صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( ومن السنن الراتبة قيام رمضان وهو عشرون ركعة بعشر تسليمات ، والدليل عليه ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال { كان النبي صلى الله عليه وسلم يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم بعزيمة فيقول : من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه } والأفضل أن يصليها في جماعة ، نص عليه [ في البويطي ] ، لما روي أن عمر رضي الله عنه جمع الناس على أبي بن كعب فصلى بهم التراويح ومن أصحابنا من قال : فعلها منفردا أفضل ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم { صلى ليالي فصلوها معه ، ثم تأخر وصلى في بيته باقي الشهر } والمذهب الأول ، وإنما تأخر النبي صلى الله عليه وسلم لئلا تفرض عليهم ، وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : { خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها ) . }


( الشرح ) حديث أبي هريرة رواه مسلم بلفظه ورواه البخاري ومسلم جميعا مختصرا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من قام رمضان إيمانا [ ص: 526 ] واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه } وأما حديث جمع عمر الناس على أبي بن كعب رضي الله عنهما فصحيح رواه البخاري في صحيحه ، وهو حديث طويل ، وأما الحديثان الآخران أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها ليالي فصلوها معه ثم تأخر ، والحديث الآخر { خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها } فرواهما البخاري ومسلم من رواية عائشة رضي الله عنها . قوله " من غير أن يأمرهم بعزيمة " معناه لا يأمرهم به أمر تحتيم وإلزام وهو العزيمة ، بل أمر ندب وترغيب فيه بذكر فضله . وقوله صلى الله عليه وسلم " إيمانا " أي تصديقا بأنه حق ، واحتسابا أي يفعله لله تعالى لا رياء ولا نحوه .

( أما حكم المسألة ) فصلاة التراويح سنة بإجماع العلماء ، ومذهبنا أنها عشرون ركعة بعشر تسليمات وتجوز منفردا وجماعة ، وأيهما أفضل ؟ فيه وجهان مشهوران كما ذكر المصنف ، وحكاهما جماعة قولين ( الصحيح ) باتفاق الأصحاب أن الجماعة أفضل ، وهو المنصوص في البويطي ، وبه قال أكثر أصحابنا المتقدمين .

( الثاني ) الانفراد أفضل ، وقد ذكر المصنف دليلهما . قال أصحابنا العراقيون والصيدلاني والبغوي وغيرهما من الخراسانيين : الخلاف فيمن يحفظ القرآن ولا يخاف الكسل عنها لو انفرد ، ولا تختل الجماعة في المسجد لتخلفه . فإن فقد أحد هذه الأمور فالجماعة أفضل بلا خلاف ، وأطلق جماعة في المسألة ثلاثة أوجه . ثالثها هذا الفرق . وممن حكى الأوجه الثلاثة القاضي أبو الطيب في تعليقه وإمام الحرمين والغزالي قال صاحب الشامل : قال أبو العباس وأبو إسحاق صلاة التراويح جماعة أفضل من الانفراد لإجماع الصحابة وإجماع أهل الأمصار على ذلك

( فرع ) يدخل وقت التراويح بالفراغ من صلاة العشاء ، ذكره البغوي وغيره ، ويبقى إلى طلوع الفجر وليصلها ركعتين ركعتين كما هو العادة ، فلو صلى أربع ركعات بتسليمة لم يصح . ذكره القاضي حسين في فتاويه ; لأنه خلاف المشروع ، قال : ولا تصح بنية مطلقة ، بل ينوي سنة التراويح أو صلاة التراويح أو قيام رمضان فينوي في كل ركعتين ركعتين من صلاة التراويح .

