صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( وإن رأى هرة أكلت نجاسة ثم وردت على ماء قليل فشربت منه فيه ثلاثة أوجه ( أحدها ) أنها تنجسه لأنا تيقنا نجاسة فمها ( والثاني ) أنها إن غابت ثم رجعت لم تنجسه لأنه يجوز أن تكون قد وردت على ماء فطهر فمها فلا ينجس ما تيقنا طهارته بالشك ( والثالث ) لا ينجس بكل حال لأنه لا يمكن الاحتراز منها فعفي عنها ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم { إنها من الطوافين عليكم والطوافات } ) .


( الشرح ) هذه الأوجه مشهورة ودلائلها كما ذكره المصنف وأصحها عند الجمهور الوجه الثاني ، وهو أنها إن غابت وأمكن ورودها على ماء كثير بحيث إذا ولغت فيه طهر فمها ثم رجعت فولغت لم ينجس ما ولغت فيه ، وإن ولغت قبل أن تغيب أو بعد أن غابت ولم يمكن ورودها على الماء الموصوف نجسته ، ودليل هذا الصحيح أنها إذا غابت ثم ولغت فقد تيقنا طهارة الماء وشككنا في نجاسة فمها ، فلا ينجس الماء المتيقن بالشك ، وإذا لم تغب وولغت فهي نجاسة متيقنة . وليس في الحديث أن الهرة كانت نجسة الفم وما يستدل به القائل بالطهارة مطلقا من عسر الاحتراز عنها لا يسلم ، فإن العسر إنما هو في الاحتراز من مطلق الولوغ ، لا من ولوغ بعد تيقن النجاسة ، وحكي عن المصنف أنه صحح أنها لا تنجسه بحال ، وهذا هو الأحسن عند الغزالي في الوجيز ، ودليله الحديث وعموم الحاجة وعسر الاحتراز وقد قال الله تعالى : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } وفي تنجيس هذا حرج ، وقد علم أن بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بحضرته ماء كثير يطهر فمها ، ولم يعلل صلى الله عليه وسلم بورودها الماء بل بعسر الاحتراز . وخالف صاحب الحاوي الأصحاب فقال : إن ولغت قبل أن تغيب نجسته [ ص: 223 ] وإن غابت فوجهان الأصح تنجسه . ذكره في مسألة اشتراط الماء في إزالة النجاسة ، والمشهور تصحيحه ما قدمناه من الفرق بين غيبتها وعدمها ، وكذا نقل الرافعي عن معظم الأصحاب تصحيحه . ثم صورة المسألة إذا تيقنا نجاسة فمها بأكل نجاسة أو ولوغها في ماء نجس أو نجاسة فمها بدم أو غيره ، ولا فرق في هذا كله بين ولوغها في ماء ناقص عن قلتين أو مائع آخر والله أعلم .

( فرع ) وأما الحديث المذكور فصحيح رواه الأئمة الأعلام مالك في الموطأ والشافعي في مواضع ، وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم ، وهذا الحديث عمدة مذهبنا في طهارة سؤر السباع وسائر الحيوان ، غير الكلب والخنزير وفرع أحدهما ، فأنا أنقله بلفظه واختلاف طرقه لشدة الحاجة إلى تحقيقه . فلفظ رواية مالك عن كبشة بنت كعب بن مالك وكانت تحت أبي قتادة قالت : " دخل أبو قتادة فسكبت له وضوءا فجاءت هرة لتشرب منه فأصغى لها الإناء حتى شربت قالت كبشة : فرآني أنظر إليه ، فقال : أتعجبين يا ابنة أخي ؟ قلت : نعم فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { إنها ليست بنجس إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات } هذا لفظ رواية مالك ورواية الترمذي مثلها بحروفها إلا أن رواية مالك { أو الطوافات } بأو " ورواية الترمذي { إنما هي من الطوافين والطوافات } بالواو وبحذف عليكم . وفي رواية الدارمي وأبي داود عن كبشة بنت كعب بن مالك وكانت تحت ابن أبي قتادة ، ثم في رواية أبي داود { والطوافات } وفي رواية الدارمي { أو الطوافات } بأو وفي رواية ابن ماجه عن كبشة بنت كعب وكانت تحت بعض ولد أبي قتادة وفيها { والطوافات } بالواو ، ورواه الربيع عن الشافعي عن مالك بالإسناد . وقال في كبشة : وكانت تحت ابن أبي قتادة ، أو أبي قتادة ، قال البيهقي : الشك من الربيع ، وقال فيه أو الطوافات بأو . وقال [ ص: 224 ] البيهقي : ورواه الربيع في موضع آخر عن الشافعي ، وقال : وكانت تحت ابن أبي قتادة ، ولم يشك ، ورواه الشافعي بإسناده عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله أو مثل معناه . وروى أبو داود وابن ماجه هذا الحديث أيضا من رواية عائشة وفيه زيادة قالت عائشة { : وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بفضلها } قال الترمذي : حديث أبي قتادة حسن صحيح قال : وهو أحسن شيء في الباب . قال البيهقي : إسناده صحيح وعليه الاعتماد وأما لفظة { أو الطوافات } فرويت بأو وبالواو كما ذكرناها ، قال صاحب مطالع الأنوار : ويحتمل " أو " أن تكون للشك ويحتمل أن تكون للتقسيم ، ويكون ذكر الصنفين من الذكور والإناث . وهذا الذي قاله محتمل ، وهو الأظهر لأنه للنوعين كما جاء في روايات الواو ، قال أهل اللغة : الطوافون الخدم والمماليك . وقيل : هم الذين يخدمون برفق وعناية . ومعنى الحديث أن الطوافين من الخدم والصغار الذين سقط في حقهم الحجاب والاستئذان في غير الأوقات الثلاث التي ذكرها الله تعالى إنما سقط في حقهم دون غيرهم للضرورة وكثرة مداخلتهم بخلاف الأحرار البالغين ، فكذا يعفى عن الهرة للحاجة ، وقد أشار إلى نحو هذا المعنى أبو بكر بن العربي في كتابه ( عارضة الأحوذي في شرح الترمذي )

