنا بمطر حتى كانت الجمعة الأخرى } وذكر تمام الحديث . وثبت رفع اليدين في الاستسقاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية جماعة من الصحابة غير أنس وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى .

وعن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إن الله حيي كريم سخي يستحي إذا رفع الرجل يديه إليه أن يردهما صفرا خائبتين } رواه أبو داود وقال : حديث حسن ( والصفر ) بكسر الصاد الخالي . وعن أنس رضي الله عنه في قصة القراء الذين قتلوا قال : { لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما صلى الغداة رفع يديه يدعو عليهم يعني على الذين قتلوهم } رواه البيهقي بإسناد صحيح حسن ، وقد [ ص: 488 ] سبق وعن عائشة رضي الله عنها في حديثها الطويل في خروج النبي صلى الله عليه وسلم في الليل إلى البقيع للدعاء لأهل البقيع والاستغفار لهم قالت : { أتى البقيع فقام فأطال القيام ثم رفع يديه ثلاث مرات ثم انحرف قال : إن جبريل عليه السلام أتاني فقال : إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع وتستغفر لهم } رواه مسلم .

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : { لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه يقول : اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم آت ما وعدتني فمازال يهتف بربه مادا يديه حتى سقط رداؤه عن منكبيه } رواه مسلم ( قوله ) يهتف - بفتح أوله وكسر التاء المثناة فوق - يقال : هتف يهتف إذا رفع صوته بالدعاء وغيره . وعن ابن عمر رضي الله عنهما { أنه كان يرمي الجمرة سبع حصيات يكبر على أثر كل حصاة ، ثم يتقدم حتى يستقبل فيقوم مستقبل القبلة فيقوم طويلا ويدعو ويرفع يديه ، ثم يرمي الوسطى ، ثم يأخذ ذات الشمال فيستقبل ويقوم طويلا ، ويدعو ويرفع يديه ، ثم يرمي الجمرة ذات العقبة ولا يقف عندها ثم ينصرف فيقول : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله } رواه البخاري .

وعن أنس رضي الله عنه قال : { صبح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر بكرة وقد خرجوا بالمساحي فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال : الله أكبر خربت خيبر } رواه البخاري في آخر علامات النبوة من صحيحه . وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال { لما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من خيبر بعث أبا عامر على جيش إلى أوطاس وذكر الحديث وأن أبا عامر رضي الله عنه استشهد فقال لأبي موسى : يا بن أخي أمرني النبي صلى الله عليه وسلم فقل له : استغفر لي ، ومات أبو عامر قال أبو موسى : فرجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فدعا بماء فتوضأ ثم رفع يديه فقال : اللهم اغفر لعبدك أبي عامر ورأيت بياض إبطيه ثم قال : اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك ومن الناس ، فقلت : ولي فاستغفر [ ص: 489 ] فقال : اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه ، وأدخله يوم القيامة مدخلا كريما } رواه البخاري ومسلم . وعن أبي هريرة رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء : يا رب يا رب ، ومطعمه حرام ومشربه حرام فأنى يستجاب لذلك } رواه مسلم وعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم فحانت الصلاة فجاء المؤذن إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال : أتصلي بالناس فأقيم ؟ فقال : نعم . قال : فصلى بهم أبو بكر رضي الله عنه فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس في الصلاة فتخلص حتى وقف في الصف فصفق الناس ، وكان أبو بكر لا يلتفت فالتفت أبو بكر رضي الله عنه فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اثبت مكانك فرفع أبو بكر يديه رضي الله عنه فحمد الله تعالى على ما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك } رواه البخاري ومسلم وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : { رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يدعو رافعا يديه يقول : إنما أنا بشر فلا تعاقبني ، أيما رجل من المؤمنين آذيته أو شتمته فلا تعاقبني فيه } .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : { استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلة وتهيأ ورفع يديه وقال : اللهم اهد أوسا وأت بهم } وعن جابر رضي الله عنه { أن الطفيل بن عمرو قال للنبي صلى الله عليه وسلم : هل جابر في حصن حصين ومنعة ؟ } وذكر الحديث في هجرته مع صاحب له ، وأن صاحبه مرض فجزع فجرح يديه فمات فرآه الطفيل في المنام فقال : ما فعل الله بك ؟ فقال : غفر لي بهجرتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما شأن يديك ؟ قال قيل لن يصلح منك ما أفسدت من نفسك فقصها الطفيل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال { : اللهم وليديه فاغفر - رفع يديه } وعن علي رضي الله عنه قال : { جاءت امرأة الوليد إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشكو إليه زوجها أنه يضربها فقال : اذهبي إليه فقولي له كيت وكيت أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول ، فذهبت ثم عادت فقالت : إنه عاد يضربني فقال : اذهبي فقولي له كيت وكيت فقالت : إنه يضربني فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 490 ] يده فقال : اللهم عليك الوليد } . وعن عائشة رضي الله عنها قالت : { رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رافعا يديه حتى بدا ضبعاه يدعو لعود عثمان رضي الله عنه } وعن محمد بن إبراهيم التيمي قال : أخبرني من { رأى النبي صلى الله عليه وسلم يدعو عند أحجار الزيت باسطا كفيه } وعن أبي عثمان قال : " كان عمر رضي الله عنه يرفع يديه في القنوت وعن الأسود أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يرفع يديه في القنوت " هذه الأحاديث من حديث عائشة " إنما أنا بشر فلا تعاقبني " إلى آخرها رواها البخاري في كتاب رفع اليدين بأسانيد صحيحة ، ثم قال في آخرها : هذه الأحاديث صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وفي المسألة أحاديث كثيرة غير ما ذكرته وفيما ذكرته كفاية والمقصود أن يعلم أن من ادعى حصر المواضع التي وردت الأحاديث بالرفع فيها فهو غالط غلطا فاحشا والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية