صفحة جزء
[ ص: 8 ] قال المصنف - رحمه الله تعالى : ( وإن تكلم في صلاته أو قهقه فيها أو شهق بالبكاء وهو ذاكر للصلاة عالم بالتحريم بطلت صلاته ; لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { الكلام ينقض الصلاة ولا ينقض الوضوء } " وروي " { الضحك ينقض الصلاة ولا ينقض الوضوء } " وإن فعل ذلك ، وهو ناس أنه في الصلاة ، ولم يطل لم تبطل صلاته ; لما روى أبو هريرة - رضي الله عنه - : " { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من اثنتين فقال له ذو اليدين : أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أصدق ذو اليدين ؟ فقالوا : نعم فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى اثنتين أخريين ثم سلم } " وإن فعل ذلك وهو جاهل بالتحريم ، ولم يطل لم تبطل صلاته ; لما روى معاوية بن الحكم رضي الله عنه قال : { بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة إذ عطس رجل من القوم فقلت : - يرحمك الله - فحدقني القوم بأبصارهم فقلت : وا ثكل أمياه ما بالكم تنظرون إلي ؟ فضرب القوم بأيديهم على أفخاذهم فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاني - بأبي وأمي هو ما رأيت معلما أحسن تعليما منه والله ما ضربني ولا كهرني - قال إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن } .

فإن سبق لسانه من غير قصد إلى الكلام أو غلبه الضحك [ ولم يطل ] لم تبطل ; لأنه غير مفرط فيه فهو كالناسي والجاهل .

وإن أطال الكلام وهو ناس أو جاهل بالتحريم أو مغلوب ففيه وجهان المنصوص في البويطي : إن صلاته تبطل ; لأن كلام الناسي والجاهل والمغلوب كالعمل القليل إذا كثر أبطل الصلاة فكذلك الكلام ، ومن أصحابنا من قال : لا تبطل كأكل الناسي لا يبطل الصوم قل أو كثر ، وإن تنحنح أو تنفس أو نفخ أو بكى أو تبسم عامدا ، ولم يبن منه حرفان لم تبطل صلاته لما روى عبد الله بن عمر قال : { كسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم فلما سجد جعل ينفخ في الأرض ، ويبكي وهو ساجد في الركعة الثانية فلما قضى صلاته قال : والذي نفسي بيده لقد عرضت علي النار حتى إني لأطفئها خشية أن تغشاكم } ، ولأن ما لا يتبين منه حرفان ليس بكلام فلا تبطل به الصلاة )


( الشرح ) : أما الحديث الأول فضعيف سبق بيانه وتضعيفه في باب ما ينقض الوضوء ويغني عنه ما سنذكره من الأحاديث الصحيحة في فرع مذاهب العلماء إن شاء الله - تعالى .

أما حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين فرواه البخاري ومسلم ، وأما حديث معاوية بن الحكم فرواه مسلم ، وأما [ ص: 9 ] حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في البكاء في الصلاة فرواه النسائي بلفظه وأبو داود بنحوه وفي إسناده ضعف ، وفي الصحيح ما يغني عنه ، وقوله : انصرف من اثنتين أي سلم في الصلاة الرباعية من ركعتين ناسيا ، وقوله : ذو اليدين قيل له ذلك ; لأنه كان في يديه طول ثبت ذلك في الصحيح واسمه الخرباق بن عمرو بكسر الخاء المعجمة وإسكان الراء وبالباء الموحدة ثم ألف ثم قاف .

وقوله : أقصرت ؟ هو بضم القاف وكسر الصاد وروي بفتح القاف وضم الصاد وكلاهما صحيح .

وقوله : بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أي بين أوقات كوني معه ، وقد سبق بسط شرح هذه اللفظة في باب صفة الصلاة في فصل القراءة .