وذكر أبو سليمان الخطابي أن هذا الحديث يتأول على وجهين : أحدهما أنه شبهها بخدم البيت ومن يطوف على أهله للخدمة ( والثاني ) شبهها بمن يطوف للحاجة والمسألة ومعناه الأجر في مواساتها كالأجر في مواساة من يطوف للحاجة والمسألة ، وهذا التأويل الثاني قد يأباه سياق قوله صلى الله عليه وسلم { إنها ليست بنجس } والله أعلم .

( فرع ) : سؤر الحيوان مهموز ، وهو ما بقي في الإناء بعد شربه أو أكله ، ومراد الفقهاء بقولهم سؤر الحيوان طاهر أو نجس : لعابه ورطوبة [ ص: 225 ] فمه ، ومذهبنا أن سؤر الهرة طاهر غير مكروه وكذا سؤر جميع الحيوانات من الخيل والبغال والحمير والسباع والفأرة والحيات وسام أبرص وسائر الحيوان المأكول وغير المأكول ، فسؤر الجميع وعرقه طاهر غير مكروه إلا الكلب والخنزير وفرع أحدهما ، وحكى صاحب الحاوي مثل مذهبنا عن عمر بن الخطاب وعلي وأبي هريرة والحسن البصري وعطاء والقاسم بن محمد وكره أبو حنيفة وابن أبي ليلى سؤر الهرة وكذا كرهه ابن عمر ، وقال ابن المسيب وابن سيرين : يغسل الإناء من ولوغه مرة ، وعن طاوس قال : يغسل سبعا ، وقال جمهور العلماء : لا يكره كقولنا .

وقال أبو حنيفة : الحيوان أربعة أقسام ( أحدها ) مأكول كالبقر والغنم فسؤره طاهر ( والثاني ) سباع الدواب كالأسد والذئب فهي نجسة ( والثالث ) سباع الطير كالبازي والصقر فهي طاهرة السؤر إلا أنه يكره استعماله وكذا الهر ( الرابع ) البغل والحمار مشكوك في سؤرهما لا يقطع بطهارته ولا بنجاسته ولا يجوز الوضوء به ، واختلف قوله في سؤر الفرس والبرذون . واحتج من منع الطهارة بسؤر السباع بحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الماء يكون بالفلاة وما ينوبه من السباع والدواب فقال { : إذا كان الماء قلتين لم ينجس } قالوا : فهذا يدل على أن لورود السباع تأثيرا في تنجيس الماء ، ولأنه حيوان لبنه نجس فكذا سؤره كالكلب . واحتج أصحابنا بحديث أبي قتادة في الهرة ليست بنجس وهو صحيح كما سبق بيانه ، قال البيهقي وغيره من أصحابنا : هذا الحديث هو عمدة المذهب ، واحتجوا برواية الشافعي عن إبراهيم بن محمد وإبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة عن داود بن الحصين عن أبيه عن جابر { أن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 226 ] قيل له : أنتوضأ بما أفضلت الحمر ؟ قال . نعم وبما أفضلت السباع } وهذا الحديث ضعيف لأن الإبراهيمين ضعيفان جدا عند أهل الحديث لا يحتج بهما .