[ ص: 527 ] فرع ) في مذاهب العلماء في عدد ركعات التراويح مذهبنا أنها عشرون ركعة بعشر تسليمات غير الوتر ، وذلك خمس ترويحات والترويحة أربع ركعات بتسليمتين ، هذا مذهبنا ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وأحمد وداود وغيرهم ، ونقله القاضي عياض عن جمهور العلماء . وحكي أن الأسود بن يزيد كان يقوم بأربعين ركعة ويوتر بسبع . وقال مالك التراويح تسع ترويحات وهي ست وثلاثون ركعة غير الوتر . واحتج بأن أهل المدينة يفعلونها هكذا ، وعن نافع قال : أدركت الناس وهم يقومون رمضان بتسع وثلاثين ركعة يوترون منها بثلاث . واحتج أصحابنا بما رواه البيهقي وغيره بالإسناد الصحيح عن السائب بن يزيد الصحابي رضي الله عنه قال : " كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في شهر رمضان بعشرين ركعة ، وكانوا يقومون بالمائتين ، وكانوا يتوكئون على عصيهم في عهد عثمان من شدة القيام " وعن يزيد بن رومان قال . كان الناس يقومون في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بثلاث وعشرين ركعة ، رواه مالك في الموطأ عن يزيد بن رومان ورواه البيهقي ، لكنه مرسل ، فإن يزيد بن رومان لم يدرك عمر ، قال البيهقي يجمع بين الروايتين بأنهم كانوا يقومون بعشرين ركعة ويوترون بثلاث ، وروى البيهقي عن علي رضي الله عنه أيضا قيام رمضان بعشرين ركعة . وأما ما ذكروه من فعل أهل المدينة فقال أصحابنا : سببه أن أهل مكة كانوا يطوفون بين كل ترويحتين طوافا ويصلون ركعتين ولا يطوفون بعد الترويحة الخامسة . فأراد أهل المدينة مساواتهم فجعلوا مكان كل طواف أربع ركعات فزادوا ست عشرة ركعة وأوتروا بثلاث فصار المجموع تسعا وثلاثين والله أعلم .

( فرع ) قال صاحبا الشامل والبيان وغيرهما ، قال أصحابنا : ليس لغير أهل المدينة أن يفعلوا في التراويح فعل أهل المدينة فيصلوها ستا وثلاثين ركعة ; لأن لأهل المدينة شرفا بمهاجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومدفنه [ ص: 528 ] بخلاف غيرهم وقال القاضي أبو الطيب في تعليقه : قال الشافعي فأما غير أهل المدينة فلا يجوز أن يماروا أهل مكة ولا ينافسوهم .

( فرع ) فيما كان السلف يقرءون في التراويح . روى مالك في الموطأ عن داود بن الحصين عن عبد الرحمن الأعرج قال : " ما أدركت الناس إلا وهم يلعنون الكفر في رمضان . قال : وكان القارئ يقوم بسورة البقرة في ثمان ركعات ، وإذا قام بها في اثنتي عشرة ركعة رأى الناس أنه قد خفف . وروى مالك أيضا عن عبد الله بن أبي بكر أنه قال : سمعت أبي يقول " كنا ننصرف في رمضان من القيام فنستعجل الخدم بالسحور مخافة الفجر " روى مالك أيضا عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد قال : " أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبي بن كعب وتميما الداري أن يقوما للناس ، وكان القارئ يقرأ بالمائتين حتى كنا نعتمد على العصا من طول القيام ، وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر " وروى البيهقي بإسناده عن أبي عثمان النهدي قال : دعا عمر بن الخطاب بثلاثة قراء فاستقرأهم ، فأمر أسرعهم قراءة أن يقرأ للناس ثلاثين آية ، وأمر أوسطهم أن يقرأ خمسا وعشرين ، وأمر أبطأهم أن يقرأ عشرين آية .

( فرع ) عن عروة بن الزبير أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جمع الناس على قيام شهر رمضان ، الرجال على أبي بن كعب والنساء على سليمان بن أبي حثمة وعن عرفجة الثقفي قال : " كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يأمر الناس بقيام شهر رمضان ، ويجعل للرجال إماما وللنساء إماما ، فكنت أنا إمام النساء " رواهما البيهقي . .

( فرع ) قد ذكرنا أن الصحيح عندنا أن فعل التراويح في جماعة أفضل من الانفراد ، وبه قال جماهير العلماء ، حتى أن علي بن موسى القمي ادعى فيه الإجماع ، وقال ربيعة ومالك وأبو يوسف وآخرون : " الانفراد بها أفضل دليلنا إجماع الصحابة على فعلها جماعة كما سبق .

التالي السابق


الخدمات العلمية