قوله ( فحدقني القوم بأبصارهم ) هكذا وقع في المهذب حدقني بفتح الحاء والدال المهملتين ، والدال مخففة وكذا رويناه في مسند أبي عوانة وسنن البيهقي والذي في صحيح مسلم وسنن أبي داود وغيرهما فرماني القوم بأبصارهم ، وهذا ظاهر .

وأما رواية ( حدقني ) فمشكلة ; لأنه لا يعرف في هذه الكتب المشهورة في اللغة حدق بمعنى نظر ونحوه إنما قالوا : حدق بالتشديد إذا نظر نظرا شديدا لكنه لازم غير متعد يقال : حدق إليه ولا يقال : حدقه ، وزعم جماعة من المتأخرين أن معنى حدقني رموني بأحداقهم وإنما يعرف حدقني بمعنى أصاب حدقتي .

وقال شيخنا أبو عبد الله بن مالك إمام العربية في زماننا بلا مدافعة : يصح حدقني مخففا بمعنى أصابني بحدقته ، كقولهم : عنته أصبته بالعين ، وركبه البعير أصابه بركبته ، قوله : وا ثكل أمياه هو بكسر الميم وبعدها ياء ، والثكل بضم الثاء المثلثة وإسكان الكاف وبفتحهما لغتان كالنجل والنجل حكاهما الجوهري وغيره ، وهو فقدان المرأة ولدها ، وامرأة ثكلى إذا فقدته وقوله ( بأبي وأمي ) أي أفديه بهما قوله ( ما كهرني ) أي ما انتهرني ، وفي هذا الحديث وحديث ذي اليدين جمل من الأحكام والقواعد ومهمات الفوائد ، وقد ذكرتها في شرح صحيح مسلم ( وأما أحكام الفصل ) فقال أصحابنا - رحمهم الله - : للمتكلم في الصلاة حالان ( إحداهما ) : أن يكون غير معذور فينظر إن نطق بحرف واحد لم تبطل صلاته ; لأنه ليس بكلام إلا أن يكون الحرف مفهما كقوله : ق أو ، ش أو ع [ ص: 10 ] بكسرهن فإنه تبطل صلاته بلا خلاف ; لأنه نطق بمفهم فأشبه الحروف ، وإن نطق بحرفين بطلت بلا خلاف ، سواء أفهم أم لا ; لأن الكلام يقع على الفهم وغيره .

هذا مذهب اللغويين والفقهاء والأصوليين ، وإن كان النحويون يقولون : لا يكون إلا مفهما .

ولو نطق بحرف ومدة بعده فثلاثة أوجه حكاها الرافعي " أصحها " : تبطل ; لأنه كحرفين " الثاني " : لا لأنه حرف " الثالث " قاله إمام الحرمين : إن أتبعه بصوت غفل وهو الذي لا تقطع فيه بحيث لا يقع على صورة المد لم تبطل ، وإن أتبعه بحقيقة المد بطلت قال : لأن المد يكون ألفا أو واوا أو ياء وهي وإن كانت إشباعا للحركات الثلاث فهي معدودة حروفا ، وأما الضحك والبكاء والأنين والتأوه والنفخ ونحوها فإن بان منه حرفان بطلت صلاته وإلا فلا ، وسواء بكى للدنيا أو للآخرة .

وأما التنحنح فحاصل المنقول فيه ثلاثة أوجه : الصحيح الذي قطع به المصنف والأكثرون : إن بان منه حرفان بطلت صلاته ، وإلا فلا .

( والثاني ) : لا تبطل - وإن بان منه حرفان قال الرافعي : وحكي هذا عن نص الشافعي ( والثالث ) : إن كان فمه مطبقا لم تبطل مطلقا وإلا فإن بان حرفان بطلت وإلا فلا .