وإنما ذكرت هذا الحديث وإن كان ضعيفا لكونه مشهورا في كتب الأصحاب ، وربما اعتمده بعضهم فنبهت عليه ولم يذكره الشافعي والمحققون من أصحابنا معتمدين عليه بل تقوية واعتضادا . واعتمدوا حديث أبي قتادة وقد قال البيهقي في حديث الإبراهيمين : إذا ضمت أسانيده بعضها إلى بعض أخذت قوة . ومما احتج أصحابنا به ما رواه مالك في الموطأ عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج في ركب فيه عمرو بن العاص حتى وردوا حوضا فقال عمرو بن العاص : يا صاحب الحوض هل ترد حوضك السباع ؟ فقال عمر بن الخطاب " يا صاحب الحوض لا تخبره فإنما نرد على السباع وترد علينا " . وموضع الدلالة أن عمر قال : " نرد على السباع وترد علينا " ولم يخالفه عمرو ولا غيره من الصحابة رضي الله عنهم وهذا الأثر إسناده صحيح إلى يحيى بن عبد الرحمن لكنه مرسل منقطع ، فإن يحيى وإن كان ثقة فلم يدرك عمر بل ولد في خلافة عثمان هذا هو الصواب قال يحيى بن معين : يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن عمر باطل ، وكذا قاله غير ابن معين إلا أن هذا المرسل له شواهد تقويه والمرسل عند الشافعي إذا اعتضد احتج به كما سبق بيانه في مقدمة الكتاب ، وهو حجة عند أبي حنيفة مطلقا فيحتج به عليهم واحتج أصحابنا من القياس بأنه حيوان يجوز بيعه فكان سؤره طاهرا كالشاة . فإن قال المخالف : لا حجة لكم في هذه الأحاديث لأنها محمولة على ماء كثير فالجواب أن الحديث عام فلا يخص إلا بدليل . فإن قالوا : هذا الخبر ورد قبل تحريم لحوم السباع ، فالجواب من أوجه أجاب بها الشيخ أبو حامد وغيره ( أحدها ) هذا غلط فلم تكن السباع في وقت حلالا ، وقائل هذا يدعي نسخا والأصل عدمه ( الثاني ) هذا فاسد [ ص: 227 ] لا يسألون عن سؤره وهو مأكول اللحم ، فإنه لا فرق حينئذ بين السباع وغيرها ( الثالث ) لو صح هذا وكان لحمها حلالا ثم حرم ، بقي السؤر على ما كان من الطهارة حتى يرد دليل تنجيسه .

وأما الجواب عما احتجوا به من الخبر فمن أوجه ( أحدها ) أنه تمسك بدليل الخطاب وهم لا يقولون به ( الثاني ) أن السؤال كان عن الماء الذي ترده الدواب والسباع فتشرب منه وتبول فيه غالبا ( الثالث ) أن الكلاب كانت من جملة ما يرد فالتنجيس بسببها ، ويدل على دخول الكلاب في ذلك أوجه ( أحدها ) أنه جاء في رواية " الدواب والسباع والكلاب " ( الثاني ) أنها من جملة السباع ( الثالث ) أنها داخلة في الدواب وأما قياسهم على الكلب فهو قياس في مقابلة النص فلا يقبل ولأن الكلب ورد الشرع بتغليظ نجاسته وغسلها سبعا للتنفير منه ، وأن الملائكة عليهم السلام لا تدخل بيتا فيه كلب ، وليس غيره في معناه فلا يصح قياسه عليه ، هذا ما يتعلق بسؤر السباع جملة وأما الهرة فاستدل أصحاب أبي حنيفة رحمه الله لكراهة سؤرها بحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { يغسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا ومن ولوغ الهرة مرة } ولأنها لا تجتنب النجاسة فكره سؤرها واحتج أصحابنا بحديث أبي قتادة وحديث عائشة وغير ذلك مما قدمناه واضحا ، ولأنه حيوان يجوز اقتناؤه لغير حاجة فكان سؤره طاهرا غير مكروه كالشاة .

وأما الجواب عن حديث أبي هريرة فهو أن قوله : { من ولوغ الهرة مرة } ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم بل هو مدرج في الحديث من كلام أبي هريرة موقوفا عليه ، كذا قاله الحفاظ ، وقد بين البيهقي وغيره ذلك ونقلوا دلائله وكلام الحفاظ فيه ، قال البيهقي : وروي عن أبي صالح عن أبي هريرة يغسل الإناء من الهرة كما يغسل من الكلب ، وليس بمحفوظ ، وعن عطاء عن أبي هريرة وهو خطأ من ليث بن أبي سليم ، إنما رواه ابن جريج وغيره عن عطاء من قوله ، قال : وروي عن ابن عمر كراهة الوضوء بفضل الهرة . [ ص: 228 ] قال الشافعي رحمه الله : الهرة ليست بنجس فنتوضأ بفضلها ونكتفي بالخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يكون في أحد قال خلاف قول النبي صلى الله عليه وسلم حجة ، قال أصحابنا : ولو صح حديث أبي هريرة لم يكن فيه دليل لأنه متروك الظاهر بالاتفاق ، فإن ظاهره يقتضي وجوب غسل الإناء من ولوغ الهرة ولا يجب ذلك بالإجماع . قال البيهقي : وزعم الطحاوي أن حديث أبي هريرة صحيح ولم يعلم أن الثقة من أصحابه ميزه من الحديث وجعله من قول أبي هريرة . وأما قولهم : لا تجتنب النجاسة فمنتقض باليهودي وشارب الخمر فإنه لا يكره سؤرهما والله أعلم

التالي السابق


الخدمات العلمية