وبهذا قطع المتولي وحيث أبطلنا بالتنحنح فهو إن كان مختارا بلا حاجة فإن كان مغلوبا لم تبطل قطعا ، ولو تعذرت قراءة الفاتحة إلا بالتنحنح فيتنحنح ولا يضره ; لأنه معذور ، وإن أمكنته القراءة وتعذر الجهر إلا بالتنحنح فليس بعذر على أصح الوجهين ; لأنه ليس بواجب ، ولو تنحنح إمامه وظهر منه حرفان فوجهان حكاهما القاضي حسين والمتولي والبغوي وغيرهم ( أحدهما ) : يلزمه مفارقته ; لأنه فعل ما يبطل الصلاة ظاهرا ( وأصحهما ) : أن له الدوام على متابعته ; لأن الأصل بقاء صلاته ( والظاهر ) : أنه معذور والله أعلم .

وقد روي عن علي رضي الله عنه قال : { كانت لي ساعة من النبي صلى الله عليه وسلم آتيه فيها فإن وجدته يصلي تنحنح فدخلت } " رواه النسائي وابن ماجه والبيهقي وهو حديث ضعيف لضعف راويه واضطراب إسناده ومتنه ضعفه البيهقي وغيره وضعفه ظاهر والله أعلم .

[ ص: 11 ] الحال الثاني ) : في الكلام بعذر فمن سبق لسانه إلى الكلام بغير قصد أو غلبه الضحك أو العطاس أو السعال وبان منه حرفان أو تكلم ناسيا كونه في الصلاة أو جاهلا تحريم الكلام فيها - فإن كان ذلك يسيرا - لم تبطل صلاته بلا خلاف عندنا .

وإن كان كثيرا فوجهان مشهوران ( الصحيح ) منهما باتفاق الأصحاب : تبطل صلاته ، وهو المنصوص في البويطي كما ذكر المصنف ، وهو ظاهر نصه أيضا في غير البويطي ( والثاني ) : لا تبطل ، وهو قول أبي إسحاق المروزي ، والرجوع في القلة والكثرة إلى العرف ، هذا هو الصحيح المنصوص في الأم وبه قطع الجمهور .

وحكى القاضي أبو الطيب فيه قولا آخر عن نصه في الإملاء أن حد طول الفصل هنا أن يمضي قدر ركعة ووجهان عن ابن أبي هريرة أنه قدر الصلاة .

وأما قياس المصنف عدم البطلان على أكل الصائم كثيرا فهو جار على طريقته وطريقة غيره من العراقيين في أن أكل الناسي لا يفطره وإن كثر وجها واحدا وعند الخراسانيين وجهان سنوضحهما في كتاب الصيام إن شاء الله - تعالى .

قال أصحابنا : وإنما يكون الجهل بتحريم الكلام عذرا في قريب العهد بالإسلام فأما من طال عهده في الإسلام فتبطل به صلاته لتقصيره في التعلم .

ولو علم تحريم الكلام ، ولم يعلم كونه مبطلا للصلاة بطلت بلا خلاف لتقصيره وعصيانه ، كما لو علم تحريم القتل والزنا والشرب والسرقة والقذف وأشباهها وجهل العقوبة فإنه يعاقب ولا يعذر بلا خلاف ، ولو جهل كون التنحنح مبطلا ، وهو طويل عهد بالإسلام ، فهل يعذر ؟ وجهان ( أحدهما ) : لا لتقصيره في التعلم ( وأصحهما ) : يعذر ; لأنه يخفى على العوام مع علمهم بتحريم الكلام ، ولو علم أن جنس الكلام محرم ولم يعلم أن ما أتى به محرم فوجهان الأصح : يعذر ولا تبطل ، أما إذا أكره على الكلام ففي بطلان صلاته قولان حكاهما الرافعي أصحهما - وبه قطع البغوي - : تبطل لندوره ، وكما لو أكره أن يصلي بلا وضوء أو قاعدا أو إلى غير القبلة فإنه يجب الإعادة قطعا لندوره ، قال البغوي : وكذا لو أكره على فعل يناقض الصلاة بطلت ; لأنه نادر .

التالي السابق


الخدمات العلمية